الذهب يستقر بعد تثبيت المركزي الأمريكي للفائدة    سماء غائمة بالجوف والحدود الشمالية وأمطار غزيرة على معظم المناطق    مبادرة لرعاية المواهب الشابة وتعزيز صناعة السينما المحلية    الوسط الثقافي ينعي د.الصمعان    خادم الحرمين وولي العهد يعزيان رئيس الإمارات في الشيخ طحنون آل نهيان    برئاسة وزير الدفاع.. "الجيومكانية" تستعرض خططها    الذهب يستعيد بريقه عالمياً    تيليس: ينتظرنا نهائي صعب أمام الهلال    محافظ سراة عبيدة يكرم المشاركين والمشاركات ب أجاويد2    حظر استخدام الحيوانات المهددة بالانقراض في التجارب    سعود عبدالحميد «تخصص جديد» في شباك العميد    الهلال يواجه النصر.. والاتحاد يلاقي أحد    رغم المتغيرات العالمية.. الاقتصاد الوطني يشهد نمواً وتنوعاً متسارعاً    اَلسِّيَاسَاتُ اَلتَّعْلِيمِيَّةُ.. إِعَادَةُ اَلنَّظَرِ وَأَهَمِّيَّةُ اَلتَّطْوِيرِ    يجيب عن التساؤلات والملاحظات.. وزير التعليم تحت قبة «الشورى»    متحدث التعليم ل«عكاظ»: علّقنا الدراسة.. «الحساب» ينفي !    أشعة الشمس في بريطانيا خضراء.. ما القصة ؟    هذا هو شكل القرش قبل 93 مليون سنة !    رئيس الوزراء الباكستاني يثمِّن علاقات بلاده مع المملكة    جميل ولكن..    السعودية تتموضع على قمة مسابقات الأولمبياد العلمية ب 19 ميدالية منذ 2020    أمي السبعينية في ذكرى ميلادها    هكذا تكون التربية    ما أصبر هؤلاء    «العيسى»: بيان «كبار العلماء» يعالج سلوكيات فردية مؤسفة    زيادة لياقة القلب.. تقلل خطر الوفاة    «المظهر.. التزامات العمل.. مستقبل الأسرة والوزن» أكثر مجالات القلق    «عندي أَرَق» يا دكتور !    استشهاد ستة فلسطينيين في غارات إسرائيلية على وسط قطاع غزة    33 مليار ريال مصروفات المنافع التأمينية    لؤي ناظر يعلن عودته لرئاسة الاتحاد    «سلمان للإغاثة» ينتزع 797 لغماً عبر مشروع «مسام» في اليمن خلال أسبوع    وزير الصحة يلتقي المرشحة لمنصب المديرة العامة للمنظمة العالمية للصحة الحيوانيّة    النصر يتغلب على الخليج بثلاثية ويطير لمقابلة الهلال في نهائي كأس الملك    مدرب تشيلسي يتوقع مواجهة عاطفية أمام فريقه السابق توتنهام    طالبة سعودية تتوّج ضمن أفضل 3 مميزين في مسابقة آبل العالمية    بمناسبة حصولها على جائزة "بروجكت".. محافظ جدة يشيد ببرامج جامعة الملك عبدالعزيز    تعزيز الصداقة البرلمانية السعودية – التركية    إنستغرام تشعل المنافسة ب «الورقة الصغيرة»    في الجولة ال 30 من دوري روشن.. الهلال والنصر يواجهان التعاون والوحدة    دورتموند يهزم سان جيرمان بهدف في ذهاب قبل نهائي «أبطال أوروبا»    العثور على قطة في طرد ل«أمازون»    أشاد بدعم القيادة للتكافل والسلام.. أمير نجران يلتقي وفد الهلال الأحمر و"عطايا الخير"    تنمية مستدامة    تحت رعاية الأمير عبدالعزيز بن سعود.. حرس الحدود يدشن بوابة" زاول"    اطلع على المهام الأمنية والإنسانية.. نائب أمير مكة المكرمة يزور مركز العمليات الموحد    الفريق اليحيى يتفقد جوازات مطار نيوم    أمير الشرقية يثمن جهود «سند»    أغلفة الكتب الخضراء الأثرية.. قاتلة    مختصون: التوازن بين الضغوط والرفاهية يجنب«الاحتراق الوظيفي»    مفوض الإفتاء بالمدينة يحذر من «التعصب»    أمن الدولة: الأوطان تُسلب بخطابات الخديعة والمكر    مناقشة بدائل العقوبات السالبة للحرية    فرسان تبتهج بالحريد    التوسع في مدن التعلم ومحو الأميات    نائب أمير مكة يقف على غرفة المتابعة الأمنية لمحافظات المنطقة والمشاعر    سمو محافظ الخرج يكرم المعلمة الدليمي بمناسبة فوزها بجائزة الأمير فيصل بن بندر للتميز والإبداع في دورتها الثانية 1445ه    وزير الدفاع يرعى حفل تخريج الدفعة "37 بحرية"    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



قنابل المستقبل تكاليفها أقل وفي متناول الجميع . واشنطن ترفض التوقيع على اتفاق حظر الأسلحة البيولوجية فيصلها الهجوم عبر البريد
نشر في الحياة يوم 01 - 12 - 2001

هل يعقل ان يأتي يوم نترحّم فيه على حروب التاريخ "السويّة" التي غمرت البشرية ب"الرأفة" فأبادت الملايين إبادة "طبيعية" لا خبث فيها ولا رياء؟ هل يعقل ان يأتي يوم نطلب فيه الصفح من روح هتلر "الطاهرة" لأننا لم نغفر له "هفواته" ولم ننصفه فأطلقنا عليه نعوتاً مهينة مع انه اختار أن تكون حروبه "شريفة" ورفض حتى الكلام عن امكان خوضه حرباً بيولوجية ضد أعدائه؟
هذا القرن الجديد يعد البشرية بصور "جحيمية - بيولوجية" مروعة لم ترق اليها بعد مخيّلة كائن حيّ، وكأن تلامذة الشيطان انطلقوا يمهدون الطريق ليوم القيامة: من اليابان أولاً، حيث تعمّد شيرو إيستي، وهو ضابط في الجيش و"باحث طبي"، اصابة مرضى صينيين بالطاعون وأجرى عليهم عمليات تشريح حيّة بهدف معاينة تأثير الوباء على أعضائهم. كان ذلك في العام 1930. أما في الاتحاد السوفياتي، فأطلق يوري كالينين في السبعينات والثمانينات من القرن المنصرم، برنامج Biopreparat السرّي الضخم. وعلى رغم صفة برنامجه اللاشرعية، نجح كالينين في تجنيد فريق عمل مؤلف من 60 ألف باحث، أوكل اليهم مهمة تصنيع انواع شتى من الأمراض والأوبئة منها: الجمرة الخبيثة، الطاعون، الجدري، الكوليرا، الحمّى المتموّجة، السمّ البخصي، حمّى الإيبولا وغيرها... وفي اليابان أيضاً، ومنذ وقت ليس ببعيد، خططت طائفة "أوم" لنشر عصيات الجمرة الخبيثة والبخص في أحد أنفاق طوكيو، غير ان منفّذ العملية شوكو اوساهارا، وهو من أتباع الطائفة المذكورة، اكتفى بنشر بديل موقت كان عبارة عن غاز سام يسبب تلفاً في الأعصاب.
ثم جاء دور صدام حسين و"صواريخه الجاهزة لإبادة اليهود بالجمرة الخبيثة"، بحسب اعتراف رئيس وزراء حكومته طارق عزيز. ومع أن صدام لم يفلح في تنفيذ مخططه، غير أنه لم يتوان عن تسميم معارضيه في الجنوب العراقي بمادة أفلاتوكسين، وهي الوسيلة الأنجع للابادة الجماعية فكل من يشرب، ولو كمية قليلة من المياه المسممة بالمادة المذكورة، يصاب بسرطان الكبد ويلاقي حتفه بعد خمس سنوات.
هؤلاء "القادة" مهدوا الطريق، وأتباعهم يدأبون اليوم في أكثر من 13 بلداً في العالم، على تشغيل عبقريتهم الجهنمية، وكأنما يسكنهم هاجس تحويل الأرض كابوساً مرعباً. وهذا الهاجس بات قوياً وراسخاً لدرجة ان الهجوم الأخير على الولايات المتحدة شكّل مفاجأة حتى للذين تنبأوا بضربة مماثلة. فالمحللون الاستراتيجيون في الغرب توقعوا ان تنجح شبكات الارهاب العالمية يوماً في تسديد ضربة بمثل هذه الضخامة، لكنهم حسبوا ان اختطاف الطائرات موضة لم تعد رائجة وان الاعتداء سيتم بواسطة حقيبة نووية أو بيولوجية على الأرجح تنفجر في احدى المدن الاميركية.
الرعب الكبير الذي تثيره الأسلحة البيولوجية وصل ببعض المحللين السياسيين الى الترحّم على زمن الرعب النووي. صحيح ان الانفجارات النووية أحالت ضحاياها الى رماد، لكنها أبدت "رحمة" ازاء الناس فأردتهم على الفور، وبطريقة صريحة ومباشرة...
أما في حال تعرّض الانسان لاعتداء بيولوجي، فمهما بلغت سعة اطلاعه، لن يفقه شيئاً عن الجسيمات التي دخلت رئتيه، ولن يعلم بوجودها إلا بعد اصابته بالمرض، علماً أن تلك الجسيمات لا يزيد قطر الواحدة منها على بضعة ميكرونات الميكرون جزء من ألف من الميلليمتر. وكذلك لن يعرف كيف سيموت، فالأمر يتوقف على نوع العامل المرضي الذي استنشقته، وله وحده القرار بأن يميته إما اختناقاً وإما نزفاً حاداً قد يستغرق أياماً أو أسابيع. وفي حال اصابتك بحمّى ماربورغ أو حمّى إيبولا أو غيرهما من الفيروسات النزفية، تأكد انك ستعرف طعم الجحيم لأنك ستعاني أعراضاً فظيعة تعجز الكلمات عن وصفها...
هذه الأمثلة القليلة، وهي غيض من فيض، تدفع اليوم بمسألة الأسلحة البيولوجية الى واجهة الاهتمام العالمي أكثر من أي وقت مضى، مع الاشارة الى ثلاث محطات بارزة شهدتها فترة التسعينات وشكلت صدمات تمهيدية، إذا جاز التعبير، لحال الرعب الراهنة:
أولاً، الكشف عن البرنامج السوفياتي الضخم الذي نجح، لسنوات طويلة، في مواصلة أبحاثه بسرية تامة ومن دون أن يقيم اي اعتبار لاتفاق الأسلحة البيولوجية المبرمة عام 1972.
ثانياً، اعلان طائفة "أوم" عن نيتها تصنيع عوامل بيولوجية. وأخيراً، الكشف عن مسعى صدام حسين لتطوير فاعلية اسلحته البيولوجية.
أما الصدمة الأخيرة، فسُجلت خلال الصيف المنصرم في جنيف، حين رفض الاميركيون التوقيع على نص بروتوكول يقضي باطلاق يد اتفاق الاسلحة البيولوجية في التحقيق والتقصي عن مدى امتثال دول العالم لبنود الاتفاق. وتحجج الأميركيون بعدم جدوى البروتوكول المذكور لأن أياً من الدول لن توافق على كشف اسرارها العلمية والصناعية لمجموعة من "الغرباء". وهكذا، ذهبت ادراج الريح عشرة أعوام من المحاولات الديبلوماسية والجهود الحثيثة لتفادي الخطر المحدق بالبشرية وتداركه قبل فوات الأوان. ومنذ 11 أيلول سبتمبر لم تظهر أي دلائل تشير الى أن الاميركيين تراجعوا عن موقفهم او انهم على استعداد لاعادة النظر فيه على الأقل.
خطر الأسلحة
خطر الأسلحة البيولوجية لن يتوقف قطعاً عند حدوده الراهنة. فالأبحاث العلمية الحديثة والاكتشافات المذهلة التي حققها العلماء أخيراً في علم الجينات، تفتح آفاقاً جديدة لمصنّعي الأسلحة البيولوجية وتتيح لهم سبلاً جهنمية لتطويرها. ويحكى، في هذا السياق، عن امكان ابتكار حشرات جرثومية افتراضية، هي عبارة عن متعضيات اصطناعية يتم تركيبها من متعضيات طبيعية.
وكان الرّوس سباقين في هذا المضمار عندما ابتدعوا تركيبة شيطانية يعجز العقل عن تصور فاعليتها، وهي عبارة عن مزيج مرعب من فيروس مرض الجدري وفيروس حمّى إيبولا. ويحكى أيضاً عن إمكان تصنيع متعضيات ذات قدرة على مقاومة الترياق أياً كان نوعه، وكذلك عن إمكان تصنيع أمراض مطورة جينياً فلا تصيب الا مجموعات عرقية معينة أو أجناساً حية معينة كالحيوانات. وللذين يؤثرون سبلاً أكثر "انسانية" للابادة الجماعية، سيتاح لهم في المستقبل القريب، تصنيع عقاقير خاصة لإضعاف الجيوش والشعوب عبر اصابتهم بالاحباط ودفعهم للاستسلام والاذعان للأعداء من دون أي رغبة في المقاومة.
ويؤكد المراقبون ان الأسلحة البيولوجية ستكون أسلحة المستقبل من دون منازع. فالقنابل النووية باهظة التكاليف ويستحيل تصنيعها واختبارها في الخفاء. أما القنابل البيولوجية فتكاليفها أقل بكثير، خصوصاً أن التكنولوجيا باتت في متناول الجميع، اضافة الى امكان تصنيعها تحت غطاء الأبحاث الصيدلية.
يقول ريتشارد باتلر، المسؤول عن الفريق التابع للجنة الأمم المتحدة الخاصة في العراق، والذي كشف عن برنامج صدام حسين البيولوجي: "بوسع جماعة مثل جماعة بن لادن ان تبتاع رأساً نووياً من ارهابيين روس، على سبيل المثال، بقيمة 20 أو 30 مليون دولار وتضعه في حقيبة تدسها في أحد المراكز النيويوركية، فتطيح بعدد هائل من الناس وتحدث فجوة مرعبة في مانهاتن. ويمكن الحصول على النتيجة نفسها بواسطة سلاح بيولوجي أبخس ثمناً وأكثر سهولة في عمليتي الشراء والنقل، اضافة الى فاعليته المضاعفة في الانفاق الضخمة التي تشكل فضاء مثالياً لنشر الفيروسات".
إذاً، يمكن القول ان البشرية تواجه اليوم خطراً مزدوجاً: خطر اقتراب يوم القيامة البيولوجية وخطر الدخول في عصر ارهاب بيولوجي، لا يعرف أحد متى أو هل سينتهي.
وفي أثناء محادثات جنيف حول ضبط انتاج الأسلحة البيولوجية التي انعقدت في تموز يوليو المنصرم، ارتأت ايران اطالة اللائحة لتشمل أكثر من خمسين بلداً اضافياً، أي البلدان ذات القدرات التقنية أيضاً. واعتبر بعضهم انها محاولة لإخفاء نشاطاتها البيولوجية الخاصة بنوع من الستار الدخاني. لكن وجهة النظر الايرانية لا تخلو من الدقة، إذ ان كل بلد تقوم على أرضه جامعة عالية الكفاية قادر على تصنيع الأسلحة البيولوجية، وأي مجموعة من المتخرجين ذوي الكفاية والحنكة والمال قادرة على ذلك.
يقول جورج بوست، من الهيئة العلمية للجنة الدفاع في الولايات المتحدة: "منذ نهاية الحرب الباردة وانهيار معادلة العالم الثنائية، نشهد ملامح حرب غير متكافئة. في الماضي، كانت النتيجة الوحيدة المحتملة عن نشوء مواجهة عظمى بين القطبين عبارة عن تدمير تبادلي شامل ومقنع. أما اليوم فالولايات المتحدة تُحكم على العالم سيطرة غير مسبوقة. والمستاؤون من هذا الوضع كالصين والبلدان الاسلامية، يدركون انهم غير قادرين على مواجهتها في ساحة قتال تقليدية، لذا فالحرب المحتملة هي حرب لا متماثلة، ابرز اسلحتها الارهاب بوجهيه البيولوجي والالكتروني. ونظراً للتقدم العلمي الهائل، لا بد للارهاب البيولوجي أن يتخذ أبعاداً جديدة ويكون له الدور الأهم في المستقبل".
يمكن تشبيه العالم في فترة ما بعد الحرب الباردة برحم خصب لتوليد الأمراض والأوبئة. لكن العقل البشري طالما استحوذته فكرة "الأمراض المتعمدة" ففي القرن الرابع عشر، خلال حصار أوكرانيا، عمد التتر الى توزيع جثث ضحايا الطاعون في أنحاء المدينة فانتشر الوباء وكسر طوق الحصار. وفي القرن الثامن عشر، قام البريطانيون بتوزيع بطانيات ملوثة بداء الجدري على هنود أميركا الشمالية، وكتب أحد الضباط آنذاك في يومياته: "آمل أن نحصل على النتيجة المرجوة"... وكان له ما أراد.
تطور الابحاث
في القرن العشرين، تطورت الأبحاث العلمية المتعلقة بالجراثيم المسببة للأمراض وتضاعف الهوس بأسلحة الدمار الشامل، ما دفع بالحرب البيولوجية لتخطو خطواتها العملاقة المعروفة.
ويقول مالكولم داندو من قسم "أبحاث السلام" في جامعة برادفورد ان الأشواط التي قطعتها الحرب البيولوجية جاءت على ثلاث مراحل: المرحلة الأولى أثناء الحرب العالمية الأولى عندما حاول الألمان نقل عدوى الرعام والجمرة الخبيثة الى قطعان المواشي البريطانية والأميركية التي كانت تشكل آنذاك عنصراً مهماً في موازين القوى. وأفضى الخوف من هذا "السلاح" الى بروتوكول جنيف عام 1925 الذي حظّر استخدام الأسلحة البيولوجية، ولكنه لم يحل دون مواصلة الدول ابحاثها في هذا المضمار، بما فيها تلك التي وقّعت البروتوكول: إيطاليا، بلجيكا، كندا، فرنسا، بريطانيا، بولندا والاتحاد السوفياتي.
من جهتها، لم توقّع الولايات المتحدة البروتوكول حتى العام 1975، وبعد الحرب العالمية الثانية دأبت على تطوير ترسانة بيولوجية ضخمة.
في العام 1969 قرر ريتشارد نيكسون التخلّي عن البرنامج قائلاً: "لن نستخدم تلك الجراثيم اللعينة أبداً". وأضاف مستدركاً: "لكن في حال استخدم أحدهم جراثيم مماثلة ضدنا، فسوف نقضي عليه بالتأكيد"... وتعبّر كلمات نيكسون باختصار عن سياسة الولايات المتحدة التي ما زالت قائمة حتى اليوم.
غير أن كل ما سبق ذكره لم يعن الكثير لشيرو ايشي الذي اطلق المرحلة الثانية من الحرب البيولوجية في العام 1930. وفي العام 1937، عندما اجتاحت اليابان الصين، كان ايشي قد تمكّن من انشاء مجمّع للأبحاث في مدينة بينغ فان التي يشبهها بعضهم باوشفيتز الجديدة. ولطمأنة الصينيين، اطلقت على العملية تسمية "الوحدة 731 لتطهير المياه"، وكان الهدف منها التغلب على طبيعة النزاع الصيني - الياباني اللامتماثلة.
على رغم امتلاك اليابانيين قدرات عسكرية أكثر فاعلية من أعدائهم، إلا ان الصينيين كانوا يفوقونهم عدداً. اما الحل الذي تصدره ايشي فكان اللجوء الى الابادة الجماعية عبر نشر الفيروسات والأوبئة مثل الجمرة الخبيثة، الطاعون، غاز الغنغرينا، الرعام، الحمّى المتموجة، التيفوئيد، الكوليرا والبخص.
لقي الألوف حتفهم بطريقة مروعة في بينغ فان، ومات خمسمئة شخص في نينغبو بعدما قصفتهم طائرة يابانية ببراغيث مصابة بالطاعون. وشمل الاعتداء احدى عشرة مدينة صينية. وفي العام 1941، لاقى 1700 جندي ياباني حتفهم في مدينة شانغ نتيجة لسوء استعمال سلاح الكوليرا. ولا تزال المحصلة النهائية لبرنامج ايشي مجهولة حتى اليوم.
ولا بد من الاشارة في هذا السياق، وبشيء من الدهشة، الى أن هتلر كان يعارض الحرب البيولوجية ورفض خوضها اكثر من مرة، مع ان علماءه قادوا عدداً من التجارب المخبرية المهمة.
التجارب اليابانية جاءت بمثابة تحذير للحلفاء الذين سارعوا الى مضاعفة جهودهم لتطوير ابحاثهم البيولوجية. وفي أيلول سبتمبر 1944، ابتاع البريطانيون خمسمئة رأس ماشية مصابة بالجمرة الخبيثة من الاميركين بقصد القضاء على الزراعة الألمانية.
في بورتون داون، تولى بول فيلدز قيادة المجهود البريطاني للحرب البيولوجية، ويعتبر فيلدز الأب الروحي للحرب البيولوجية الحديثة، إذ أثبت ان الهباء الجوي هو أفضل وسائل نشر عصيّات الأوبئة. لذا، فكل الابحاث المتعلقة بالحرب البيولوجية تتركّز اليوم حول أهمية تصنيع جسيمات جافة يسهل استنشاقها ويمكن نشرها بواسطة القذائف أو القنابل.
وهذه العملية لا تزال صعبة التنفيذ، ما يشكل عائقاً أمام الارهابيين لشن حرب بيولوجية بصورة فاعلة وناجحة.
المرحلة الثالثة
المرحلة الثالثة للحرب البيولوجية تلت الحرب العالمية الثانية، بعدما منح الاميركيون ايشي الحصانة في مقابل تزويدهم بنتائج ابحاثه، وتضاعفت عمليات الانتاج والاختبار في كل الولايات المتحدة. ولحسن حظ الاميركيين، لم تستخدم التجارب البيولوجية على البشر سوى فيروسات غير خطرة، لكن الأمر لم يخل من بعض الحوادث التي سجلت في نيويورك وسان فرانسيكو.
وفي نهاية العام 1960، ادرك البرنامج الاميركي ذروة نشاطه، ثم تراجع قليلاً في عهد نيكسون. وفي العام 1972 وقع الاميركيون اتفاق الحد من الأسلحة البيولوجية. غير أن موقف الولايات المتحدة لم ينسحب آنذاك على روسيا التي انكبت، وفي شكل جنوني، على تطوير ترسانتها البيولوجية. ويبدو واضحاً اليوم ان السوفيات حاولوا شن هجوم بداء التلريات حمّى متقطعة تستمر أسابيع عدة على الجنود الألمان المحاصرين في معركة ستالينغراد، ونتيجة لسوء استخدام الأسلحة، أصاب الفيروس المدافعين الروس.
ويقول المراقبون ان الغرب كان على علم بالنشاط البيولوجي الروسي لكنه لم يشأ الكشف عنه خشية انسحاب السوفيات من المحادثات المتعلقة بالحد من الأسلحة النووية. وفي التسعينات، أُزيح الستار عن البرنامج السوفياتي في شكل فاضح بعدما أعلن نائب رئيسه التخلي عن المشروع برمته. وجاء رد كاناتجان اليبيكوف اسمه اليوم كين أليبك على أثر زيارته لأحد المواقع الاميركية وتأكده من أن الولايات المتحدة جادّة في سعيها للحد من نشاطها البيولوجي، على عكس ما أقنعه به رؤساؤه.
وأصدر أليبك كتابه الشهير "مخاطرة بيولوجية" وضمّنه اسراراً خطيرة أماطت اللثام عن أفظع خرق لمعاهدة شهدها التاريخ الحديث. وكتب آنذاك: "ادركت ان حياتي قامت على كذبة. وما كتابي هذا سوى محاولة للتكفير عن ذنوبي وتحية إكبار للقسم الطبي الذي خنته لسنوات طويلة"...
إفشاء الاسرار السوفياتية خلق إرباكاً وغضباً لدى الرأي العام الغربي. ويقول ريتشارد باتلر: "ما عرفناه من أليبك أشبه برواية رعب. والسؤال الذي يتبادر فوراً الى الأذهان: لماذا بحق السماء يفعلون ذلك؟ لا بد أن في قلوبهم شياطين تدفعهم لانتاج هذه الكمية الهائلة من الأسلحة البيولوجية، ولكن ماذا كانوا سيفعلون بها؟ أحسب أن الاجابة تفوق حدود الخيال"...
في غمرة مواجهة نووية كلية، لا تؤدي الأسلحة البيولوجية سوى دور ثانوي في تشكيل المشهد "الكسوفي" العام. وهذه المواجهة التي كانت محتملة بين الاتحاد السوفياتي السابق والولايات المتحدة كانت ستعيد العالم الى العصر الحجري. ولكن مع انتهاء الحرب الباردة، برز منطق بيولوجي جديد يهدد القوى العظمى بالسقوط عن عروشها في أي لحظة.
ناقوس الخطر
ويشكل ناقوس الخطر الذي أطلقه كل من البرنامج السوفياتي ومحاولتا العراق وطائفة أوم معضلة شائكة بالنسبة الى مفاوضي اتفاق جنيف، وقد تحولت هذه المعضلة الى أزمة حقيقية بفعل رفض الاميركيين المصادقة على البروتوكول. فبخلاف اتفاق الاسلحة الكيماوية، لا يملك اتفاق الأسلحة البيولوجية المعطيات الكافية للتقصي والتحقيق. من السهل اخفاء عمليات الانتاج البيولوجي خلف ستائر شتى كما يمكن الحصول على المكونات البيولوجية بسهولة كبيرة، اضافة الى ان معظم هذه المكونات تستخدم عادة في الصناعات الصيدلية أو الزراعية.
ويورد باتلر مثالاً على معضلة "الاستخدام المزدوج"، إذ زار مرة مصنعاً تُستخدم فيه بروتينات ذات خلية واحدة لتصنيع غذاء للدجاج. وفي المصنع عينه، كان يتم تصنيع عوامل بيولوجية باستخدام التجهيزات نفسها.
محاولة منها لتفادي معضلة "الاستخدام المزدوج"، قامت اللجنة الأوروبية، بالتعاون مع ثلاثة وثلاثين بلداً من مختلف العالم بتشكيل "مجموعة استراليا" لمراقبة حركة التصدير العالمية للتجهيزات المشبوهة، وبالتالي بات يستحيل على دولة معروف عنها تصنيع اسلحة بيولوجية، ان تبتاع، مثلاً، ألفي ليتراً من مادة مخمّرة يمكن استخدامها في تخمير جراثيم الجدري او الجمرة الخبيثة.
ويبدو أن النظام العالمي البيولوجي الجديد سيفرض عودة العملاء والجواسيس الى الأضواء، إذ بدأت بعض الدول، ومنها الولايات المتحدة، باستخدام عدد هائل منهم لتقصي عمليات الانتاج البيولوجي في غيرها من الدول.
يقول ميلتون ليتنبرغ من جامعة ميريلاند: "في ظل عجز اللجان الرسمية، تبرز أهمية دور المخبرين في تقصي المعلومات ونقلها من "الجهة الأخرى". بهذه الطريقة، علمت الولايات المتحدة أخيراً بنشاط ثلاث مؤسسات حكومية عراقية تضم عشرين ألف شخص وثلاث قوافل شاحنات قامت بنقل بضائع مشبوهة". لكن ليتنبرغ يستبعد حدوث هجوم بيولوجي ضخم مشيراً الى فشل "أوم" في تطوير سلاح بيولوجي فاعل على رغم امتلاكها خبرات هائلة وأموالا طائلة: "ليس صحيحاً ما يحكى عن سهولة تطوير اسلحة بيولوجية، فالعملية دقيقة للغاية وتتطلب سنوات طويلة من التجارب والاختبارات المعقدة". ويضيف ليتنبرغ: "بوسعنا اليوم الكشف عن الاختبارات البيولوجية من خلال الأقمار الصناعية وتقارير المخبرين الخ... وفي الوقت الراهن، ما من دليل قاطع يشير الى امتلاك أي من المجموعات الارهابية قدرات لشن حرب بيولوجية".
غير أن قلة من العلماء تشارك ليتنبرغ تفاؤله، ويؤكد بوست ان العلوم البيولوجية منتشرة في كل مكان، وبالتالي فإن اي مختبر في أي جامعة في العالم قادر على تصنيع عوامل بيولوجية، خصوصاً في ظل عدم وجود مراقبة فاعلة لتجارة المواد البيولوجية.
أما باتلر فيشير الى تفشي الأمراض بين المواشي في الآونة الأخيرة مبدياً شكوكه حول أزمة الحمى القلاعية: "تبيّن ان العراق وحده يملك مصنعاً لتركيب لقاح ضد الحمى القلاعية. وقامت اللجنة الخاصة التابعة للأمم المتحدة بإغلاقه على رغم الاعتراضات العراقية، بعدما وجدت دلائل قاطعة على تصنيع أسلحة بيولوجية أيضاً".
ويضيف باتلر: "ادعى المسؤولون العراقيون انهم بحاجة لهذا اللقاح لأغراض طبية، ولكن الكذبة كانت واضحة، إذ تبيّن ان لديهم مخزوناً يفوق حاجتهم بكثير... لست أدري ما إذا قرروا الانتقام من بريطانيا لتضامنها مع السياسة المعادية للعراق".
اضافة الى تصنيعه الجراثيم المألوفة مثل الجمرة الخبيثة والطاعون، تبين للجنة الأمم المتحدة ان العراق يملك مصنعاً لتصنيع مادة افلاثوكسين المسببة لسرطان الكبد. ويتساءل باتلر عن جدوى استخدام هذه المادة، بما أن مفعولها لا يظهر إلا بعد خمسة أعوام، ويعتقد انه يملك الاجابة، فسرطان الكبد ملحوظ بصورة مرتفعة بين اللاجئين من جنوب العراق، حيث ثار السكان على صدام "التفسير الوحيد لهذه الاصابات، يقول باتلر، ان حسين تعمّد تسميم مخزون المياه في تلك المنطقة بالافلاثوكسين، ويبدو هذا التحليل منطقياً وإلا ما الذي يدفع العراق لانتاج كميات هائلة من تلك المادة؟".
في مطلق الأحوال، يفتح تطور العلوم الجينية الآفاق امام احتمالات لا نهائية تضاف الى الأسلحة البيولوجية المعروفة، لعل أولها وأكثرها بديهية ابتكار عوامل بيولوجية مقاومة للدواء.
ويدّعي الروس، على سبيل المثال، نجاحهم في ابتكار نوع من الطاعون قادر على مقاومة ستة عشر نوعاً مختلفاً من المضادات الحيوية. ويحكى أيضاً عن تصنيع قنبلة عرقية، وهي عبارة عن سلاح بيولوجي يستهدف جينات عرقية محددة. وفي الوقت الراهن، يستبعد العلماء امكان استخدام هذه القنبلة، خصوصاً ان المنطقة الوحيدة التي يحتمل ان تستخدم فيها هي منطقة الشرق الأوسط حيث ينتمي الفلسطينيون واليهود الى العرق نفسه.
ولعل أكثر الاحتمالات اثارة للرعب، إمكان ابتداع متعضيات حية تكون عبارة عن حشرات اصطناعية تنشر الأوبئة بسهولة مطلقة. وهذا الاحتمال مستبعد أيضاً... لكن مثله كان مستبعداً استنساخ النعجة دوللي.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.