نائب أمير منطقة مكة يُشرّف حفل تخريج الدفعة التاسعة من طلاب وطالبات جامعة جدة    ولي العهد يبحث مع سوليفان صيغة شبه نهائية لاتفاقيات استراتيجية    المملكة تؤكد استعدادها مساعدة الأجهزة الإيرانية    ثلاثة أهداف تتنافس على جائزة الأجمل في الجولة 32 من دوري روشن    الملك يستكمل فحوصات طبية في العيادات الملكية    وصول طلبة أكاديمية طويق إلى أرض الوطن بعد حصولهم على ميداليات ذهبية وفضية وجوائز خاصة    وزارة الحج والعمرة تنفذ برنامج ترحاب    «أسمع صوت الإسعاف».. مسؤول إيراني يكشف اللحظات الأولى لحادثة «الهليكوبتر»!    هاتف HUAWEI Pura 70 Ultra.. نقلة نوعية في التصوير الفوتوغرافي بالهواتف الذكية    تنظيم مزاولة مهن تقييم أضرار المركبات بمراكز نظامية    القادسية بطلاً لكأس الاتحاد السعودي للبلياردو والسنوكر    تأجيل تطبيق إصدار بطاقة السائق إلى يوليو المقبل    الديوان الملكي: خادم الحرمين يستكمل الفحوصات الطبية    أمير تبوك يرأس اجتماع «خيرية الملك عبدالعزيز»    ارتفاع أسعار الفائدة يتراجع بأداء السوق العقاري بالقطيف    جائزة الصالح نور على نور    الجائزة وفرحة الفائزين والفائزات.. عاجزون عن الشكر    الشيخ محمد بن صالح بن سلطان «حياة مليئة بالوفاء والعطاء تدرس للأجيال»    مبادرة «طريق مكة» مرتبطة بالذكاء الاصطناعي    165 ألف زائر من بريطانيا للسعودية    الملاكم الأوكراني أوسيك يتوج بطلاً للعالم للوزن الثقيل بلا منازع    بختام الجولة ال 32 من دوري روشن.. الهلال يرفض الهزيمة.. والأهلي يضمن نخبة آسيا والسوبر    يوم حزين لهبوط شيخ أندية الأحساء    «الخواجة» نطق.. الموسم المقبل ضبابي    مدرج الأهلي أمر !    دوري روشن.. ما الذي تحقق؟    نيابة عن سمو ولي العهد.. الفضلي يرأس وفد المملكة في المنتدى العالمي للمياه    انطلاق مؤتمر «مستقبل الطيران» بالرياض    أمير القصيم يرعى حفل تكريم الفائزين بمسابقة براعم القرآن الكريم    "إنفاذ" يُشرف على 38 مزادًا لبيع 276 من العقارات والمركبات    وحدات الأحوال المدنية المتنقلة تقدم خدماتها في (42) موقعاً حول المملكة    الانتخابات بين النزاهة والفساد    تحقيقات مع فيسبوك وإنستغرام بشأن الأطفال    جهود لفك طلاسم لغة الفيلة    ثقافة سعودية    كراسي تتناول القهوة    المتحف الوطني السعودي يحتفي باليوم العالمي    من يملك حقوق الملكية الفكرية ؟!    وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا    تأملاّت سياسية في المسألة الفلسطينية    الخارجية: المملكة تتابع بقلق بالغ ما تداولته وسائل الإعلام بشأن طائرة الرئيس الإيراني    عبر كوادر سعودية مؤهلة من 8 جهات حكومية.. «طريق مكة».. خدمات بتقنيات حديثة    بكاء الأطلال على باب الأسرة    ارتباط بين مواقع التواصل و«السجائر الإلكترونية»    عن "المؤتمر الدولي" و"قوّة الحماية الأممية"    تشكيل أول لجنة للتطوير العقاري ب "اتحاد الغرف"    الديوان الملكي: خادم الحرمين يستكمل الفحوصات الطبية    سقوط طائرة هليكوبتر تقل الرئيس الإيراني ووزير الخارجية    السعودية تطلق منصة فورية لإدارة حركة الإحالات الطبية    انقسام قادة إسرائيل واحتدام الحرب    «حرس الحدود» بجازان يحبط تهريب 180 كيلوغراما من نبات القات    أرامكو السعودية توقع ثلاث مذكرات تفاهم خلال زيارة وزير الطاقة الأمريكي    وزير الصحة الماليزي: نراقب عن كثب وضع جائحة كورونا في سنغافورة    الأرصاد: استمرار فرص هطول الأمطار على بعض المناطق    ولي العهد يستقبل مستشار الأمن القومي الأمريكي    رفضت بيع كليتها لشراء زوجها دراجة.. فطلقها !    تحدي البطاطس الحارة يقتل طفلاً أمريكياً    دعاهم إلى تناول السوائل وفقاً لنصائح الطبيب.. استشاري: على مرض الكلى تجنّب أشعة الشمس في الحج    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



"خيركم من تعلم القرآن وعلمه" ولكن ... الانفصام بين القراءة والفهم ... هو بداية الانفصال المعرفي بين الذاكرة والذكاء العملي 1 من 2
نشر في الحياة يوم 18 - 01 - 2001

منذ مئة عام والجهود تتراكم في تعلم القرآن وتعليمه، جهود خيرة الدوافع والنيات، تقوم بها حكومات وجمعيات وأفراد، ولكن الجدوى ليست بقدر الجهود الضخمة.
هناك خلل إذاً، هذا الخلل هل ينحصر في المفهوم السائد لتعليم القرآن، الذي تكتسب به الخيرية، فهو إذاً في طرق التعليم ووسائله ، أم أنه-أيضا- في المفاهيم والأفكار، التي نعتبرها ثقافة إسلامية، فهو إذاً أعمق وأخطر، لأنه في المحتوى والمضمون، أي في المفهوم الشائع للفقه في الدين الذي تكتسب به الخيرية أيضاً، كما ورد في الحديث الشريف "من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين".
خلل في منهج التعليم أولاً.
لماذا قصرت التربية الدينية السائدة؟ أليس ذلك لأن تلك الجهود أعادت إنتاج المفاهيم التربوية، التي تكرست أكاديمياً أواخر العصور العباسية والمملوكية؟ كثيرون من المخلصين حصروا المشكلة في التطبيق التربوي، فأنشأوا معاهد ومدارس وجامعات دينية أو إسلامية، ولكن الثمر المحصود، لم يكن متوازياً مع عظمة الجهود.
ولم يفطن هؤلاء إلى أن المشكلة أعمق، لأن الفكر الديني التربوي في العصر الإسلامي الوسيط" إنما هو - في الجملة - فكر ناسب بيئات زمانية ومكانية ماضية، وإعادة إنتاجه إنما هي عجز عن ابتكار تربية إسلامية حديثة، تستند إلى النص الديني المعياري المطلق الكتاب والسنة.
والجيل الراشدي، الذي أسس لنجاح القرون الثلاثة المفضلة" إنما نجح في رسم نظرية تربوية تكفل الحياة الطيبة في الدنيا والآخرة" لأنه كان ينظر للتعلم عموماً ولتعلم القرآن خصوصاً، على أنه قوة معرفية عملية، تنتج قوة اجتماعية.
فالقرآن يحتوي على أسس النظرية المعرفية والتربوية، التي تلهم المسلمين - اليوم - كيف يفهمون العالم من حولهم، وكيف يطاولون التحدي الحضاري الذي يقتحم حضارتهم، وكيف ينجحون في عالم لا يرحم البائسين، ولا يحترم إلا الناجحين، من ألي الأيدي والأبصار،الذين يدركون أن المعرفة لا تكون قوة، إذا كانت استظهاراً للمعلومات من دون استثمار.
الفقه أولاً والحفظ آخراً
أدرك الصحابة رضوان الله عليهم" أن القراءة المطلوبة - في خطاب التكليف - هي القراءة الفاعلة المنتجة، التي لا تتوقف عند مستوى الطلاقة الصوتية والدلالية، بل تتجاوز ذلك إلى المستوى الفكري للغة، بصفتها وعاء للفكر" لكي تتجسد القراءة في المستوى التربوي للمجتمع، فأدركوا أن للقرآن مستوى صوتياً، هو مستوى الذاكرة اللفظية، ومستوى فكرياً هو الحيوية الذهنية، وأنه لا عبرة بهما إذا لم ينتجا مستوى اجتماعياً هو الحيوية المجتمعية، وأن المستوى الاجتماعي هو مقصد الشريعة، من التعلم والتعليم، فهو الهدف، وما المستوى الصوتي والفكري إلا وسيلة، والحكم على الوسيلة بالنجاح والفشل، إنما برهانه المحصول في البيدر الاجتماعي.
وقد لاحظ عبدالله بن مسعود رضي الله عنه الصورة النموذجية - لمنهج التربية والتعليم - عند الصحابة: كثرة في الفقه وقلة في الحفظ، ثم قارنها بالصورة المعكوسة، التي بدأت تحدث عند من بعدهم، فقال يخاطب مجايليه: "أنتم في زمان كثير فقهاؤه قليل قراؤه، تحفظ فيه حدود القرآن... وسيأتي على الناس زمان، قليل فقهاؤه كثير قراؤه، تحفظ فيه حروف القرآن وتضيع حدوده".
ولذلك انشغل الجيل الأول والتابعون له بإحسان" بالعمل العام عن التفرغ للقراءة والحفظ، لأنهم أدركوا أن الأمر الإلهي، الذي يقول: "خذ الكتاب بقوة"" إنما يتجه للعمل الاجتماعي، فكان عدد الذين يعملون بالقرآن" هو الأغلبية، بينما كان نادراً عدد القراء الذين حفظوا القرآن" في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، إذ لا يتجاوز أصابع اليدين.
فقد أخرج البخاري ومسلم عن عبدالله بن عمرو، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "استقرئوا القرآن من أربعة: من عبدالله بن مسعود وسالم مولى أبي حذيفة، ومعاذ بن جبل وأبي بن كعب" وعد الذهبي- أيضاً - عثمان وعلياً رضي الله عنهما ممن حفظ القرآن" في عهد النبي صلى الله عليه وسلم.
على كل حال فإن عدد الحفاظ " لا يتجاوز العشرة، ولذلك قال أبو حامد الغزالي: "كان الذي يحفظ البقرة والأنعام ]يعتبر[ من علمائهم" الإحياء 1/253.
لماذا كانت نسبة عدد الحفاظ في الصحابة، ضئيلة جداً؟ على أنهم مقلون في الكتابة، وذلك يستدعي اهتماماً بتخريج الحفاظ، ولكنهم لم يفعلوا، وهذه ملاحظة مهمة تميز منهجهم التعليمي، عن مناهج المتأخرين في تعليم القرآن الكريم.
لم تكن القضية عندهم كما هي عندنا: كم جزءاً أستطيع أن أحفظ في السنة؟ بل هي: هل استطعت أن اجسد ما قرأت، لكي أواصل القراءة ؟
كانوا قليلي الحفظ، على رغم أنهم في بداية عهدهم كانوا أمة أمية، يقل فيها الكتاب، قبل أن يصبحوا بفضل القرآن أمة كتاب وثقافة وعلم. قلة هذا العدد من الحفاظ" لافتة تشير إلى البون الشاسع، بين أسلوبهم في التعليم وأسلوبنا.
كان الصحابة مدركين تمام الإدراك، خطر الفصل بين المستوى الصوتي والفكري من اللغة، وبين مستوى السلوك الفردي والاجتماعي أيضاً، لأنهم وجدوا القرآن يعلمهم الفقه الاجتماعي، وينبههم إلى خطر غياب الفاعلية الاجتماعية ، التي وقعت فيها الأمم التي أنزلت عليها الكتب، من الذين لا يعلمون الكتاب إلا أماني.
وذكر ابن تيمية ناقلاً عن ابن عباس وقتادة، معنى الأميين، الذين لا يعلمون القرآن إلا أماني" بأنهم غير العارفين بمعاني الكتاب، الذين يحفظون ولا يفهمون، وفسر الأماني بأنها التلاوة الصوتية الشكلانية، التي لا فقه فيها مع القرآن للغزالي: 14.
مفهوم قراءة القرآن
فهم الصحابة رضوان الله عليهم" أن القرآن رسالة، وأن الرسالة تطلب من المتلقي شيئاً معيناً، ولذلك اعتبروا القراءة وسيلة، والعمل هدفاً، فتجاوزوا الطلاقة الصوتية" إلى المستوى الفكري، وربطوا تقدم المستوى الفكري" بمستوى إنتاج السلوك، ومن أجل ذلك مكث ابن عمر ثماني سنين، في تعلم سورة البقرة، كما ذكر مالك في الموطأ.
وأثرت عنهم آثار تدل على هذا الربط، فقد روي أن أحد الطلاب، قال لأحد علماء السلف: "لقد قرأت القرآن عشر مرات في الشهر" فقال له: "ليتك قرأته مرة واحدة وفهمت ما فيه".
ومن قبله قال المعنى نفسه إياس بن معاوية : "مثل الذين يقرأون القرآن وهم لا يعلمون تفسيره، كمثل قوم جاءهم كتاب من ملكهم ليلاً، وليس عندهم مصباح فداخلتهم روعة ]لأنهم[ لا يعرفون ما في الكتاب، ومثل الذي يعرف التفسير كمثل رجال جاءهم المصباح، وقرأوا ما في الكتاب".
وقد فهموا أن الحث على ترتيل القرآن، وتلاوته حق تلاوته، يرتفع إلى مستوى الإدراك المؤثر في الحراك الفردي والاجتماعي. فالفهم وسيلة، والعمل غاية، فتلاوة القرآن حق التلاوة هي العمل بمحكمه، والإيمان بمتشابهه، كما قال الحسن البصري.
ولذلك كانوا كما قال عمر بن الخطاب: "إذا مروا بأية رحمة سألوا الله، وإذا مروا بأية عذاب استعاذوا منه". كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل. ولم يفهموا التلاوة والترتيل، كما فهمهما المتأخرون، الذين قصروا مفهوم التلاوة على المهارة الصوتية.
وقد رويت آثار عدة، عن عائشة وابن مسعود وغيرهما، تدل على أن الصحابة كانوا لا يفصلون بين المستوى الصوتي والفكري للقراءة، وبين المستوى العملي، وكانوا يربطون حركة القراءة بحركة الفهم، وحركة الفهم بحركة العمل.
وبذلك أدركوا أن التعليم لا بد فيه من تدرج، لأن القفز فوق قدرات الذهن على الاستيعاب، وقدرة العلم على إنتاج السلوك، خلل تربوي يحول التعليم المدرسي، إلى تلقين ينفخ في الذاكرة اللفظية، ولا ينفح الذهن بالإشعاع والتلألؤ.
القرآن كتاب تنوير وتحرير للعقل والوجدان والسلوك، فهو أساس صالح في كل زمان ومكان، لتنوير الإنسان وتقدمه، وتحريره من أغلال التخلف الروحي والأخلاقي والاجتماعي، من أجل أن يؤتينا الله في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، ولكن كيف يمارس القرآن دوره" وقد صارت القراءة شكلانية؟ ولذلك ينبغي تفكيك القراءة السائدة، للإجابة عن السؤال اللاهب: لماذا افتقدت قراءتنا الحرارة والإنارة؟
إن ربط القراءة بالفقه مسألة تبني الروح العملية، وتبني الذهن المدرك، الذي يحفز الوجدان على التفاعل، بين ما يقرأ وما يعمل، فإذا تنور الوجدان واشتعل وتلألأ، أنتج السلوك الراشد، وهذا يؤكد الربط بين وظيفة التعليم ووسيلته، وربط الاقتصاد الزمني بالإنجاز، وربط المحصول بالجهد المبذول ، فطاقة الذهن وطاقة الفراغ، لا يتم إنجاز" من دون استغلالهما بشكل فاعل.
مفهوم تفسير القرآن
ولذلك لم يكن تفسير الصحابة القرآن الكريم تفسيراً حرفياً، محدوداً بمفهوم الشريعة الذي شاع في الثقافة الإسلامية العباسية، يقف عند بيان أحكام العبادة الروحية، من صلاة وحج وصوم، ولم يكن تجريدياً يعتمد على كثرة المعلومات، كما صار في القرون الوسيطة، بل كان تفسيراً عملياً مهارياً كلياً، ولذلك أدركوا أن العمران أو التقدم المادي، هو الجانب الآخر الذي لا تتم التعادلية الإسلامية إلا به، بصفة الإسلام مشروعاً للتقدم الروحي والأخلاقي، وللتقدم الاجتماعي والعمراني معاً، وبصفته مشروعاً للسعادة في الدنيا والآخرة.
ولذلك لم يكن تفسير القرآن عندهم أيضاً تفسيراً لغوياً تجزيئياً، يقف عند إعراب كلمة أو بيان اشتقاقها اللغوي، بل كان تفسيراً مهارياً، يدرك روح القرآن كما يدرك ألفاظه.
وقد أتيح للصحابة ما لم يتح لجيل من بعدهم، بيئة عايشت النصوص، وفهمتها من خلال الوقائع والأحداث، فعرفوا أسباب النزول، وقد أتاحت لهم هذه المعرفة التفقه الصحيح، كما قال الواحدي: لا يمكن معرفة تفسير الآية، من دون الوقوف على قصتها، وسبب نزولها القطان: علوم القرآن 80.
ولما أشكل فهم آية على مروان بن الحكم" لم يزل إشكاله "إلا عندما أبان له عبدالله بن عباس سبب نزولها القطان: 80. أما في الثقافة الإسلامية العباسية، فقد تم عزل النص الإلهي والنبوي أيضاً عن مناسبته، فأغفل كثير من أهل العلم السياق الاجتماعي للنص، وبلوروا هذا الإغفال من خلال قاعدة أصولية، قالوا فيها "العبرة بعموم اللفظ، لا بخصوص السبب" وهي قاعدة اجتهادية، وليست قضية مسلمة.
وأبسط الأمثلة على حاجتها إلى التمحيص" فهم كثير من الناس الحديث الشائع عن فضل العمرة في رمضان، بأنها تعادل حجة مع الرسول صلى الله عليه وسلم،واعتبارهم ذلك حكماً مطلقاً، ولكن الحديث قيل لامرأة تتلهف كيف فاتها أن تحج مع النبي المرشد المعلم. والحج مع النبي صلى الله عليه وسلم مسألة بركة صحبة موهوبة، وقدوة استقامة مكسوبة، فكيف تتاح لكل من اعتمر في رمضان، وكيف تصبح عُمَر التابعين في درجة حِجج الصحابة الذين حجوا مع النبي صلى الله عليه وسلم، ومن هنا يتبين أن ذلك الأجر خاص بالمرأة السائلة.
ولكن لما أرسى المتأخرون منهج العلم والتعليم، احتجوا بما استحدثوه من قواعد ونظريات، على القرآن والحديث، وربطوا فهم القرآن والسنة بقواعدهم، وحصروا الدخول إلى مناطق الاجتهاد، بسلوك هذه المعابر. ولو ربطوا ذلك بمقاصد الشريعة أيضاً، لأدركوا أن ما قرروه" إنما هو اجتهاد ورأي، وليس حكماً قطعياً من الوحي. على أن هذه الأصول التي رسخوها صحيحة - في الجملة لا بالجملة -، وهي كقواعد أهل النحو والعروض،لكنها ليست فوق مستوى اللغة، وإنما هي توصيف محدث، واللغة العربية نموذج لغوي سبق مرحلة التوصيف، وكذلك أصول الفقه ليست قرآناً ولا حديثاً معصوماً، لا يجوز مراجعتها على ضوء الكتاب والسنة، ولذلك فإن الصحابة اجتهدوا في أمور كثيرة، على رغم أنهم لم يدرسوا هذه الأصول، وعلى رغم أن علمهم لم يكن كعلم المتأخرين سعة ولا كثرة، وأصول الفقه علم آلة، كعلم النقد والبلاغة لا يصنع أديباً، ولكنه يسهم في فهم الأدب، ولذلك فإن فقه النهضة الإسلامية اليوم، سبق إليه مثقفون ومفكرون، لم يتبحروا في أصول الفقه.
ونتج من أغفال مناسبات القول" أن صارت النصوص وهي محصورة محدودة، معزولة - أحياناً - عن محورها، الذي تدور حوله ، وصارت معزولة عن الأطر الاجتماعية، التي تعين على فهم دقتها وكيفية تطبيقها، في وقائع غير محصورة ولا محدودة.
ولم يكونوا مثلنا نتعلم الفصحى، بأسلوب اصطناعي، ولا نتحدث بها في منازلنا وأسواقنا، بل نقصرها على المقامات الاحتفالية والروحية.
ولذلك لم يتساءل الصحابة عن المقاصد العامة للتشريع ، ولا عن المعاني التفصيلية إلا نادراً. وكانوا يعيشون في الحقل التطبيقي للشريعة، الذي أشرف عليه النبي وخلفاؤه الراشدون، الذين كانوا قمة الفقه الحضاري للدين، وبهذا المحضن التعليمي الخاص الفريد، لم يجهلوا أمراً أساسياً في الدين. فعرفوا الآيات المكية من المدنية، وعرفوا أول ما نزل وآخره، وعرفوا أسباب النزول ومناسباته، لأنهم عايشوها، فردوا الغامض إلى الواضح، والمتشابه إلى المحكم، والمجمل إلى المفصل، وأدركوا الخاص من العام، والمطلق من المقيد، والمنطوق والمفهوم، فلم يقفوا في الترجيح والجمع مثلما وقف المتأخرون.
لا فهم بلا تدرج
يؤكد التربيون أهمية التدرج في التعلم، بسقي الذهن قطرة قطرة، وفق نظام التنقيط المعروف في الزراعة، أو بصعود السلم التعليمي خطوة خطوة من دون قفز، ف "الكتاب أشبه الأشياء بالسلم، ... ينبغي صعوده درجة درجة، وإن لا سقط الذي يحاول القفز". هذه العبارة المعروفة عند المربين، تصوغ مبدأًً تعليمياً، من المبادئ التي لم يشكك في صدقيتها منهج تعليمي ناجح، وهي -عندما نعبر عنها بمصطلح تربوي، -مبدأ التدرج، الذي هو أساس التعليم الناجح، وهو تدرج بالنسبة الى المهارات والمعلومات معاً، حيث يكون التعليم شيئاً فشيئاً، يبدأ بالأمور المبسطة، ثم يصعد إلى الأمور المعقدة.
مثل تعليم الجملة النحوية: يبدأ بالجملة البسيطة فالجملة المركبة، ثم الجملة المعقدة. ولا بد إذن من مراعاة عمر الدارس، ليس العمر الزمني والنمو الحسي فحسب، بل المعرفي والعقلي والوجداني معاً، ولا بد - أيضاً - من مراعاة الرصيد اللغوي .
وهكذا كان التدرج ولوازمه، من التمهل والتدبر والتفكر، هو طريقة الصحابة رضوان الله عليهم في تعلم القرآن الكريم، لم يكونوا ينظرون إلى تعلم القرآن على أنه مهارة صوتية، أو طلاقة لغوية، يمكن تعلمها خلال بضعة أشهر، ولكن كانوا ينظرون إليه على أنه محور تعليمي تطبيقي، يكون أساس التفقه في الدين، والدين عندهم شامل القيم الروحية والأخلاقية، والاجتماعية والعمرانية.
لم يكن أساس التدرج عند الصحابة كمياً، كم يحفظ الدارس من سورة في الشهر أو السنة؟ بل كان كيفياً، كيف يفهم ويستوعب؟ وكيف يحول مهارة القراءة إلى مهارة فكرية؟ ثم كيف يحول المهارة الفكرية إلى مهارة عملية.
وكانوا يدركون أن الانفصام بين القراءة والفهم، هو بداية الانفصال المعرفي بين الذاكرة والذكاء العملي، وهو الذي يؤسس القطيعة التربوية بين القول والعمل.
ولذلك كانوا يقرأون بتؤدة وتأن، ويتدبرون المعاني، ويتعرفون إلى المعنى الحضاري الشامل في القرآن، ويعتبرون بالقصص والمواعظ، كما قال عبدالرحمن السلمي: "حدثنا الذين يقرئوننا القرآن، كعثمان بن عفان، وعبدالرحمن بن عوف، أنهم كانوا لا يتجاوزون عشر آيات من القرآن، حتى يتعلموا ما فيها من العلم والعمل، قال: فتعلمنا العلم والعمل جميعاً"، "ولم يكن همهم مقصوراً على الاستكثار من قراءته، كحالنا في هذا العصر"، كما وصفنا الشيخ عبدالرحمن الدوسري رحمنا الله وإياه تربية 151.
وكما ذكر مالك في الموطأ، "أن عبدالله بن عمر مكث في حفظ سورة البقرة ثماني سنين"، ولم يكن عبدالله قليل الذكاء، ولا منشغلاً بأمور أخرى عن التعلم والتعليم، ولكنه كان يفهم الحفظ فهماً آخر، غير ما استقر في أذهاننا اليوم، كان الحفظ يتجاوز اللفظ والصوت، إلى المعنى والهدف والسلوك، ولم يكن القارئ يتساءل: كم أختم في الشهر أو في رمضان؟.
تعلم سورة البقرة في ثماني سنين تجربة ثرية، ينبغي أن يتأملها الذين يتعلمون القرآن كله حفظاً وتجويداً، خلال مرحلة زمنية قصيرة، وينظرون إلى القراءة على أنها جمع واختزان، وينظرون إلى التعلم على أنه تلقين شكلاني، أولئك الذين اشار إلى نموذجهم أبو الدرداء، في ما رواه الإمام أحمد في كتاب الزهد، أن رجلاً أتى أبا الدرداء فقال: "إن ابني جمع القرآن، قال أبو الدرداء: اللهم غفراً! إنما جمع القرآن من سمع له وأطاع".
* كاتب سعودي.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.