من الواضح أنه اصبح مستحيلاً بالنسبة الى الانسان المعاصر تحديد موقفه ازاء مشكلات وقضايا العصر من دون الاستعانة بالمعلومات التي تنوعت مصادرها، وتطورت أدوات تنظيمها وتخزينها وبثها. تمثل المعلومات في تشابكها اشكالية سياسية واجتماعية وعلمية بالغة الخطورة، لا تؤثر فقط في صوغ وجهات نظر الناس والعلاقة بين الحكام والمحكومين وبين الطبقات والقوى الاجتماعية المختلفة، بل تؤثر بصورة حاسمة أيضاً في الصورة الذهنية لدى كل شعب عن الشعوب الاخرى. ولا شك أن النظرة المتعمقة لتجارب الاعلام العربي تكشف لنا حقيقة الدور الذي تقوم به وسائل الاعلام في تشكيل اتجاهات الرأي العام طبقاً للفلسفة والمصالح التي تتحكم في ممارساتها. فهي إما أن تكون ادوات لتثقيف الجماهير وتوعيتها بحقائق العصر وأنواع المعرفة الجادة التي تحفزها للانتاج وتفتح امامها أبواب المستقبل على أساس عقلاني ووجداني سليم، وإما أن تصبح سبيلاً لنشر الثقافة الاستهلاكية والوعي الزائف الذي ينحصر في قشور الحقائق المادية اليومية ويقصر عن استشراف أية آفاق مستقبلية في المدى المتوسط او البعيد. ويتحقق ذلك من خلال محاصرة الجماهير في متاهات العنف الجنسي والغرائز الاستهلاكية إذ يتم تجريدها من مقدرة اللجوء الى العقل والمنطق مما ييسر قيادها والتحكم في مصيرها. واذا كانت وسائل الاعلام العربية تتحمل مسؤولية اخلاقية وسياسية في الحرص على القيام بواجباتها ومهامها التاريخية غير أنه لا يمكن اغفال الحقيقة التي تؤكدها معظم الدراسات التي اجريت في السنوات الاخيرة والتي تشير الى تخليها عن جزء كبير من مسؤولياتها المهنية المقدسة، ما أسفر عنه فقدان الاعلام العربي للصدقية بين الجماهير بسبب ارتباطه الوثيق بمصالح النظم الحاكمة وحرصه على تشكيل اتجاهات الرأي العام العربي وفقاً لأجندة أولويات السلطة الحاكمة من دون مراعاة للهموم والمشكلات المتفجرة التي تزدحم بها حياة الناس. وعلى رغم التفاوت في الميراث التاريخي والتركيب الاجتماعي والثروات البشرية والطبيعية ودرجات التبعية والتحرر بين الدول العربية، إلا أن هذا لم يحل دون تعرض شعوب المنطقة لسلسلة من الأحداث المشتركة التي أسهمت في بلورة وتشكيل إطار نفسي وذهني مشترك قادر على إفراز استجابات مشتركة إزاء الأحداث التي تعترض مسيرة شعوب العالم العربي، وهو ما يمكن ان نطلق عليه تجاوزاً الرأي العام العربي. غير أن الرأي العام العربي الذي يملك كل مقومات التوحد لم يتبلور في الواقع بصورة فاعلة، وظل مشتتاً. ويعزى ذلك الى عوامل عدة أبرزها ما يلي: اولاً، الفوارق الاجتماعية الهائلة بين القلة التي تملك وتتحكم في مصادر الثروة والانتاج ووسائل التعبير السياسي والثقافي والاعلامي، وبين الكثرة من الجماهير العربية المحرومة كلياً أو جزئياً من المشاركة في الثروات الطائلة، وبالتالي المشاركة في صنع القرارات السياسية او القومية، أو تشكيل صورتها الاعلامية في الداخل والخارج. ثانياً: ازمة النخبة المثقفة والمتعلمة في العالم العربي، فهي تتأرجح بين خطرين اولهما القهر السياسي والاجتماعي، وثانيهما محاولات الاستيعاب والاحتواء من جانب الانظمة العربية. ثالثاً: انتشار الامية بدرجة لا تتناسب مع التراث التاريخي والحضاري لشعوب المنطقة ولا متطلبات الواقع الاجتماعي والسياسي والثقافي المعاصر. رابعاً: على رغم التطور النسبي الذي حققه الاعلام العربي خصوصاً في مجال الفضائيات فإن طبيعة المضامين الاعلامية التي تروجها وسائل الاعلام العربية مقروءة ومسموعة ومرئية يغلب عليها عموماً طابع التخلف عن حقائق العصر والنظرة القطرية المحدودة ومصادرة الرأي الآخر، فضلاً عن غلبة النغمة الدعائية ذات الطابع البلاغي اللاعقلاني. والواقع اننا عندما نعرض لخريطة توزيع مراكز ومعاهد استطلاع وقياس الرأي العام في العالم العربي سنلاحظ ان غالبية هذه المراكز على قلتها تتبع الحكومات تبعية مباشرة، سواء من خلال تبعيتها لمؤسسة الرئاسة او من خلال ارتباطها بالاجهزة السيادية المهمة في الدولة. ويقتصر عمل هذه المراكز على اجراء قياسات للرأي العام، في مواضيع لا تمثل محاور اهتمام فعلية او قضايا متفجرة كاستطلاع آراء المستهلكين ازاء السلع والخدمات. وتتجنب هذه الاستطلاعات المواضيع السياسية والثقافية المهمة كونها تتميز بحساسية لدى الحكومات. ولم يحدث من قبل أن اقدمت إحدى الحكومات العربية او جامعة الدول العربية على رغم مرور ما يزيد على خمسين عاماً على قيامها على اجراء استطلاع او قياس للرأي العام تجاه اية قضية قومية أو قطرية، غير أن ذلك لا يعني انتفاء قيام بعض الحكومات العربية بقياسات او استطلاعات للرأي العام في حالات استثنائية محدودة، وغالباً ما تستخدم نتائج هذه الاستطلاعات لتأكيد سلطة هذه الحكومات او التعرف على اتجاهات الرأي العام بهدف تغييره ازاء بعض القضايا الخلافية، او التي تمس نفوذ السلطة الحاكمة وامتيازاتها. وبدأت تنتشر في الآونة الاخيرة ظاهرة الاستفتاءات ومعظمها يتعلق بمواضيع انتخابية أو بهدف التمهيد لاصدار تشريعات جديدة او تدابير حكومية معينة. وغالباً ما يوجه النقد الى المفهوم المتداول والشائع عن الرأي العام والذي يستند الى الفكرة القائلة إن أي مجموعة بشرية لا بد ان يكون لها رأي عام يمثل معدل متوسط الآراء السائدة. مع ان هذا في الواقع ليس رأياً عاماً بقدر ما هو حاصل جمع مجموعة آراء فردية. ان فكرة الرأي العام التي تتصدر الصفحات الاولى من الصحف على شكل نسب مئوية تقول مثلاً إن 90 في المئة من الرأي العام الاميركي يؤيد اسرائيل، إنما تؤكد، في حقيقة الأمر، أن الرأي العام في أية لحظة ما هو الا نتاج لتوازن القوى والصراعات. وليس هناك شيء أكثر خطأ من النظر الى الرأي العام وكأنه شيء ثابت. ونحن نعلم جيداً ان علاقات القوى لا يمكن تجاهلها أو التقليل من اهميتها. إذ أن أي ممارسة للسلطة غالباً ما تكون مصحوبة بمسار يهدف دائماً الى تثبيت امتيازات هؤلاء الذين يمارسون السلطة. هذه هي النتيجة المستهدفة لاستطلاعات الرأي التي تحاول ان تخلق الوهم أن هناك رأياً عاماً ساحقاً يساند السلطة ويدعم علاقات القوى السائدة. وهناك عوامل عدة تساعد على الايهام بوجود ما يشبه الاجماع يتعلق أولها باستبعاد فئة من لا رأي لهم. أي تجاهل القطاع الذي لا يجيب على اسئلة الاستطلاع. فمثلاً عندما نسأل الجماهير المصرية: هل تؤيد الصلح مع اسرائيل، فإننا سوف نسجل مثلاً 40 في المئة نعم، 30 في المئة لا، و30 في المئة من دون إجابة. حينئذ سنقول إن النسبة المؤيدة أكبر من النسبة المعارضة، على رغم ان حساب الفئة التي لم تجب مع الفئة المعارضة يبين أن المؤيدين اقلية. ولا شك أن استبعاد فئة من لا رأي لهم او الممتنعين عن الاجابة يماثل ما يحدث في الاستفتاءات عندما لا تحسب الاصوات الممتنعة عن الاشتراك في الاستفتاء. وهذا يشير الى أن الفلسفة الكامنة خلف الاستفتاءات الانتخابية تفرض نفسها على استطلاعات الرأي. فمثلاً عندما نلاحظ عند اجراء استطلاع للرأي بخصوص إحدى القضايا العامة ان أكبر نسبة في الفئة التي لم تجب هي من النساء ولكن هذه النسبة تزداد بين النساء والرجال معاً كلما كان الاستفتاء حول قضايا سياسية. وكذلك كلما كانت الاسئلة تدور حول مسائل ثقافية فإن نسبة من لا رأي له ستزداد بين المجموعات الاقل تعليماً. وعندما يدور الاستفتاء حول مشكلة او قضية اجتماعية او اخلاقية مثل العلاقة بين الآباء والابناء أو الاساتذة والطلاب، تختلف نسبة هذه الفئة من لا رأي لهم باختلاف الشرائح الاجتماعية والمستويات الثقافية والمصالح الطبقية وتوزع سكان بين الريف والمدن. أما العامل الثاني الذي يؤدي الى الايهام بوجود ما يشبه الاجماع فهو يتعلق بطريقة وضع الاسئلة وصوغها وترتيب أولوياتها. فهي غالباً ما توضع في ضوء مصالح الهيئات او القوى التي تتم الاستطلاعات وقياسات الرأي لحسابها. وليس هناك اسوأ من وضع فئات الجمهور في موقف يجبرون فيه على الاجابة عن سؤال او بضعة اسئلة لم يفكروا فيها من قبل، أو الاجابة خطأ عن سؤال سبق ان طرح عليهم من قبل ولكن بصيغة مختلفة، وهنا يحدث سوء الفهم والخلط. ويتعلق العامل الثالث بالدور السلبي الذي تقوم به وسائل الاعلام في عرض نتائج الاستطلاعات،إذ تعمد الصحف والاذاعات المسموعة والمرئية الى تبسيط النتائج واختزالها الى حد الاخلال بطبيعة المادة العلمية. إذ أن أي محاولة لتحليل وتفسير نتائج استطلاعات الرأي تتطلب فحصاً دقيقاً للعينات ومدى تمثيلها للمجتمع الاصلي ولنظام الاسئلة الموضوعة ككل، ولكل سؤال على حدة ومدى اتساقه مع السياق العام للاستفتاء ثم القيام بتحليل الاجابات للتعرف على الاتجاهات التي كانت تسيطر على الجمهور اثناء قيامهم بالاجابة عن الاسئلة ويضاف الى هذا طبيعة القضية او القضايا التي يدور حولها الاستطلاع سياسية كانت أو اقتصادية أو ثقافية واجتماعية. * رئيسة قسم الصحافة في كلية الاعلام - جامعة القاهرة.