وزير الدفاع يستعرض العلاقات الثنائية مع "كوليبالي"    550 نباتاً تخلق بيئة نموذجية ب"محمية الملك"    "المرويّة العربية".. مؤتمر يُعيد حضارة العرب للواجهة    80 شركة سعودية تستعرض منتجاتها في قطر    برعاية ولي العهد.. 600 خبير في ملتقى الرياض لمكافحة الفساد    مساعدات إيوائية لمتضرري سيول حضرموت    تفاصيل صادمة ل«طفل شبرا».. شُقَّ صدره وانتُزعت عيناه وقلبه لبيعها    «كلاسيكو» تأكيد الانتصار أم رد الاعتبار ؟    اللذيذ: سددنا ديون الأندية ودعمناها بالنجوم    برئاسة آل الشيخ.. إحالة تقارير ومقترحات ل«الشورى»    السعودية.. الجُرأة السياسية    5 مشروبات تكبح الرغبة في تناول السكَّر    محافظ الطائف يناقش إطلاق الملتقى العالمي الاول للورد والنباتات العطرية    سمو ولي العهد يهنئ ملك مملكة هولندا بذكرى يوم التحرير في بلاده    انطلاق بطولة كأس النخبة لكرة الطائرة غدا    «عكاظ» ترصد.. 205 ملايين ريال أرباح البنوك يومياً في 2024    المجرشي يودع حياة العزوبية    القضية المركزية    القبض على مروج إمفيتامين مخدر    تدخل عاجل ينقذ حياة سيدة تعرضت لحادث مروري    وصول التوءم السيامي الفلبيني إلى الرياض    القادسية لحسم الصعود أمام أحد.. الجبلين يواجه العين    صندوق البيئة يطلق برنامج الحوافز والمنح    السعودية وأميركا.. صفحة علاقات مختلفة ولكنها جديدة    وزير الموارد البشرية يفتتح المؤتمر الدولي للسلامة والصحة المهنية    تقويم لائحة الوظائف والنظر في المسارات والفصول الثلاثة.. ماذا تم..؟    ثلاثة آلاف ساعة تطوعية بجمعية الصم بالشرقية    الذكاء الصناعي ركيزة في الرؤية    100 مليون ريال لمشروعات صيانة وتشغيل «1332» مسجداً وجامعاً    أمير الرياض يؤدي صلاة الميت على بدر بن عبدالمحسن    فيصل بن نواف: جهود الجهات الأمنيّة محل تقدير الجميع    هدف لميسي وثلاثية لسواريس مع ميامي    فيصل بن مشعل: يشيد بالمنجزات الطبية في القصيم    شاركني مشاكلك وسنبحث معاً عن الحلول    وزير الدفاع يستعرض العلاقات الثنائية مع "كوليبالي"    "سلمان للإغاثة" يُدشِّن البرنامج الطبي التطوعي لجراحة القلب المفتوح والقسطرة بالجمهورية اليمنية    أمراء ومسؤولون وقيادات عسكرية يعزون آل العنقاوي في الفريق طلال    فلكية جدة : شمس منتصف الليل ظاهرة طبيعية    باسم يحتفل بعقد قرانه    البحث عن حمار هارب يشغل مواقع التواصل    60 طالباً وطالبة يوثقون موسم «الجاكرندا» في «شارع الفن» بأبها    أبها تستضيف أول ملتقى تدريبي للطلاب المشاركين في برنامج الفورمولا 1 في المدارس    الدور الحضاري    رحيل «البدر» الفاجع.. «ما بقى لي قلب»    المعمر، وحمدان، وأبو السمح، والخياط !    ورحل البدر اللهم وسع مدخله وأكرم نزله    عزل المجلس المؤقت    تأملاّيه سياسية في الحالة العربية    يوفنتوس يتعادل مع روما في الدوري الإيطالي    "جاياردو" على رادار 3 أندية أوروبية    تقدير دعم المملكة ل "التحالف الإسلامي لمحاربة الإرهاب"    مهرجان الحريد    إستشارية: الساعة البيولوجية تتعطَّل بعد الولادة    آل معمر يشكرون خادم الحرمين الشريفين وولي العهد    النملة والهدهد    لا توجد حسابات لأئمة الحرمين في مواقع التواصل... ولا صحة لما ينشر فيها    "الفقه الإسلامي" يُثمّن بيان كبار العلماء بشأن "الحج"    كيفية «حلب» الحبيب !    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الرئيس السابق للمجلس الأعلى للدولة الجزائرية يستأنف الطعن في الحكم . علي كافي ل "الحياة" : السلطة وراء مصادرة مذكراتي
نشر في الحياة يوم 03 - 09 - 2000

شهدت الجزائر في الأسبوع الماضي بداية مواجهة بين الرئاسة وقيادة الجيش أسفرت عن توازنات جديدة يتوقع ان تمهد الطريق لتحولات وتغييرات لا يعرف مضمونها منذ الآن.
"الحياة" التقت ثلاث شخصيات سياسية علي كافي ، رضا مالك، والجنرال رشيد بن يلس مارست تأثيرها الثقافي على توجهات السلطة منذ العام 1992.
وهنا اللقاء مع الرئيس السابق علي كافي.
استأنف الرئيس السابق للمجلس الأعلى للدولة الجزائرية السيد علي كافي طعناً في حكم أصدرته محكمة بئر مراد رايس في الجزائر العاصمة، قضى بسحب مذكراته من السوق وحذف ما ورد في الصفحات 121 و122 و123 عن قضية عبان رمضان التي يتهم فيها الثورة بقتله في المغرب. في حين أفادت الاذاعة الجزائرية أخيراً انه رمضان سقط شهيداً في ميدان الشرف.
مجلس القضاء الجزائري لم يحدد بعد موعداً لجلسة الاستئناف في هذه القضية التي تعتبر ظاهرة جديدة على السلطة القضائية الجزائرية. إذ لم يسبق أن أوقفت كتاباً أو نشرت حكماً في الصحافة.
وما أثار استياء ورثة رمضان الوثيقة التي نشرها الرئيس كافي، وهي محضر اجتماع بينه وبين العقيد عميروش، تدين رمضان، ويصعب الطعن فيها لأن كاتبها لا يزال حياً وهو الأمين خان. واتهم كافي في حديث الى "الحياة"، السلطة الجزائرية أنها وراء هذا الحكم الصادر ضده، لأنه لا يساير سياستها، ويعارض الطريقة التي تتم بها عمليات إعادة الاعتبار الى "الأقدام السود"، وكذلك الى من كانت لهم علاقات "مشبوهة" مع فرنسا.
هل فوجئت بالحكم الصادر في حق مذكراتك، أم كنت تتوقع ذلك؟
- أعتقد أن الحكم الصادر لم يفاجئني وحدي، بل فاجأ الرأي العام الجزائري، إذ للمرة الأولى تتدخل محكمة مدنية في قضايا تاريخية شائكة، وهذا التدخل ليس من اختصاص المحاكم، انما من اختصاص الباحثين والمؤرخين ومن عاشوا الثورة، ما يدل ان الهدف ليس المذكرات في حد ذاتها، خصوصاً ان ما ورد في الصفحات المشار اليها 121 - 123، لا يحمل كلمة واحدة تمس بعبان رمضان أو تتهمه بالخيانة كما ادعى البعض، وإنما منع المجاهدين من كتابة التاريخ. فالمفاجأة بالنسبة الي كانت متوقعة، وظهرت ملامح الحكم الصادر في عمليات التأجيل المتعلقة بالنطق به. فللمرة الأولى تطلب محكمة من المتنازعين تحديد موعد للقاء لتحديد موعد آخر للنطق بالحكم، وكان مقرراً أن يكون يوم 22 تموز يوليو الماضي موعداً لهيئتي المحامين للاتفاق على موعد تكشف فيه العدالة حكمها الصادر في حق احدهما. واعتبر هذا الحكم مساساً خطيراً بحرية التعبير والرأي. فهو حكم سياسي صدر لترضية أطراف نافذين في السلطة.
لذا لم تتقيد المحكمة بالملف المطروح للنقاش والذي يفرق بين ما ورد في المذكرات عن عبان رمضان، وهو كلام ليس فيه مساس بكرامة المعني بالأمر، وما نشر وهو وثيقة رسمية لا يمكن الطعن في صدقيتها.
هل يفهم من هذا أن موقف الرئيس عبدالعزيز بوتفليقة من الكتاب المعبر عنه في كل من "جيجل" و"الولاية الثالثة" هو الذي دفع المحكمة الى الاقتداء به؟
- عندما صدرت المذكرات أهديت نسخة منها الى رئيس الجمهورية، فحادثني هاتفياً بكلام ممزوج بالشكر، ثم تلقيت دعوة ليعلق لي وساماً، بصفتي رئيساً سابقاً للمجلس الأعلى للدولة، وأثناء الاحتفال أبلغني ان مذكراتي أثارت ضجة وكان ردي بسيطاً، وهو ان هذه الضجة سببها الرئاسة. وذكرت له اسم المستشار الذي "يشوش" على المذكرات. والمفاجأة كانت عندما تحول الكلام المنقول الي موقفاً من الرئيس حيال مذكراتي.
وبدأ بالهجوم عليّ شخصياً في مدينة جيجل لمناسبة ذكرى وفاة فرحات عباس رئيس أول حكومة جزائرية موقتة، وكنت من المدعوين إلا أنني لم ألب الدعوة، لأسباب ليس هذا مجال ذكرها. وتطور الموقف في رسالة طويلة بعث بها الرئيس الى مؤتمر مجاهدي الولاية الثالثة التاريخية، وقرأها مستشاره الذي يقف وراء "الدوشة".
وكان ردي على هذا الموقف المعادي للكتاب، الحوار الذي أدليت به الى "الحياة" ما أثار استياء لدى السلطة. وما دمنا ننتمي الى العالم الثالث فسلوك القاضي الأول للبلاد أو مواقفه، تتبع بحذافيرها، لذا فالعدالة اتخذت الحكم بناء على موقف الرئيس من المذكرات، لا على أساس ضوابط قانونية، ومواد محددة. فالقذف في القانون الجزائري مرتبط بالصحافة. وارضاء الحاكم في عالمنا على حساب استقلال العدالة من أولايات المسؤولين والموظفين عندنا.
قدمت استئنافاً للطعن في الحكم في مجلس قضاء الجزائر، في حال تأكيد الحكم، هل تلتزم طلب المحكمة حذف فقرات من الكتاب؟
- هناك مغالطة وقعت فيها الصحافة الفرنكوفونية عندما ترجمت "الوطن" هذه الفقرات وشوهتها، فتلقاها الكثير من الجهات مشوهة. ولا أعتقد أن بعض من كتبوا في الموضوع، وخصوصاً المفرنسين اطلعوا على المذكرات لأنها لم تصدر بعد بالفرنسية. ولا تحمل الفقرات المنصوص عليها في الحكم كلمة واحدة تدخل في قاموس مشتقات القذف، وقد صححت "لوماتان" أخيراً الصورة عندما نشرتها مع ترجمة صحيحة لها، ما جعل الكثير من الأصوات يعيد النظر في المسألة وسأل: على أي أساس صدر الحكم في المذكرات؟ لجأت الى الاستئناف اقتناعاً مني أن المحكمة التي أصدرت الحكم ليست مؤهلة للحكم في القضايا التاريخية التي تمس مصير الثورة أو الشعب. وفي حال تأكيد الحكم ستكون لهذا القرار تبعات خطيرة على مصير الثورة وقادتها خصوصاً انني أحد العقداء العشرة الذين كانوا يشاركون في صنع القرار. لذا اعتبر الحكم مساساً بحرية التعبير ومحاولة لمنع المجاهدين الأحياء من الادلاء بشهاداتهم حتى تهيّأ الأجواء لمحاكمة الثورة ورجالاتها.
وما كتبته شخصياً عن عبان رمضان موثق ومنشور في مئات الكتب الفرنسية، لكن شهادة العقيد عميروش التي نشرتها في الكتاب، هي التي اثارت الرعب في اعداء الثورة وجعلت كثراً يتخوفون من وجود وثائق لم تنشر قد تمس من كانوا يتعاونون مع العدو.
أما بالنسبة الى حذف هذه الفقرات فلا أعتقد ان المقصود بالقضية حذف صفحتين من الكتاب، وإنما للأمر أهدافاً أخرى، هي ما يحضر ويطبخ في الكواليس ضد الثورة ورجالاتها، وقد نبهت الى ذلك عندما غادرت رئاسة الجمهورية عام 1994.
ارتفعت أصوات تطالب بحرق المذكرات لأنها تشوه نضال احدى الولايات، ولم يتحرك المجاهدون للرد على هذه الأصوات؟
- سكوت المجاهدين مسألة مرتبطة بوسائل التعبير. فالمفترض بوسائل الاعلام ولا سيما منها السمعية والبصرية، ان تتحرك للتحري عن بعض الحقائق المعروضة في الكتاب، خصوصاً أن هناك مجاهدين لا يزالون أحياء وشاركوا في الأحداث التي تعرضت لها.
ولكن لا نستطيع أن نلوم هؤلاء المجاهدين وانما التنظيمات التي تستغلهم وهي تقف متفرجة. وقد استغربت ظهور مثل هذه الأصوات الداعية الى حرق الكتاب، وكأن الخوف صار من الكتاب لا من الأمية التي تنشر بنسب عالية في الجزائر.
كنت وما زلت أعتقد أن ارتفاع هذه الأصوات في ولايات شكلت عمق الثورة وأعطت أغلى ما عندها من المجاهدين، وتركت رموزاً يفتخر بها يسيء الى الثورة ولا يخدمها.
ولكن يجب ألا تغيب عن أذهاننا ان مجتمعاتنا تحكمها العشائرية والقبلية، وهو ما يظهر جلياً من ردود أفعال لكتاب حشروا انفسهم في قضية، بحكم الانتماء الجهوي، وهم لا يملكون ما يؤهلهم للكتابة في مثل هذه القضايا التاريخية الشائكة والمعقدة. وثمة كتابات عن المذكرات اضاءت الكثير مما كان مخفياً، ولعل هذا ما دفع كُثُراً من الشخصيات الى نشر مذكراتهم.
ويكفيني فخراً أن مذكراتي كانت حافزاً لظهور مذكرات أخرى. لكنني ما زلت أعتقد أن بعضاً ممن كتبوا عن عبان رمضان يريدون "التخلاط" ومنهم اتخذ مواقف مسبقة تحمل في طياتها الكراهية والحقد على كل من يدافع عن الثورة، وتشدد على "المزايدة فيها" لاغراض سياسوية، أما من كتبوا لربح موقف آني، يخدمهم في ظروف مرحلية فهم قلة، ولم يضيفوا شيئاً الى الموضوع المطروح. واذا لم نعالج أخطاءنا وممارساتنا الماضية، كيف نقدر على معالجة المشكلات المطروحة الآن وتطورات الواقع الجديد.
لكن هذه المذكرات التي ظهرت بعد كتابك جاءت كرد فعل، ولم تكن مذكرات بالمفهوم الصحيح للكلمة؟
- أكرر. يكفيني شرفاً وفخراً أن مذكراتي كانت سبباً في دفع حركة كتابة التاريخ خطوات الى الأمام. فقد أحيت عملاً ثقافياً من نوع آخر، كنا نفتقده في الجزائر، وليس لي تعليق عليها.
أحد القادة من الذين كانوا يشكلون القيادة الشرعية للبلاد، والذين حاكموا واحداً منهم، لا يزال على قيد الحياة، وهو المجاهد عبدالله بن طوبال الذي منعت السلطات في عهد الشاذلي بن جديد نشر مذكراته، لمَ لم تسانده آنذاك؟
- أولاً، المجاهد والمناضل عبدالله بن طوبال كان مسؤولاً عني، وبالتالي فأنا أقدره وأحترمه وهو من أوائل المجاهدين الذين اشعلوا فتيل الثورة في الجزائر، وتربطني به صداقة عائلية. ثانياً، لم يكن لي علم أن السلطات منعت مذكراته، إلا بعد عودتي الى الجزائر.
وما أعرفه عنه شخصياً، انه ذات يوم، طلبني الى منزله، لإلقاء الضوء على خلفية بعض الأحداث التي عشتها وإياه، فوجدت عنده الاستاذين محفوظ بنون ودحو جربال، وكانا يشرفان على اعداد مذكراته، فقدمت اليه معلومات مسجلة عما طلبه مني شخصياً. ولم أكن أعرف انه قدم مذكراته للنشر في شركة "الأسناد" وانها منعت صدورها، لأنني كنت آنذاك خارج البلاد، بصفتي سفيراً. وما وصل إلي من بعض الأصدقاء ان الشركة طلبت منه حذف الكثير من الفقرات.
ما يعني بالنسبة اليك اعادة الاعتبار الى من اعدمتهم الثورة او من اغتيلوا بعد ذلك أو "الأقدام السود"؟
- أعتقد أن اعادة الاعتبار ليست مسألة بسيطة وانما معقدة، وتحتاج الى مراعاة مشاعر الشعب، والى الكشف عن الحقائق واسترجاع الوثائق قبل اتخاذ أي قرار، قد يعطي مفهوماً خاطئاً للأجيال عن الثورة وقادتها. لذا فالقضية الجوهرية ليست قضية عبان - كافي. فعبان أعدمته قيادة الثورة وهي القيادة الشرعية وما قلته عنه هو ما قاله من كانوا معي في الثورة. وانما القضية الأساسية هي قضية الثورة ومصيرها، وهي قضية البلاد ومصير الشعب.
فإذا كانت كتابة التاريخ شهادات ووثائق ورأي ووجهات نظر، فالتاريخ يصحح من خلال تفاعل هذه العناصر، ومصادرة أي عنصر من هذه العناصر هو مصادرة تاريخ الثورة بالضغط أو التعتيم أو التشويه في كثير من الأحيان. ومن يقرأ العدد الهائل من الكتب الفرنسية عن الثورة الجزائرية يجد نفسه أمام سيل من المعلومات الخاطئة عنها والتشويه الكبير لرموزها. ومع ذلك، لم يتم الرد عليها، وانما هناك من يريد انطلاقاً من هذا التشويه اعادة الاعتبار الى من شوهوها، كأنه يبغي تصفية حساب مع الثورة واعادة كتابة تاريخها بالطريقة التي يريدها أصحاب هذا التيار.
وقبل أن تعيد الاعتبار يجب التفكير جيداً في طريقة تسجيل الوقائع والأحداث لأن صناعها في انقراض متواصل، وعلينا تشجيع نشر شهادات الأحياء ممن عاشوها.
أما بالنسبة الى من اغتيلوا بعد الاستقلال، فذاك كان نتيجة لخلافات مع النظام القائم، على الحكم، أدت الى سقوط شخصيات مهمة في تاريخ الجزائر، وكانت تحمل بذور المعارضة في وقت لم يكن مسموحاً للمعارضة بالحديث أو النقد. لذا فإعادة الاعتبار الى العقيد شعباني أو محمد خيضر أو كريم بلقاسم وغيرهم عمل يجب التنويه به.
وقد عملت، عندما كنت رئيساً لمنظمة المجاهدين على تسمية أكبر شارع في العاصمة الجزائرية باسم كريم بلقاسم بعدما كان يحمل اسم "صالح بوعكوير". لكن هذه العملية تبقى مجرد مبادرات شخصية، واعادة الاعتبار الى هؤلاء الثوار يجب أن تتكفل بها لجنة وطنية لتمكن عائلاتهم من نيل حقوقها. وبالنسبة الى الصراعات داخل الثورة وما خلفته من ضحايا، يصعب اليوم الحديث عنها معزولة عن اطارها العام. وعليه، من الضروري تكوين لجنة وطنية مشكلة من مؤرخين وباحثين وممن بقي من قادة الثورة، لتعاود قراءة الوقائع وتمكن الشعب من معرفة الحقائق والملابسات المتعلقة ببعض القضايا المحظور الحديث عنها.
ولكن لا أعتقد أن "الأقدام السود" أو الحركة الخونة يحتاجون الى اعادة الاعتبار، وعلينا اقفال ملفهم وطي الماضي حتى لا ننبش سجلات العائلات المتضررة منهم، ونثير الفتن والنعرات بين أفراد الشعب.
لماذا أثارت مذكراتك كل هذا الضجيج على رغم انها نقلت فقط ما قاله العقيد عميروش، مع ملاحظة أن مئات الكتب بالفرنسية تعرضت لموضوع اعدام الثورة لعبان رمضان؟ وهل لهذا الانفعا طابع جهوي أم انه دفاع عن مقدمات الثورة.
- المدهش اننا نتكلم على ثورة هدفها الحرية، وأن يصادر كتاب في عصر مفتوح، ندعي فيه اننا في نظام تعددي ديموقراطي. والملاحظ ان المصادرة لا تقتصر على كتابة المذكرات التي هي حق مشروع وواجب، لكنها بدأت تمتد تدريجاً، وبطريقة مفضوحة الى النشاط السياسي والاعلامي.
وبصفتي كنت مسؤولاً في قيادة الثورة، من حقي أن أدلي برأيي في الأحداث التي شاركت في صنعها، وبالشهادات التي تسهم في انارة تاريخ هذه الثورة العظيمة. وقد أردت أن ألفت الانتباه الى الاختراق المبكر للثورة الجزائرية، وهي في عنفوانها، والنتائج المترتبة على ذلك. ولفتتني عودة المظاهر التي قامت من أجلها ثورة "أول نوفمبر" مثل تقليص مساحة العلم وحرمان الضعفاء اياه، ومظاهر التسول والفقر، والأمراض المعدية ونقص العلاج، والهوة بين الحكم والاحتراف السياسي. فالثورة التي أخرجت الجزائر من المجهول الى المعلوم تسير تحت وطأة هذه المظاهر، وقد بدأت أسبابها تتجمع في وقت مبكر.
وبعد التضحيات الجسيمة للشعب الجزائري، نرى اليوم الجزائر تسير مرة أخرى نحو المجهول، وتنأى عن الأهداف الكبرى التي قامت من أجلها، مثل استرجاع السيادة بكل مكوناتها، ورفع الغبن عن الشعب، والخروج من التخلف وبناء مجتمع حديث ودولة عصرية تتحقق فيها الحرية والعدالة والرفاهية.
ويظهر اختراق السيادة في الخضوع للمنظمات الدولية، ولا سيما المالية منها، وضغط المنظمات غير الحكومية للاعتراف باسرائيل، والمساومات المتعددة التي أصبحت الجزائر موضوعاً لها. وحتى أكون واضحاً في اجابتي، أشير الى أن بعض المجاهدين لا يزال يصر على أن الصورة حال مقدسة ولا يجوز المساس بتاريخها ورموزها، بمعنى أن من غير الجائز انتقاد اعضائها.
وعلى رغم اقتناعي أن قادة الثورة بشر يصيبون ويخطئون، وهو ما أكدته في مقدمة المذكرات، علينا أن ننقل الى الأجيال الجديدة الصورة الواقعية للثورة لكي يتعلموا منها، وعلينا أن نتجاوز حال التقديس.
فالخيبة التي تنجم من الجيل الجديد حين يكتشف ان هذا المقدس لم يكن مقدساً ستدفعه الى اتخاذ موقف سلبي قد يجره الى الهرب من بلده الى بلد المستعمر. والثورة لم تكذب على الشعب لتحرره من الاستعمار، لأن هذا الشعب كان عمقها وعلى قادة الثورة المتبقين أطال الله أعمارهم ألا يكذبوا على الأجيال اللاحقة. فالحياة لا تحتمل الكذب، والحياة بلا ألوان لا طعم لها، والثورة الجزائرية كانت ألواناً متعددة، وعلينا أن نقر بذلك ونتعامل معه.
أما بالنسبة الى الطابع الجهوي فهو انفعالات آنية لأن ثمة مناطق أصبحت تحس أنها لم تحصل على حصتها من كعكة الاستقلال، مع الملاحظة ان قرار اعدام عبان رمضان اتخذه قادة الثورة الشرعيون الذين كانوا يمثلون مختلف الجهات، بما فيها منطقته، وهو واحد من هذه القيادة. وبالتالي فالانفعال الراهن على ما أوردته في مذكراتي آني وليست له علاقة بقضية اعدام عبان رمضان. وفي هذا الشأن فتش عن واقع السلطة الراهنة للاجابة عن هذا السؤال في شأن الانفعال.
لاحظت شخصياً أن مذكراتك لازمت الحذر الشديد في وصف الوقائع او ذكر المسميات بما فيها الأشياء التي تخصك شخصياً، خصوصاً طفولتك. ويشعر القارئ كأنك ولدت عقيداً في الثورة، فما الذي دفعك الى مثل هذا الحذر؟
- الذين ساهموا في مراجعة بعض الفصول من المذكرات تعاملوا مع الوثائق التي قدمتها في حذر أكثر، وتجنبوا استنطاقي في القضايا الشخصية. أعددت هذه المذكرات انطلاقاً من أنها ليست مذكرات شخصية بمقدار ما هي شاهد على مرحلة شاركت فيها، وقدمت فيها ما له علاقة مباشرة بي، من الزاوية التي كنت أحتلها، وهو الأمر الذي قد تختلف رؤية الآخرين اليه، لأنهم كانوا في مواقع اخرى، ويرون الأمور من الزاوية التي كانوا يحتلونها، وكانت اقتراحات من قرأوا مذكراتي قبل نشرها، عدم فتح الجروح كاملة حتى لا تزيد في عمق الجروح، خصوصاً أنها تنشر في وقت لا يحتمل البلد مزيداً منها.
ونظراً الى موقعي آنذاك في السلطة، فضلت عدم نشرها حتى غادرت السلطة، لذا استبعدت الكثير من الوثائق والقضايا، لعل الوضع يهدأ وأعود اليها في شكل متأنٍ، من دون الوقوع تحت ضغط من الضغوط الخارجية.
وسيكون الجزء الثاني من المذكرات شهادة اخرى عن واقع عشته، بعضه جزائري وبعضه الآخر عربي. وأنا أتابع كتابة هذا الجزء آخذاً في الاعتبار ما قد يثيره داخلياً وخارجياً، متحاشياً ما قد يمس أمن الدولة.
ألا ترى أن فرنسا هي وراء تحريك الموضوع وان اتباعها، أو من تسميهم ب"حزب فرنسا" هم الذين تطوعوا من تلقاء ذواتهم للذود عنها؟
- فرنسا بلد لديه تقاليد سياسية وثقافية واجتماعية ولا أعتقد أنه معني، كبلد، بما يكتب عن الثورة الجزائرية، الا بمقدار صدقية الكتابة كتوثيق أو كشهادات، ومذكراتي تدخل في هذا السياق.
أما أتباع فرنسا في الجزائر فهم متطوعون انطلاقاً من ظنهم أن ما يقومون به قد يخدم مصالح أسيادهم في الضفة الأخرى لكن أسيادهم أعقل منهم بكثير. فهؤلاء الأتباع يخشون كشف جرائم فرنسا في الجزائر أكثر من فرنسا نفسها. خذ على سبيل المثال قضية المجاهدة السيدة ليلى ايغيلحريز، لم تجرؤ الصحافة عندنا على ذكر التعذيب الذي تعرضت له إلا بعدما أجرت جريدة "لوموند" الفرنسية مقابلة معها وكشف ملابسات الجريمة.
أشرت في كتابك الى اختلافات بين قادة الثورة على مستوى الولايات أو قيادات الخارج، فهل مظاهر هذا الصراع القائم الآن في الجزائر امتداد لتلك الخلافات؟ واذا كان كذلك فهل طابعها جهوي أم عرقي أم مذهبي؟
- الخلافات والصراعات بين قادة الثورة لم تتوقف عند نيل الاستقلال، بل تواصلت بعده. ولعل الاغتيالات التي مست قادة الثورة بعد الاستقلال دليل مادي الى عمق الصراع والخلاف. إلا أن هذا الصراع لم يأخذ منحى الجهوية أو العرقية أو المذهبية بسبب الطابع الديني لمفهوم الجهاد، في بلد مسلم ذي مذهب واحد هو المالكية، في مواجهة المستعمر المسيحي.
لماذا لم تسلم فرنسا أرشيف المرحلة الاستعمارية على رغم انه حق معترف به في القانون الدولي؟
- لأن المطالبين حتى الآن باستعادة الأرشيف أصوات غير الرسمية، وعموماً من رجال الاعلام أو الباحثين او المؤرخين، ثم ان عودة الأرشيف قد تكشف أشياء. وهناك مسؤولون لا يحبون كشفها ولا يحرجني ذكر أسمائهم اذا اقتضى الأمر.
هل تعني أن هؤلاء المسؤولين أكثر ولاء للجهة الأخرى؟
- عندما تحدثت عن حزب فرنسا في الجزائر كنت متأكداً ان هناك أطرافاً لا يريدون من الجزائر أن تصبح دولة رائدة في العالم الثالث وقائدة للوطن العربي. وكل الدول التي استعمرت طويلاً كان من الصعب على كثر من أبنائها التخلص من محاكاة المستعمر، حتى لا تتهمهم بالتآمر على البلد، على رغم ان هذا السلوك ينعكس سلباً على البلد، لأنه يورطه في قضايا ليست من مصلحته. وقد تكون لهؤلاء المسؤولين نيات طيبة لخدمة بلدهم، ولكن في السياسة ليست الأعمال بالنيات.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.