مسؤولون: الخطاب ترجمة لاهتمام القيادة بتعزيز الأمن والاستقرار    وزير الداخلية لنظيره القطري: القيادة وجهت بتسخير الإمكانات لدعمكم    المملكة تعزي قطر في وفاة أحد منسوبي قوة الأمن الداخلي جراء الاعتداء الإسرائيلي الآثم    أرامكو تصدر صكوكاً دولارية دولية    إسهاماً في تعزيز مسيرة القطاع في السعودية.. برنامج لتأهيل «خبراء المستقبل» في الأمن السيبراني    «الفطرية»: برنامج لمراقبة الشعاب المرجانية    وزير الدفاع لرئيس وزراء قطر: نقف معكم وندين الهجوم الإجرامي السافر    200 شخص اعتقلوا في أول يوم لحكومة لوكورنو.. احتجاجات واسعة في فرنسا    السعودية ترحب وتدعم انتهاج الحلول الدبلوماسية.. اتفاق بين إيران والوكالة الذرية على استئناف التعاون    الأخضر بطلاً لكأس الخليج تحت 20 عاماً    إثارة دوري روشن تعود بانطلاق الجولة الثانية.. الاتحاد والهلال يواجهان الفتح والقادسية    هوساوي: أعتز برحلتي الجديدة مع الأهلي    أكد أن النجاحات تحققت بفضل التعاون والتكامل.. نائب أمير مكة يطلع على خطط طوارئ الحج    نائب أمير منطقة مكة المكرمة يستقبل رئيس فريق تقييم أداء الجهات الحكومية المشاركة في تنفيذ الخطة العامة للطوارئ    منافسة نسائية في دراما رمضان 2026    معرض الصقور والصيد السعودي الدولي 2025.. موروث ثقافي يعزز الأثر الاجتماعي والحراك الاقتصادي    سكان غزة.. يرفضون أوامر الإخلاء ومحاولات التهجير    العراق: الإفراج عن باحثة مختطفة منذ 2023    «الرياض» ترصد أبرز التجارب العالمية في سوق الرهن العقاري وتأثيره على الإسكان    حساب المواطن ثلاثة مليارات ريال لمستفيدي شهر سبتمبر    الفضلي يستعرض مشروعات المياه    فيلانويفا يدافع عن قميص الفيحاء    باتشيكو حارساً للفتح    غوميز: مهمتنا صعبة أمام الاتحاد    مُحافظ الطائف: الخطاب الملكي تجسيد رؤية القيادة لمستقبل المملكة    اليوم الوطني.. نبراس للتنمية والأمان    هيئة الشرقية تنظّم "سبل الوقاية من الابتزاز"    الكشافة السعودية تشارك في الجامبوري العالمي    مبادرات جمعية الصم تخدم ثلاثة آلاف مستفيد    خطاب يصوغ المستقبل    واشنطن تستعد لتحرّك حازم ضد موسكو    "التعليم" توقع اتفاقية "الروبوت والرياضات اللاسلكية"    «آسان» و«الدارة» يدعمان استدامة التراث السعودي    «سلطان الخيرية» تعزز تعليم العربية في آسيا الوسطى    «الحج والعمرة» تُطلق تحدي «إعاشة ثون»    التأييد الحقيقي    "الشيخوخة الصحية" يلفت أنظار زوار فعالية العلاج الطبيعي بسيهات    إنقاذ حياة مواطنَيْن من تمزّق الحاجز البطيني    2.47 تريليون ريال عقود التمويل الإسلامي    59% يفضلون تحويل الأموال عبر التطبيقات الرقمية    الهجوم الإسرائيلي في قطر يفضح تقاعس واشنطن ويغضب الخليج    هل توقف العقوبات انتهاكات الاحتلال في غزة    المكملات بين الاستخدام الواعي والانزلاق الخفي    مُحافظ الطائف: الخطاب الملكي تجسيد رؤية القيادة لمستقبل المملكة    الأمير فهد بن جلوي توَّج الملاك الفائزين في تاسع أيام المهرجان    السبع العجاف والسبع السمان: قانون التحول في مسيرة الحياة    فضيلة المستشار الشرعي بجازان: " ثمرة تماسك المجتمع تنمية الوطن وازدهاره"    تعليم الطائف يعلن بدء استقبال طلبات إعادة شهادة الثانوية لعام 1447    نائب أمير منطقة تبوك يستعرض منجزات وأعمال لجنة تراحم بالمنطقة    ختام بطولات الموسم الثالث من الدوري السعودي للرياضات القتالية الإلكترونية    البرامج الجامعية القصيرة تمهد لجيل من الكفاءات الصحية الشابة    أمير المدينة يلتقي العلماء والمشاركين في حلقة نقاش "المزارع الوقفية"    أحلام تبدأ بروفاتها المكثفة استعدادًا لحفلها في موسم جدة    نيابة عن خادم الحرمين.. ولي العهد يُلقي الخطاب الملكي السنوي لافتتاح أعمال الشورى في الدور التشريغي 9 اليوم    "التخصصي" يفتتح جناح الأعصاب الذكي    إنتاج أول فيلم رسوم بالذكاء الاصطناعي    مجلس الوزراء برئاسة ولي العهد: سلطات الاحتلال تمارس انتهاكات جسيمة ويجب محاسبتها    أهمية إدراج فحص المخدرات والأمراض النفسية قبل الزواج    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أضواء على الانتخابات الأميركية ومعانيها الداخلية والخارجية . فئات أربع تتميز بحضور محدود ... ورمزي أحياناً
نشر في الحياة يوم 20 - 09 - 2000

الانتماء الحزبي في الولايات المتحدة هو انتماء "ليّن"، أي يكفي المواطن أن يعلن ولاء حزبياً عند تسجيله اسمه على لوائح الشطب ليصبح في امكانه المشاركة في اختيار المرشحين الحزبيين في الانتخابات الحزبية، من دون أن يكون ملزماً بطبيعة الحال أن يقترع لمصلحتهم في الانتخابات العامة. وليس في النظام السياسي الأميركي ما يشرعن استئثار الحزبين الرئيسيين، الديموقراطي والجمهوري، بالسلطة. ولكن، وعلى رغم المحاولات المتكررة الخجولة والحازمة على حد سواء، ما زال الحضور السياسي للأحزاب "الثالثة" يقتصر على الهامش.
والتفسيرات لهذه المفارقة، أي لسهولة تأسيس الأحزاب والانتساب اليها من جهة، ولهيمنة الحزبين الرئيسيين على الحياة السياسية، تتعدد. فمنها ما يرى ان الحزبين الكبيرين يتلاعبان بالنظام السياسي، عبر اقرار التشريعات التي تحبذ "نظام الحزبين"، ومنها ما يؤكد انهما بمثابة "احتكار طبيعي" أي ان حجمهما وتوازنهما يمنع اختراق سيطرتهما على السياسة الأميركية، ومنها ما يعتبر ان الأمر يعود ببساطة الى نجاحهما باستقطاب الفئات الاجتماعية والاقتصادية المختلفة، مما يترك هامشاً ضيقاً لنجاح الطروحات البديلة. وهذه التفسيرات طبعاً لا تتناقض بالضرورة، ويعززها جميعاً الطابع "الجبهوي" العريض للحزبين، أي أن الولاء الحزبي المطلوب من الناخبين والمرشحين على السواء هو ولاء نسبي مرحلي يبقى محكوماً في جميع الأحوال بالقناعة الشخصية. ولكن، ثمة سبب آخر بديهي لتخلف الأحزاب "الثالثة"، وهو أنها على الغالب لم تتمكن من حل تناقضاتها الداخلية، ومن تشكيل بنية مؤسساتية، ومن ابراز قيادات ذات مصداقية.
يمكن تقسيم الأحزاب "الثالثة" في الولايات المتحدة الى أربع فئات: الأولى هي فئة الأحزاب ذات الحضور التنظيمي والاعلامي في الولايات كافة، والثانية هي فئة الأحزاب ذات الحضور المحدود، والثالثة هي فئة الأحزاب ذات الحضور التنظيمي والاعلامي في ولايات معينة، والرابعة هي فئة الأحزاب ذات الحضور الرمزي أو النظري، فهذه الأخيرة تضم مشاريع الأحزاب وتتفاوت في جديتها، ومعظم تشكيلاتها يتكون وتندثر بين ليلة وضحاها.
أما أحزاب الولايات، فالبعض منها قد حقق قدراً من النفوذ، لا سيما في الانتخابات المحلية، ويذكر منها على سبيل المثال حزب الاستقلال ذي الحضور البارز في ولاية نيويورك. أما أحزاب الفئة الثانية، فأكثرها اشتراكي الانتماء. غير ان الاشتراكية في الولايات المتحدة فشلت في تعبئة جمهورها "الطبيعي"، أي القطاع العمالي، والذي لا ينسجم في تركيبته الاجتماعية وهرميته الاقتصادية مع التوقعات النظرية للأدبيات الاشتراكية العالمية، فاستعاضت عنه غالباً باللجوء الى الخطاب المعادي للعنصرية، والذي يقترب بدوره من التحفيز العرقي أحياناً، أو الى التقوقع في تشكيلات تنظيرية تناصب العداء لبعضها البعض، بقدر ما تعمل على تفنيد الحالة السياسية والاقتصادية في البلاد. والواقع ان المعطيات الاجتماعية والاقتصادية في الولايات المتحدة تضع الأحزاب الاشتراكية في مأزق خطابي. فالحزب الشيوعي، على سبيل المثال، يسعى الى الذود عن مصالح "الكادحين" الذين يقل دخلهم السنوي عن ستين ألف دولار!
أما الأحزاب "الثالثة" من الفئة الأولى، فهي خمسة: الأول هو حزب الاصلاح الذي أسسه رجل الأعمال والمرشح الرئاسي في الدورتين السابقتين روس بيرو. وهو الحزب الذي تمكن المعلق الصحافي المحافظ والمرشح الجمهوري السابق باتريك بوكانان، من الحصول على ترشيحه للانتخابات الرئاسية المقبلة، على رغم التشكيك بسلامة العملية التي أدت الى فوزه بهذا الترشيح. والثاني هو حزب الخضر، والواقع ان هذا الحزب هو اتحاد أحزاب ناشطة في الولايات المختلفة على أسس متقاربة انما غير متطابقة. فلا شك ان ارتقاء هذا الحزب الى طليعة الفئة الأولى يعود الى ترشيح المدافع عن حقوق المستهلك، الناشط التقدمي رالف نادر لخوض المعركة الرئاسية باسمه، لما لنادر من المصداقية في مختلف الأوساط الاجتماعية في الولايات المتحدة. والأحزاب الأخرى هي الحزب التحرري، وحزب القانون الطبيعي، وحزب الدستور، ولكل منها مرشح في الانتخابات الرئاسية المقبلة. فالمرشحون هم على التوالي هاري براون، وجون هايغلن، وهاورد فيليبس.
والتباين بين الأحزاب "الثالثة" الخمسة، وبينها وبين الحزبين الرئيسيين، عقائدي ومبدئي، وليس فقط مسألة اختلاف على اسم المرشح. ولتوضيح هذا التباين، يمكن الاشارة الى ان صلب السجال السياسي في الولايات المتحدة هو موضوع دور الدولة في مضمارين: الرقابة الاجتماعية، والتوجيه الاقتصادي. والمقصود بالرقابة الاجتماعية هنا تقييد الحريات التي انحدرت بنظر المطالبين بتقييدها الى مستوى الاستهتار بل والاجرام، مثل الاجهاض والمثلية والاباحية.
والمقصود بالتوجيه الاقتصادي اعتماد التشريعات التي تلزم القطاعين العام والخاص منح المواطنين، وفق مواقعهم الوظيفية، امتيازات وخدمات صحية وتقاعدية ومهنية. فالديموقراطيون، من منطلق الحرص على المصلحة العامة، يميلون الى تفضيل دور أكبر للدولة في التوجيه الاقتصادي، في حين ان التطور في تركيبة قاعدتهم بدءاً من الستينات في اتجاه استيعاب الفئات المستفيدة من حركة الحقوق المدنية، ولا سيما منها الحركة النسوية والمثليين، يجعلهم أقرب الى تفضيل دور أصغر للدولة في موضوع الرقابة الاجتماعية.
بل يكاد ان يكون الأساس المبدئي للتيار التقدمي، والذي طبع الحزب الديموقراطي بخطابه، "توجيه أكثر ورقابة أقل". وفي المقابل، فإن الجمهوريين، تحت شعار الدفاع عن الحريات، يحبذون على الغالب دوراً أصغر للدولة في التوجيه الاقتصادي. غير أن التيار المحافظ، والداعي على النقيض من التيار التقدمي الى توجيه اقتصادي أقل ورقابة اجتماعية أكثر، قد أحكم قبضته على الحزب الجمهوري في العقدين الأخيرين، فاتسم الخطاب الجمهوري بقدر من الابهام والتناقض في اقتصاره العملي في الدعوة الى صون الحريات على الجانب الاقتصادي دون الاجتماعي.
أما التحرريون، والذين يشاركون الجمهوريين في اعتبار الحرية الفردية أساس المجتمع، فيسيرون قدماً حيث يتوقف هؤلاء، ويطالبون بامتناع الدولة عن اي توجيه اقتصادي أو رقابة اجتماعية، على أن تقتصر مهمتها على توفير الأمن. وهذا التباين، والذي يريده التحرريون مفاضلة بين الحزب التحرري Libertarian Party والحزب الجمهوري يشكل في واقع الأمر عاملاً مؤثراً على الخطاب الجمهوري يمنعه من الانزلاق باتجاه التطابق الكامل مع الطرح المحافظ اجتماعياً. وفي حين يفاخر التحرريون بهذا التأثير، فإن جهودهم تنصب على تثبيت أقدام حزبهم في أرجاء الولايات المتحدة. يذكر هنا ان نشأة الحزب التحرري تعود الى العام 1973، على ان خلفيته الفكرية المستمدة من أدبيات "الأباء المؤسسين" للولايات المتحدة، ومن الفكر الليبرالي الأوروبي، قد توطدت في الستينات مع انتشار المذهب الفلسفي الموضوعي الذي أرست أسسه الكاتبة آين راند. أما المنطلقات المبدئية للفكر التحرري فهي الحرية الفردية، والحد الدستوري من دور الدولة، وحكم القانون، والملكية الخاصة، والاقتصاد الحر.
ويكاد البرنامج السياسي للحزب التحرري أن يكون سرداً لأمنيات نظرية أكثر منه خطة عملية، فهو يدعو الى مكافحة صارمة للإجرام، على ان تسقط صفة الجرمية عن الاتجار بالمخدرات وتعاطيها، تماشياً مع مبدأ الحرية الشخصية. ويدعو الى ابطال القوانين كافة التي تحد من حرية التعبير، بما فيها تلك التي تقيد الاباحية، والى حل الأجهزة الأمنية السرية، مثل وكالة الاستخبارات المركزية، والى رفع القيود عن اقتناء السلاح، فيما يطالب بإلغاء التجنيد الإلزامي، ويرى في محاولة السلطات الحد من الهجرة غير المشروعة تطفلاً على حق المواطن باستخدام من يشاء، ويطالب الحكومة باعتبار الأسرة وحدة ذات سيادة لا يحق لها تجاوزها في حين أن الأمر الواقع في الولايات المتحدة اليوم هي أن الدولة هي ولي الأمر بالنسبة لجميع الأطفال، ودور الوالدين هو الرعاية بتفويض منها، ويلزمها الامتناع عن ابداء الرأي في مسألة الإجهاض والمثلية.
أما في الموضوع الاقتصادي، فالهدف المعلن في البرنامج هو التوصل الى الغاء جميع الضرائب، على ان تحصل الدولة على دخلها مقابل الخدمات التي تقدمها. وفي موضوع العلاقات الخارجية، فإن وجهة النظر التحررية تدعو الى امتناع الدولة عن التدخل في الشؤون المحلية لأية دولة اخرى، بما في ذلك تقديم المساعدات الاقتصادية والعسكرية، في اطار نظام عالمي تلقائي قائم على انعدام الحدود وجوازات السفر والقيود على حرية التنقل.
ويعود افتقاد البرنامج السياسي للحزب التحرري الى الواقعية في صياغته وطروحاته، الى تشبث بعض المحازبين بالمواقف المبدئية ورفضهم المساومة عليها. ويعود كذلك الى ادراك قيادة الحزب ان الفكر التحرري أوسع انتشاراً في الثقافة الأميركية من الولاء لحزبهم. فتقديم البرنامج بصيغة بنود مبدئية من شأنه استقطاب من يتفق معها نظرياً، من دون اهتمام بالمسائل التفصيلية.
فعلى رغم افتقاد البرنامج التحرري الى الواقعية، فإن الحزب يُظهر قدراً من الجدية في مسعاه الى التموقع كحزب "ثالث" دائم، في مقابل الطابع الانفعالي والشخصاني لحزبي الاصلاح والخضر واللذين يتقدمان عنه في البروز الاعلامي. ويفاخر التحرريون أنهم يخوضون المعارك الانتخابية في نصف دوائر مجلس النواب في الكونغرس، وهو "انجاز" لم يحققه حزب "ثالث" منذ عقود عدة. يشار هنا بالطبع الى ان احتمال فوز اي من هؤلاء المرشحين معدوم على الاطلاق.
وكانت قيادة الحزب التحرري قد أعلنت كذلك اعتزازها مطلع هذا الشهر، أن احد استطلاعات الرأي العام أظهر تفوق مرشحها الرئاسي هاري براون على مرشح حزب الاصلاح باتريك بوكانان طبعاً، وعلى رغم هذا "الانتصار" النسبي المفترض، فإن تقدير حصة بوكانان 9.0 بالمئة. ولكن أهمية هذا التفوق، من وجهة نظر التحرريين، تكمن في ضرورة تحويل الأضواء الاعلامية التي كانت مسلطة على بوكانان باتجاه براون، والإصرار على وجوب مشاركة براون، الى جانب رالف نادر وأل غور وجورج بوش، في المناظرات التلفزيونية المرتقبة. يذكر هنا أن الحزبين الرئيسيين ما زالا مختلفين حول جدول هذه المناظرات، ولكنهما متفقان على أن تقتصر هذه المناظرات على مرشحيهما، من دون مرشحي الأحزاب "الثالثة"، بما في ذلك نادر وبوكانان.
وقد سبق للمرشح التحرري هاري براون ان خاض المعركة الانتخابية عام 1996، الا ان الأصوات التي حصل عليها لم تتعد النصف بالمئة. وحتى اذا صحت التوقعات المتفائلة التي تعممها الأوساط التحررية، ونال براون ضعف ما ناله بالأمس، فإن الوزن الانتخابي للحزب التحرري ما زال خفيفاً جداً. فأهمية هذا الحزب تكمن لا في قوته العددية بل في قدرته على استثارة المشاعر التحررية الكامنة لدى العديد من المواطنين الأميركيين غير المنضوين في الحزب، ولا سيما منهم الذين يقترعون لصالح الحزب الجمهوري. ويشير التحرريون في هذا الصدد الى استطلاع أعدته مؤسسة رسموسن للأبحاث لتبين الميول العقائدية لدى الجمهور الأميركي. فنتائج هذا الاستطلاع تشير الى أنه يمكن تصنيف 16 بالمئة من الأميركيين تحرريين بالانسجام الفكري لا الولاء الحزبي، مقابل 13 بالمئة تقدميين، و7 بالمئة محافظين، و32 بالمئة وسطيين، و14 بالمئة "سلطويين"، أي من محبذي الدولة القوية. فللفكر التحرري، كما للشخصيات التحررية، تأثير جلي على الحزب الجمهوري يجذبه الى اتجاه تفضيل دور رقابة اجتماعية أصغر للدولة.
ولكن، وفي مقابل الحزب التحرري، ثمة تشكيلة سياسية اخرى تعمل على جذب الحزب الجمهوري في الاتجاه المعاكس، أي اتجاه دور الرقابة الاجتماعي الأكبر، وهي حزب الدستور. وهذا الحزب الناشط في جميع الولايات قد استبدل اسمه السابق حزب دافعي الضرائب في الولايات المتحدة بالاسم الجديد، حزب الدستور. ولكن استعراض البرنامج الحزبي، والكلمات التي يلقيها قادته، تفيد انه ربما كان الأحرى بهم اختيار اسم "حزب الكتاب المقدس"، اذ ان حزبهم يتميز عن غيره باشهار مسيحيته، وبتأكيده ان الولايات المتحدة قد قامت على أساس الكتاب المقدس، وان الحكم فيها مستمد من سلطته بصفته كلمة الله.
وفيما يضع البرنامج الدستوري الأسس لدور رقابة اجتماعية صارمة تضطلع به الدولة، عبر تحظير الاجهاض، ومنع الزواج المثلي، ومكافحة السلوك المؤدي الى الأمراض الزهرية، فإنه يعتبر هذه المواقف مستمدة من الشريعة الإلهية، والدولة في تنفيذها تلبي رغبة المجتمع وبحسب. فلا يرى الدستوريون، شأنهم شأن سائر المحافظين الاجتماعيين، أي تعارض في اصرارهم الخطابي على الحرية وفي مطالبتهم بوضع هذه القيود موضع التطبيق.
ويعتنق الدستوريون صراحة نادرة في مجاهرتهم بالمزج بين الدين والدولة، من دون ان يكون في هذه المزج، من وجهة نظرهم، تعارض مع مبدأ فصل الكنيسة عن الدولة الوارد في شرعة الحقوق الملحقة بالدستور الأميركي. وفي حين يتردد معظم الأميركيين المتدينين في اتخاذ موقف علني مماثل، فإن هذا المزج "الدستوري" يلقى تعاطفاً ضمنياً لدى فئات أوسع بكثير من الأقلية الضئيلة التي يمثلها هذا الحزب، ولا سيما في أوساط أنصار "الائتلاف المسيحي"، الذي أسسه المرشح الجمهوري السابق والإعلامي المحافظ بات روبرتسون، وفي أوساط ألن كايس، المرشح الجمهوري الذي التزم برنامجاً اخلاقياً، محوره الاعتراض على الاجهاض، في المناظرات التي جمعته خلال الموسم الانتخابي المنصرم مع جورج بوش ومنافسه جون ماكين وسائر المترشحين. بل ان أمين عام حزب الدستور، جايمس كلايمر، قد أرسل كتاباً الى ألن كايس في أعقاب المؤتمر العام للحزب الجمهوري، دعاه فيه الى الانضمام الى حزب الدستور، مشدداً على أن الاتجاه التوفيقي الذي يلتزمه الجمهوريون بقيادة بوش هو تفريط بالمبادئ المحافظة.
اذاً، فحزب الدستور، كما الحزب التحرري، يشكل عاملاً مؤثراً يدفع قيادة الحزب الجمهوري الى مراجعة حساباتها عند التحول بمواقفها وخطابها من مركز الثقل الجمهوري باتجاه الوسط.
أما الحزب "الثالث" الأخير من أحزاب الفئة الأولى، أي حزب القانون الطبيعي، فمن الصعب تصنيفه بدقة ضمن الإطار الذي ترسمه المسألتين الرئيسيتين في الخطاب السياسي الأميركي، أي الرقابة الاجتماعية والتوجيه الاقتصادي. فالخطاب السياسي لهذا الحزب يضعه بالفعل في الصف التقدمي، من حيث مطالبته بتقليص قدرة الدولة على الرقابة الاجتماعية، ولا سيما في موضوع الاجهاض، وتوسيعها على مستوى التوجيه الاقتصادي من اجل مساعدة العاملين في القطاعات الاقتصادية الأميركية على مجاراة العولمة. ولكن هذا الحزب يعاني من انعدام تجانس بالفئات المنضوية تحت لوائه، وبالتالي من ارتباك في مواقفه. فالفئة الأولى التي يمثلها الحزب، ويستمد اسمه منها، هي جماعة ماهاريشي ماهيش يوغي.
يذكر هنا أن هذه الجماعة تعتنق ممارسة "التأمل التجاوزي" الذي طوره مؤسسها الهندي الأصل، كوسيلة للصحة والترقي.
إلا ان هذه الممارسة لا تقف عند حد الرياضة الجسدية أو النفسية بل تتعداها الى الطروحات الغيبية شبه الدينية المغلفة أحياناً بالادعاءات العلمية أو العلموية. وتعميم ممارسة "التأمل التجاوزي" من صلب برنامج حزب القانون الطبيعي. يذكر هنا ان مرشح الحزب جون هيغلن هو بدوره ذو تجربة مخضرمة تشمل الجانب العلمي المتعارف عليه والجانب العلموي الادعائي الذي أطلقه ماهاريشي ماهيش يوغي. وفي حين يبدو ان هيغلن وصحبه على قناعة أن استفاضتهم بالاشارة الى الكفاية العلمية هي السبيل الى كسب الأصوات، فإن غرابة خطابهم وارتباطهم بالتأمل التجاوزي من شأنه ان ينفر معظم الجمهور الأميركي، بما في ذلك من يتفق معهم في الاتجاه السياسي.
وإضافة الى جماعة التأمل التجاوزي، فإن حزب القانون الطبيعي، نتيجة الصراع بين هيغلن وبوكانان للفوز بترشيح حزب الاصلاح، أضحى يضم ثلاث فئات اخرى: جماعة لينورا فولاني، الناشطة الافريقية الأميركية، صاحبة الخطاب الشعبوي العرقي الطبقي، والمقربون من المرشح لمنصب نائب الرئيس المتمول نات غولدهابر وهم من نتاج الاقتصاد الجديد ومن منتجيه، والاصلاحيون القدامى المستاؤون من سيطرة بوكانان على حزبهم.
أما كيفية التوفيق بين هذه الفصائل فمعضلة على هيغلن أن يحلها. وبانتظار هذا الحل فإن حزب القانون الطبيعي يكاد ان يكون حزب الشظايا السياسية، ويكاد تأثيره على تشكل المواقع السياسية ان يكون معدوماً.
وتشكل القوى السياسية الفاعلة على أبواب الانتخابات الرئاسية الأميركية يتبلور على الشكل الآتي: يلاحظ أن كل من جورج بوش وآل غور قد تحرك في المواقف والخطاب من مركز الثقل التقليدي لحزبه باتجاه "الوسط" السياسي. ونتيجة لهذا التحرك، فإن بوش يجابه بانتقادات لتراجعه المفترض عن الاصرار على دور حكومي مقلّص في التوجيه الاقتصادي، ويساهم التحرريون في تغذية هذه الانتقادات، كما يواجه باعتراضات على تخليه المزعوم عن الرقابة الاجتماعية الأخلاقية التي يصر عليها المحافظون، ويساهم في هذه الاعتراضات الدستوريون وأنصار باتريك بوكانان في حزب الاصلاح.
أما غور، فمصدر الضغط الرئيسي الذي يعاني منه هو رالف نادر والذي يعيب عليه ابتعاده عن النهج التقدمي. هذا، ويلاحظ ان كلاً من رالف نادر وباتريك بوكانان يسير بحزبه نحو تموقع جديد، الأول باتجاه العمق الديموقراطي، والثاني باتجاه الأطراف الجمهورية.
وفي الحلقات المقبلة، كل اثنين واربعاء وجمعة: معارك الكونغرس، دور المجموعات العرقية والطائفية، الاقتصاد الجديد والسياسة الجديدة، الشرق الأوسط في الانتخابات الأميركية.
* كاتب لبناني مقيم في الولايات المتحدة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.