يبدو أن القضية الفلسطينية أفادت العالم كله باستثناء الفلسطينيين. أبو عمار زار حوالى 30 دولة في الأسبوعين الأخيرين، وربما 50 دولة منذ قمة كامب ديفيد الثانية، وهو لم يزر دولة في الشرق والغرب، غربية أو إسلامية أو غير ذلك، إلا واتصل الأميركيون بقادتها ليطلبوا منهم نصح الرئيس الفلسطيني بالمرونة في التفاوض مع إسرائيل، وتحديداً على موضوع القدس. ونعرف أن للولايات المتحدة قضايا عالقة، أو مصالح مشتركة، مع كل من الدول التي زارها أبو عمار، في شمال افريقيا والمشرق العربي، وحتى فرنساوالصينوروسيا وباكستان وأندونيسيا. وهكذا كان أن الطرف الأميركي سينظر بعين الرعاية الى العلاقة الثنائية مع كل بلد زاره أبو عمار، إذا التزم هذا البلد الموقف الأميركي، وامتنع عن دعم موقف المفاوض الفلسطيني من القدس. في النهاية، لا يجوز أن نتوقع من فرنسا أو الصين أو روسيا أن تتخذ موقفاً سياسياً دولياً إلا إذا كان يخدم مصالحها، غير أن الوضع يختلف مع الدول العربية والإسلامية، فهذه لم تخذل ياسر عرفات، وإنما خذلت القدس، وشعوبها ستحاسبها إن لم يكن اليوم أو غداً، ففي المستقبل. الدول العربية لم تستطع عقد مؤتمر قمة يؤكد الحق العربي في القدس، ويدعم المفاوض الفلسطيني، والدول الإسلامية كانت أكثر تفرقاً وضعفاً. ونسمع أن لجنة القدس ستجتمع قرب نهاية هذا الشهر، ثم نقرأ أن الأميركيين يعارضون انعقادها، وننتظر لنرى أي إرادة ستغلب. وتقضي الموضوعية في السرد بعض الدقة، فمصر وقفت موقفاً وطنياً واضحاً من الضغط على المفاوض الفلسطيني، وإلى درجة أن أثارت غضب الأميركيين، فارتدوا عليها بكل سلاح لئيم في جعبتهم. وهي الآن تنسق مع الفلسطينيين للخروج باقتراح مضاد، أساسه سيادة مشتركة على القدس وسيطرة كاملة للفلسطينيين على الأماكن المقدسة الإسلامية والمسيحية. والمملكة العربية السعودية أعلنت رسمياً موقفها المعروف من حقوق العرب والمسلمين الثابتة في القدس، كما رفضت اتفاقاً غامضاً يترك هذه الحقوق في مهب الريح. غير أن مصر والمملكة العربية السعودية عجزتا عن جمع العرب في قمة تطلع بموقف مشترك من القدس، أو لم تحاولا ذلك إدراكاً منهما أن القمة غير واردة في وجه المعارضة الأميركية. وبما أنني لا أمثل أحداً سوى نفسي في ما أكتب، فإنني أعترف اليوم بسذاجتي بعد هذه السنوات الطوال من الكتابة السياسية، فقد كنت أعتقد أن العرب والمسلمين يختلفون على كل شيء، أو أي شيء، سوى القدس، إلا أني عشت حتى رأيتهم لا يستطيعون الاجتماع للبحث في موضوعها خوفاً من الولاياتالمتحدة. إذا كان هذا هو نوع الحمل، فكيف سيكون شكل الوليد؟ بما أنه سيأتي مسخاً بالتأكيد، إذا أتى، فإنني أدعو أن تفشل أي جولة قادمة من المفاوضات وأرجو ذلك وآمل وأتعشم وأتوسل. وخارج نطاق كل ما سبق فثمة أسباب لتأجيل إعلان الدولة عن 13 أيلول سبتمبر في وجه التهديدات الأميركية والإسرائيلية للسلطة الوطنية الفلسطينية، فلا يجوز مهما بلغ الغضب أو اليأس بالفلسطينيين أن يخوضوا معركة خاسرة في وجه خصم قوي شرس. وقد طرح موعد آخر هو 15 تشرين الثاني نوفمبر الذي يوافق ذكرى مرور 12 سنة على إعلان حكومة فلسطينية في المنفى، كما طرح أول كانون الثاني يناير، وهو يوافق ذكرى تأسيس فتح. غير أن أي موعد لإعلان الدولة يجب أن يعتمد على ظروف الساعة، وهي غير معروفة الآن، والحديث عنها نوع من التنجيم. المعروف الآن هو أن الأميركيين عادوا الى المنطقة بمقترحات جديدة على أساس ما اتفق عليه في كامب ديفيد، وقد بدأ منسق عملية السلام الأميركي دنيس روس مباحثات مع رئيس الوزراء ايهود باراك والرئيس عرفات، وكبار المسؤولين الإسرائيليين والفلسطينيين الآخرين. ولن يكون هناك أي اتفاق في الأسابيع القليلة القادمة، وإنما محاولة جديدة لتضييق شقة الخلاف على المسائل العالقة، فإذا تحقق ذلك أصبح عقد قمة جديدة قرب نهاية الشهر القادم، أو مطلع تشرين الأول اكتوبر ممكناً. والمشكلة في هذا السيناريو أن المفاوض الفلسطيني يخوض المعركة الأخيرة من دون سلاح عربي أو إسلامي في يده، وكلمة السر في هذه الجولة هي "المرونة"، وهذه منتظرة من الفلسطينيين فقط، فالرئيس كلينتون نزع آخر الأقنعة الزائفة عن الحياد أو الوساطة الشريفة، وهو يتهم أبو عمار بالمسؤولية عن فشل قمة كامب ديفيد الثانية بتصلبه المزعوم وتطرفه وتشدده. وواضح كشمس الظهيرة أن بيل كلينتون يريد إنجازاً لعهده ينسي الناس فضائحه الجنسية، فإذا لم يتحقق هذا الإنجاز فلا أقل من أن يهاجم الفلسطينيين لدعم حملة نائبه آل غور للرئاسة، وزوجته هيلاري لمقعد في مجلس الشيوخ. أعتقد شخصياً أن أبو عمار لن يسلم بشيء أو يستسلم، حتى لو انفجر الوضع، غير أنني أخطأت في السابق، وربما كنت مخطئاً هذه المرة أيضاً، فموقف العرب والمسلمين من مصير القدس يجعلني أعيد النظر في ما كنت أعتقده ثوابت ثابتة.