يشعر من يزور المنطقة التاريخية في مدينة جدة وكأنه خارج للتوّ من آلة الزمن التي في امكانها نقل الإنسان من زمان إلى آخر في دقائق معدودة، سواء أكان هذا الزمان في الحاضر أو في الماضي. ويتجاور القديم مع الحديث في هذه المنطقة في تناغم عجيب لا يؤذي البصر، إذ يمكنك أن ترى الأبنية الحديثة ذات العمارة الهندسية المتطورة في مرمى البصر وأنت واقف وسط أبنية تراثية لها طابع فلكلوري عريق داخل تلك المنطقة التي أطلقت عليها محافظة مدينة جدة اسم "التاريخية". وتستقبل المنطقة التاريخية الواقعة في قلب مدينة جدة القديمة على مدار العام وفوداً سياحية عربية وأجنبية معظمها من المتخصصين والمهتمين بالتراث وتاريخ التطور المعماري والبيئي. ويستهل السياح زيارتهم للمنطقة عادة بالاستماع إلى شرح يتضمن تقديماً سريعاً لأهم المدن المحيطة بجدة القديمة والمواقع الداخلة في نطاق المنطقة التاريخية وتاريخ كل موقع، إضافة إلى توضيح لأهم مراحل تطور مدينة جدة ومبانيها القديمة وبعض الأحداث التاريخية التي أثرت فيها، مع الاستعانة بالصور التي تمكنت الإدارة من تجميعها وحفظها على شرائح مصورة سلايدات لتعريف الزائر بالفروق الواضحة بين القديم والحديث. والتقت "الحياة" أخيراً مجموعة سياحية جاءت من أميركا في زيارة لأهم معالم المنطقة، وسجلت إعجابها بمدى العناية التي أولاها القائمون على التنظيم والرعاية والاهتمام بالمواقع التراثية وإظهارها كواجهة ذات قيمة تاريخية عظيمة للمنطقة. وعبرت كولين آندريس من الجمعية القانونية الأميركية في ولاية كنساس الأميركية عن إعجابها الشديد بكل ما شاهدته من تراث وفلكلور شعبي، وقالت إن "هذه الزيارة ستظل في ذاكرتها كواحدة من أفضل الرحلات التي قامت بها خارج بلادها". وأكدت إليزابيث برايم إحدى المهتمات بالتراث الشرقي من مدينة نيويورك أن "اهتمامها بالتراث العربي والشرقي قادها لزيارة المنطقة من خلال اطلاعها على الكتيبات والنشرات الخاصة التي توزعها جهات مختصة في أميركا"، وبعد الزيارة الفعلية ترى برايم أن "الواقع يتفوق كثيراً على الصور". واشتمل البرنامج الذي وضعته إدارة حماية المنطقة على عرض فلكلوري تضمن رقصات شعبية بالعصا والسيوف إضافة إلى "المجَسّ" وهو نوع من الأهازيج الشعبية التي لا يصاحبها أي آلات موسيقية وتحتوي على أبيات شعرية تتضمن مديحاً للرسول ص وآل بيته وسكان المنطقة وما إلى ذلك. موقع وتاريخ يعود تاريخ جدة كموقع إلى عهد آدم عليه السلام كما يذكر بعض الرواة أنها كانت منزلاً لحواء أم البشر ثم قبراً لها، ومن ذلك استمدت اسمها إشارة إلى أنها جدة البشر جميعاً. إلا أن روايات أخرى تؤكد أن الاسم يعني "الجبل المخطط" وأنه يلفظ بكسر الجيم وليس فتحها، كما ذكر ياقوت الحموي أن اللفظ الصحيح لجدة يكون بضم الجيم ويعني "مضيقاً بين جبلين". ولا يغير اختلاف الآراء حول الاسم وطريقة لفظه ومعناه من المكان الذي يقع على ساحل البحر الأحمر قرب مكةالمكرمة والذي اتخذت منه جدة موقعاً لها منذ عُرفت. وتناول الكثيرون من المؤرخين والرحالة العرب والأجانب مدينة جدة كموقع وتاريخ، كما رسم البعض لها خرائط توضح وقوعها على البحر الأحمر وقربها من مكةالمكرمة وتفاصيل أخرى مثل قبر حواء أم البشر وغير ذلك. وتتكون جدة القديمة كما هي معروفة حالياً من ثلاثة أحياء رئيسة تسمى في عرف أهلها بالحارات وهي: حارة اليمن وتضم دار آل نصيف ودار آل جمجوم، وحارة المظلوم وتضم منزل محمد صالح باعشن ودار قابل ومسجد الشافعي وسوق الجامع، وحارة الشام وفيها دار آل سرتي ودار آل باناجة. وتحتوي جدة القديمة على عدد من الضواحي من أهمها النزلة اليمانية ويستدل من اسمها أنها تقع في الجهة الجنوبية الشرقية من جدة أي باتجاه اليمن، والرويس وهي شمال جدة القديمة، ونزلة بني مالك وتقع في الشمال الشرقي منها، والكندرة والثعالبة والقريات وحارة بيشة. وتضم جدة القديمة أيضا شوارع عدة منها الشارع الممتد من الخاسكية إلى سوق الندى، وآخر ممتد من سوق الحراج إلى سوق النورية وحتى سوق العلوي، وشارع الأسكلة ويبدأ من الشمال ويمتد حتى باب المغاربة الذي كان مدخلاً للحجاج القادمين من المغرب، وشارع الصحية ويبدأ من الجنوب وحتى مدرسة الفلاح أولى المدارس المتكاملة في جدة. وتتميز شوارع جدة القديمة بتعرجاتها الواضحة إضافة إلى ضيقها بسبب حاجة السكان قديماً لوجود ممرات أزقة للمشاة وعدم وجود السيارات بعد. معالم وآثار عرفت جدة الكثير من الحضارات والثقافات المختلطة منذ قديم الزمان لكونها استقبلت على مر العصور شعوباً وأمماً من جميع أنحاء العالم قدموا إليها لأغراض مختلفة منها ديني آداء فريضتي العمرة والحج ومنها تجاري، ولذا تكونت فيها مجموعات كبيرة من العادات والأعراف ما زالت موجودة حتى الوقت الحاضر. وربما يظهر في شكل بارز تأثير العهد التركي وما تركه من مظاهر حضارية من أهمها صناعة تقطير المياه وبعض الحرف اليدوية مثل الأثاث واللوازم المنزلية المصنوعة من الفخار والحلي والحياكة وخلافها. وشهدت جدة القديمة أيضاً الاهتمام بالتعليم وبداية التعليم في المساجد مروراً بالكتاتيب وهو عبارة عن غرفة واسعة تضم عدداً كبيراً من الأطفال لتعليمهم مبادئ القراءة والكتابة إضافة إلى القرآن الكريم والنواحي الدينية الأخرى، ومن ثم ظهرت المدراس بإنشاء المدرسة الرشدية في نهاية القرن الميلادي الماضي واستمرت مدة التعليم فيها لثلاث سنوات فقط، ومدرسة الفلاح التي تأسست في مطلع القرن الميلادي الحالي. والأخيرة اشتملت على المراحل الدراسية الأربع حتى المرحلة العالية التي تقابل الثانوية في الوقت الحاضر. واشتهرت جدة منذ العصور القديمة أنها موقع تجاري استراتيجي وازدهر القطاع التجاري فيها منذ بداية القرن الخامس عشر الميلادي وأصبحت مركزاً بين الهند ومصر، وأدى ذلك إلى ظهور أسواق عدة فيها ما زالت موجودة حتى الآن ومن أهمها سوق الندى وهو مركز تجمع لليمنيين وتنتشر فيها محلات الأغذية والمكتبات، وسوق الخاسكية وسوق البدو التي تشتهر بمحلات بيع البهارات والأقمشة، وسوق العلوي وشارع قابل وسوق الصاغة. ويوجد في جدة القديمة عدد من المساجد التي يعود تاريخ بعضها إلى القرن التاسع ميلادي وهي مسجد الشافعي، عكاش، المعمار، الحنفي، الباشا وعثمان بن عفان. ومن أهم المعالم الأثرية التي تم ترميمها في العصر الحالي "بيت المال" وهو مبنى ذو شكل هندسي جميل له واجهات من الرواشين الخشبية التي تميز بها المعمار قديماً ويصل عمره إلى 300 عامٍ. ويعم المبنى وأسفله مواصفات هندسية متمثلة في صهريج ونقوش وحمام بخار من الحجر وغير ذلك. واكتشفت ادارة المنطقة التاريخية أيضا "عين فرج يسر" وهي عبارة عن عين ماء قديمة بنيت في القرن الرابع عشر الميلادي وتقع في قلب المنطقة التاريخية في سوق العلوي بين حارتي المظلوم واليمن واستمدت مياهها من وادي قوص في شرق جدة وجف الماء فيها قبل أكثر من قرن وتقع على عمق 8 أمتار ومساحتها 96 متراً مربعاً. وكانت منطقة العين غُطيت كاملة بالرخام ثم اُستدل عليها من خلال أحد سكان المنطقة الكبار وهو الشيخ محمد حبيب الريس رحمه الله. وهناك الكثير من المعالم والآثار الأخرى التي يتم ترميمها تباعاً بحسب الأولوية، كما يوجد الكثير من المقتنيات الاثرية التي تم اكتشافها وإيداعها في الجهة التي تختص بها مثل متحف أمانة جدة ومركز المعلومات وإدارة حماية المنطقة التاريخية.