لم يتوقف الشاب دوميط منعم عند الإعاقة التي أصيب بها منذ العام 1989، ولم يتوقف عند الشلل التام الذي أصاب جسده وخلّعه ولا عند الخطر الذي يقترب منه الى حد الموت أثناء إصابته بالنزيف القوي... بل أراد دوميط الذي يبلغ اليوم 31 سنة أن يصدر كتابه الأول من غرفة العناية الفائقة التي لم يغادرها لدقيقة واحدة منذ إحدى عشرة سنة وهو كتاب "مخلّع على دروب الحرية". وبعدما أصدر كتابه أصبح هذا الشاب الذي تحيط به الآلات وخصوصاً آلة التنفّس الاصطناعي التي باتت حياته مرتبطة بها، على كل شفّة ولسان، وعلى رغم الصمت الذي عاشه بين الجدران الأربعة كانت كلماته كبيرة وكثيرة... ففي عينيه يوجد الكثير من الكلام وفي ابتسامته أيضاً وفي السلام الذي يعيشه وفي الإحباط الذي مر به. وبعد مضي كل تلك السنوات وفي التاريخ نفسه الذي تعرّض فيه دوميط للحادث المروع بتاريخ 12-7-1989 الذي ما زال في باله وذاكرته حتى هذه الساعة، كان "مخلّع على دروب الحرية" فزرنا دوميط في مستشفى الدكتور اميل بيطار في البترون - شمال لبنان، وذلك بعد يومين من إصدار كتابه الجديد، وقال بصوت خفيض: "مررت بحالات صعبة جداً صحياً ونفسياً، وكنت كلما أصاب بنزيف أشعر أنني في خطر وأن أيامي معدودة لشدّة الاختناق الذي يصيبني، إنها حالات متناقضة عشتها خلال كل تلك السنوات، لكن ومنذ اللحظة الأولى التي تعرضت فيها للحادث شعرت بسلام داخلي وبإيمان كبير جداً، وفي لحظات الهدوء كنت "أطلب من الممرضة أن تأتي لي بالكتب الدينية على رغم أنني كنت أعجز عن الحراك، حيث تخلّع جسدي كلياً وأصبح هزيلاً جداً لكنني كنت أتوق وأتشوّق الى القراءة، والى النظر بعمق الى معنى الحياة والوجود وكل شيء، وفي الحقيقة كنت أرى داخل هذه الغرفة كل يوم شيئاً جديداً، فتابعت قراءاتي ولم أجد ذلك صعباً. وساعدتني الممرضات اللواتي لم يغبن عني أبداً حيث كن يقلبن لي الصفحات باستمرار وأن أشكرهن في هذه المناسبة. وتابع: لقد تعرّضت لهذا الحادث عندما كنت أعمل خلال الصيف كي أستطيع أن أدفع قسطي الجامعي خلال الشتاء، فوضع عائلتي لم يكن يسمح بكل تلك المدفوعات، لذا اضطررت عندها الى العمل كي أتابع تخصصي في العلوم التجارية، وكنت حينها في السنة الثالثة، وكنت أحب الإطلاع على كافة المواضيع، وهذا الحادث لم يغير شيئاً فيّ بل زادني قوة وإرادة على أن الإعاقة لا يمكن أن تضع حداً لطموحات أي إنسان، ويضيف "أنا سعيد جداً. لقد حققت اليوم حلمي وأصدرت هذا الكتاب الذي أستطيع من خلاله ان أعبر عن بعض أحاسيسي وعن حبي لله وللحقيقة التي لم أجدها إلا معه سبحانه وتعالى، كما لم ينس دوميط أن يوجه كلمات مملوءة بالحب لوالدته في عيدها. وكانت رسالة المخلّع في عيد الأم التي أبرز ما قال فيها: أمي الحبيبة... كيف أبدأ رسالتي هذه، وأنا أتوجه بها الى أغلى من في حياتي؟ الى أمي! كيف لي أن أبدأ، وقد تحجّر المداد في أقلامي ووقفت الكلمات حائرة حقيرة على لساني التي وعلى رغم ترددها تتجرأ أن تقدم بعض ما يختلج في فؤادي من أحاسيس تسابق أحاسيساً، علها تفي ولو قليلاً مما قد تراكم عليّ من ديون الى قلبك الحنون... ويقول دوميط في الرسالة نفسها: "أرجوكِ أمي لا تبكي، فدموعك تجرح وجداني... سلمي لي على حجار البيت وقبّلي عتبة بابه عنّي... وكتاب دوميط الذي يتألف من 44 صفحة يغلّفه اللون الليلكي وهو يعبّر من خلاله عن الغيوم الملبدة والمختلفة التي مرّت في حياته والتي طبعها على غلاف كتابه بالإضافة الى خطوط مختلفة الأشكال من البرق والتي أرادها باللون الأبيض... واللافت في دوميط أنه ومنذ اللحظات الأولى التي دخلنا فيها الى غرفته تعرف إلينا قائلا: أنا أعرفكم أما زلتم تسكنون في الحي القريب من المستشفى؟ فالتفتت عندها والدته التي لم تفارقه كل تلك السنوات وقالت: صحيح أن دوميط لا يشعر بجسده، لكن عقله ما زال سليماً وواعياً جداً وهو يذكر الجميع، كل من كان يعرفه وكل من كان يراه حتى ولو كان ذلك من بعيد... وما تخلّع فيه ليس سوى الجسد الذي لم يعد يكترث له ابني ولا نحن أيضاً، فالروح هي الأهم والعقل أيضاً والدليل على ذلك كل ما جاء في كتاب "مخلّع على دروب الحرية" الذي عبّر فيه هذا الشاب القدير عن كل تساؤلاته وكل أحاسيسه.