لم تلتبس قضية سعد الدين ابراهيم، صاحب "مركز ابن خلدون للدراسات الانمائية" وداعية "المجتمع المدني" العربي والناشط في الدفاع عن حقوق الانسان وأولها حقوق الاقليات في المساواة المدنية والسياسية، لم يلتبس اعتقاله في الأسبوع الأول من تموز يوليو على أهل "القوى القومية / الناصرية والقوى اليسارية"، على ما يسمون أنفسهم. فحُمل المعتقل على ذمة التحقيق وهو متهم ب"النصب والتزوير والرشوة الدولية"، من وجه أول، وب"بث دعايات مثيرة من شأنها زعزعة الاستقرار والمساس بالأمن العام ومصلحة البلاد"، من وجه آخر، على انتهاج سياسة "اميركية" من شقين: خارجي، قوامه الصلح مع اسرائيل و"الابتعاد عن العرب والكتلة الشرقية السابقة وكتلة عدم الانحياز القائمة؟"، وشق داخلي ركنه "التبشير الغربي عموماً والأميركي خصوصاً: الديموقراطية البرلمانية، التعددية السياسية، حقوق الانسان وحقوق الأقليات" عن صحيفة "السفير" اللبنانية في 4 تموز. ويلاحظ "محلل" الصحيفة القومية الناصرية واليسارية وهي نسبة لا تستوفي الا جزءاً من احوالها ان سياسة ابراهيم لا تبدو واحدة ومتفقة الا من منظور أميركي وغربي. اما الوقوف عليها من منظور محلي فيدعو الحكم الى إنكار شقها الداخلي، ويبعث المعارضة، وهي قومية ناصرية ويسارية وإسلامية سياسية، على إنكار شقها الخارجي. فلا يجمع بين نهج سعد الدين ابراهيم وأمثاله وبين سياسة الحكم قاسم مشترك يؤدي الى إغضاء الحكم عن منازع النهج الداخلية، لقاء تأييد السياسة الخارجية "الأميركية"، واستطراداً الاسرائيلية، ولا يجمع بينه وبين سياسة المعارضة والمفرد من الصحيفة ما تقايض به المعارضة شطط الشق الخارجي. ولكن هذه القسمة، إلى شقين مستقلين يقوم كل واحد منهما بنفسه بمعزل عن الشق الآخر، متعسفة. فهي توهم بأن الحكم المصري في هذا المعرض انما ينتهج سياسة "أميركية" كاملة، ويصدر في نهجه هذا عن صدوع صاغر لأمر هذه السياسة، وهو انتهى الى مماشاة السياسة الاميركية، وانقلب على السياسة القومية واليسارية السابقة، ميلاً مع نوازع في طبعه، ومن غير ان تظهر على السياسة القومية واليسارية العتيدة علامة واحدة من علامات الضعف والقصور، ومن غير ان تستتبع السياسة العتيدة تكلفة داخلية باهظة، اجتماعية وثقافية سياسية، من أي ضرب أو نوع، ولا انحرافاً عن مثال العلاقات القائمة على المساواة والقانون الحقوق والعلانية. وتوهم القسمة هذه بأن المعارضة القومية الناصرية واليسارية واستطراداً معارضة الاسلاميين على اختلاف تياراتهم هي ترس حقوق الانسان، وحقوق الاقليات، وهي القوى التي يعوَّل عليها في إحقاق الديموقراطية وإن غير البرلمانية والتعددية غير الغربية وغير الأميركية. فينبغي، على هذا، التصديق بأن الخلاف بين دعاة حقوق الانسان وحقوق الاقليات والديموقراطية البرلمانية والتعددية السياسية وبين المعارضة القومية واليسارية والدينية ناجم عن انحراف الدعوة والدعاة انحرافاً اميركياً، خارجياً في المرتبة الأولى. اما الخلاف الداخلي فقد لا يكون على قدر عظيم من الخطورة، بحسب إيهام القسمة القومية واليسارية، لولا جنوح الدعاة الأميركي حتى وهم يعالجون مسألة الديموقراطية، وأصحابها الحقيقيون هم القوميون واليساريون، على زعم هؤلاء. والحق ان تخليص قضية سعد الدين ابراهيم، وأمثاله ممن لا تعج بهم المجتمعات العربية ولا يتزاحمون بالمناكب في اروقتها السياسية والثقافية، من الالتباسات القومية واليسارية يؤدي بأصحاب محاولات التخليص، وهم قلة قليلة، الى الوقوع في التباسات أشد تعقيداً وأكثر عدداً. فهم يريدون التضامن مع سعد الدين ابراهيم على السلطة "الاميركية" والمنقلبة على الاتحاد السوفياتي السابق وعدم الانحياز السابق، وشريطة ان يقتصر التضامن على التنديد بهذه السلطة، وألا يُحمل التضامن هذا على الموافقة على آراء الرجل "الأميركية" في الديموقراطية والتعددية، وفي السياسة الداخلية عموماً. والجمع بين هذه الشرائط عسير. وهو لا يستقيم، اذا قيضت له الاستقامة، الا من طريق تأريخ منحول لل"دولة" القومية واليسارية، ومن طريق تسويغ مزمن لتعسفها وتسلطها. فيذهب بعض من يحاولون تخليص الالتباسات القومية واليسارية الى ان مسألة المجتمع المدني، المترتبة على مسألتي حقوق الانسان وسيادة القانون، "تواجه الحكم المصري" لأن هذا الحكم، "الأميركي"، "تخلى عن سيطرته على الاقتصاد، وتخلى عن مسؤوليته الاجتماعية تجاه الفئات الضعيفة والفقيرة". وما تمسَّكَ الحكم، القومي الناصري ضمناً، بسيطرته ومسؤوليته هاتين جاز له "التمسك بمزايا حكم شمولي" يملك "مبرراته ومؤهلاته"، على قول محلل الصحيفة القومية الناصرية واليسارية اللبنانية. فإذا ترتب على استيلاء ضباط قوميين ويساريين على السلطة السياسية جمعهم بين القوة العسكرية ومقاليد الحكم والموارد الاقتصادية ووسائل بلورة الارادة والرأي العامين، لم يبق مسوغ، ولا "مبررات ولا مؤهلات" لمسألة المجتمع المدني، وللمسائل الأخرى المتصلة بها. فسيطرة الطبقة السياسية المتسلطة على الاقتصاد، على شرط مقايضتها تسلطها وسيطرتها بتحملها "المسؤولية الاجتماعية تجاه الفئات الضعيفة والفقيرة" ولو جرت المسؤولية المزعومة هذه على الفئات الضعيفة ضعفاً على ضعف، وفقراً على فقر، وأدت الى نشأة طبقة جديدة من الطفيليين الفاسدين ، علة كافية ومقنعة للطعن في محاسبة "الدولة" القومية واليسارية، أي الناصرية، على استبدادها وعلى تراثها الثقيل الوطأة. أما الشرط الثاني، ولعله الأول، الذي ينبغي استيفاؤه من طبقة المستبدين والطفيليين الفاسدين، الأمس واليوم، لقاء حل هذه الطبقة من المسائل المدنية والسياسية، فهو "الاقتراب" من "العرب والكتلة الشرقية السابقة وكتلة عدم الانحياز"، على النهج الناصري، او القومي اليساري، العتيد. وتفترض الدعوة تبرئة "الكتل" هذه، وبما هي كتل، من انتهاج سياسات خارجية "قمرية"، العلة الأولى في رعونتها وتهورها تمكينها للتسلط الداخلي وتيسيرها أسبابه. وتفترض كذلك تبرئتها من سياسات داخلية بعث تعسفها، وبعثت قسوتها على طلب العلاج من السياسة "الأميركية". فما يغفل عنه القوميون اليساريون اليوم هو تماسك سياسات "دولتهم" وإفضاؤها الى تدمير الأركان الداخلية لاستئناف حياة سياسية، وعلاقات سياسية مستقلة بنفسها وبأفكارها وصورها. ولعل هذا هو السبب في شبه تضامن القوميين اليساريين، مع سعد الدين ابراهيم وأمثاله، بالتنصل. وهو السبب في عودة "التباس" موقع سعد الدين ابراهيم المزعوم عليهم التباسات كثيرة. * كاتب لبناني.