لا يولد الطفل اجتماعياً بالفطرة، بل يكتسب هذه العادة مع مرور الزمن من خلال تصرفات وردود أفعال أهله حياله. فعلى الرغم من ان المولود حديثاً لا يستجيب للمؤثرات المحيطة، الا ان مبادلة الأم ابتسامته، التي لا تتعدى كونها حركة بسيطة في عضلات وجهه هي أساس التطور الاجتماعي والمهارات التي سيكتسبها ويستعملها لاحقاً. اذ سرعان ما يدرك الوليد ان ابتسامته ستؤدي الى ردة الفعل هذه من قبل أمه، لذلك يقوم باستعمالها المتعمد لهذه الغاية. ويأتي التعلم الاجتماعي المبكر للطفل والاتصال بالعالم من حوله من تقليد حركات أمه المتكررة له، الى ان يتمكن بعد عدة مرات من القيام بها لوحده، فيما تلعب محادثة الأم المبكرة لوليدها دوراً مهماً في تنمية وتطور موهبة الكلام والإصغاء عنده. وقد وجدت جميع الأبحاث الحديثة ان بدء هذا الحوار الأولي خلال عملية الإرضاع له أبلغ الأثر على الوليد، فعلاوة على كونه مصدراً كبيراً للفرح والمتعة العاطفية، فإن نمط ايقاع الإرضاع يضع الطفل في جو الحوار المبكر ويعطيه الوقت الكافي لدرس تقاسيم وجه أمه بدقة. فهو يرضع تارة ويرتاح تارة أخرى. وتسارع الأم في فترة الراحة هذه الى خلق أجواء يسودها المرح والمداعبة والمسايرة. وسائل الاتصال البسيطة هذه التي تنميها الأم، تصبح في فترة لاحقة خياراً حتمياً ووسيلة من أجل جذب انتباهها. إلا ان السبيل الأكثر فاعلية لهذه الغاية يكون عن طريق البكاء الذي هو في البداية انعكاس طبيعي لشعور الطفل بعدم الارتياح أو احساسه بالألم أو الجوع، والذي يصبح مقصوداً في ما بعد عند اكتشافه ان بكاءه يعني استجابة أمه الفورية له، اذ تراه يتوقف عن البكاء من أجل رؤية نتيجته التي تتكلل بمجيء الأم وحمله. وهذا الأمر ليس مادياً بهذه الصورة، اذ يزيد البكاء من ضربات قلب الأم ويجعل صدرها يحتقن بالحليب بشكل مماثل لوقت ارضاع الطفل. ومع حلول الشهر الثالث، يصبح الطفل قادراً على إظهار تفاعله مع المحيط. كما انه يستمتع بكل النشاطات التي تقوم بها أمه من أجله، مثل الحمام، حتى انه يفرح حالما يدرك ان موعده قد حان. كما انه يستجيب لمداعبة الكبار له. ولا يستغرب أحداً في هذه المرحلة طالما انه يحظى باهتمامهم. الا ان الأمر لا يستمر على هذه الوتيرة، حيث يبدأ الطفل بتغيير عاداته ابتداء من الشهر السادس، ويتحول من طفل اجتماعي مرح يتودد الى أي شخص يلقى عنده الابتسامة والاهتمام، الى طفل حذر من الناس الذين لا يعرفهم. وعلى رغم السلبية الظاهرة لهذه المرحلة، الا ان ايجابيتها تكون في وصول الطفل الى مرحلة من الوعي أصبح يحتاج معها الى وقت وحيز ليفهم أي صوت أو حركة أو صورة يراها. فهو يجد في الغريب أشياء كثيرة جديدة غير مألوفة له، من الصعب ان يتفهمها كلها دفعة واحدة. لذلك تراه يحتج بصخب وبكاء شديدين عند محاولة إبعاده عن أمه لكي يحمله شخص غريب عنه. وعلى رغم ان هذا التعلق الكبير بأمه قد يسبب بعض المشاكل لها، إلا ان هذه المرحلة في جوهرها مهمة جداً في خطوات تطور الطفل، الذي يعرف اشخاصاً آخرين حوله يراهم دائماً ويتصل بهم باستمرار، وعلاقته معهم جيدة وحميمة. وهو يستعمل هذه العلاقات كأساس لاستكشاف العالم الجديد. ولا ينصح بإجبار الطفل على الذهاب الى أي شخص غريب إذا ما حدثت عنده هذه الظاهرة. ولأن للأم دوراً كبيراً في نشوء هذه المشكلة من خلال عطفها ورعايتها الكبيرين لوليدها من جهة، ولأن هذه العلاقة مع الأم هي التي سوف تحدد وترسم صفات شخصية الطفل مستقبلاً من جهة اخرى، لذلك تنصح الأم بالحذر حيال موضوع البكاء خصوصاً النابع من معرفتها وموازنتها بين حاجات الطفل وألمه التي تتجلى من خلال بكائه، وبين معرفتها انه قد يستغل هذا البكاء لجذب الانتباه والرعاية له.