الكتاب: ديك الجن الحمصي/ تهافت الرواة وشفافية النص المؤلف: سليم مجاعص الناشر: دار أمواج، بيروت 2000 يبدو المؤلف في هذا الكتاب وكأنه يحقق مخطوطة مع انه يناقش ويحاور ديواناً محققاً وآراء مطبوعة. وهذا يعود الى محاولته اعادة الاعتبار للشاعر ديك الجن الحمصي وتصحيحه لبعض التفاصيل والأخبار المغلوطة عنه حكاية حبه ل"ورد" النصرانية وزواجه بها وقتله لها بناء على دسيسة دبّرها ابن عمه أبو الطيب. من الواضح ان عنوان الكتاب نفسه يكشف عن مضمون وسياق وطموح العمل أو الجهد النقدي الذي يقوم به المؤلف ويتلخص في تقديم أو اعادة تقديم التراث الشعري لديك الجن وتحريره من الاسقاطات السطحية والمبالغات التي منعت جماليته ومعناه من السطوع بحرية. حُقق شعر ديك الجن وصدر في ديوان أكثر من مرة، ولكن هذا التحقيق، وفي كل مرة، كان يعاني خطأ في التفسير هنا ومبالغة في التأويل هناك. أما محاولة سليم مجاعص فتكمن في منح نصوص ديك الجن واشعاره الفرصة الكاملة للتعبير عن معناها ومقاصدها، واستخراج حياة الشاعر منها أو - على الأقل - تتّبع المحطات الأساسية في سيرته وخصوصاً ما تعلق منها بفاجعته المفصلية مع حبيبته وزوجته "ورد". وفي مقاربته المختلفة هذه يُظهر المؤلف اخطاء عديدة وساذجة ويُعيدها الى سوء فهم كبير. يقسم المؤلف كتابه الى قسمين: الأول "تهافت الرواة" ويقسمهم الى قدامى ومحدثين، وفيه يعتبر ان رواية أبي الفرج الاصفهاني في "الأغاني" هي أهم ما وصلنا من الأقدمين حول تفاصيل حياة الشاعر والأحداث المؤدية الى فاجعة "ورد"، وتتلخص عناصر هذه الرواية بخلاف ديك الجن مع ابن عمه، ثم زواجه من ورد، ووقوعه بعدها في عسر مادي ورحيله الى سلميّة حيث أفسح افتراقه هذا عن زوجته المجال لابن عمه في نسج مكيدة له وتلفيق خبر خيانة ورد له مع احد الغلمان، ثم عودة ديك الجن وقتله لورد، ثم اكتشافه لبراءتها وندمه على ذلك حتى نهاية حياته. يرى المؤلف في رواية الاصفهاني النسخة الأكثر قرباً الى الواقع لأسباب متعددة أهمها أنها تتوافق مع ما يمكن تدبُّره من شعر ديك الجن نفسه الذي يمكن القارئ أن يستخرج منه ما يدل على تراتب هذه العناصر وحدوثها. أما عن رواية الأنطاكي في "تزيين الأشواق" التي تقول ان ديك الجن عشق جارية وغلاماً وقتلهما معاً وصنع من رمادهما برنيتين كوزين وراح يشرب فيهما ويقبلهما عند الاشتياق، فيرى المؤلف ان مصدر هذه القصة التي لا تتوافق مع رواية الأصفهاني هو فهم سيئ لقصيدة يصف فيها الشاعر مجلس شراب ويصف ساقياً وساقية وليس فيها ما يوحي ان وله الشاعر بهما قد جاوز حدود ما ألفناه من الشعراء في تلك الحقبة في مجالس الشراب. أما رواية ابن خلّكان، فيجد فيها محاولة للتوفيق بين رواية ابي الفرج ومسألة قتل الغلام لدى الانطاكي، وهي نموذج آخر من سوء الفهم والاختلاق على أساس الاستيعاب غير الدقيق لشعر ديك الجن وعدم الوقوف على مجمل هذا الشعر وتفحص معانيه بوضوح. أما رواية العاملي فتمزج بين عناصر من الانطاكي وأخرى من ابن خلكان لتؤلف شكلاً جديداً للقصة ولا يمنحها المؤلف كبير اهتمام. النقد الأكثر أهمية وقوة يوجهه المؤلف الى المحدثين الذين تجاوزوا حدود الروايات والتثبت من عناصرها والتأكد من معانيها وصحة تأويلها. ويبدأ ب"الملثم البدوي" الذي نشر كتيباً عام 1948 عن ديك الجن، وهو خليط من السيرة والنقد الأدبي المقارن والتصور القصصي. وفيه نجد كمية لا يستهان بها من التخيل الساذج والأحداث المختلقة لاضافة شيء من الطرافة والتشويق على الحكاية الأصلية. أما رئيف خوري الذي وضع كتاب "ديك الجن، الحب المفترس" وهو كتاب يستحق بعض التقدير بنظر المؤلف ويراه مختلفاً وجدياً ولكنه على رغم ذلك يحتوي على استعجال وحشو وافتعال للأحداث. ثم يعود المؤلف الى المقدمة التي وضعها أحمد الجندي لديوان ديك الجن الذي عنى بجمعه وشرحه عبدالمعين الملوحي ومحي الدين الدرويش، وفيها يؤكد ان ديك الجن هو ضحية مؤامرة سعت الى طمس حقيقة شخصيته وابراز شخصية أخرى مكانها ويعتقد أيضاً أن القصة كلها مستبعدة الحدوث ويتهم الشاعر بالشعوبية. والمؤلف يرى في كل هذا تحليلاً خاطئاً وتخبطاً في التفسير واطلاق الأحكام. فقد دخل الجندي الى الموضوع بتسرع، وبدل ان يحكّم نظره في اختلاف الروايات ويقارنها بما في شعر ديك الجن، سار في اتهامات عشوائية سطحية فبدا تحليله نموذجاً للابتذال الذي يدعي المعرفة. في الفصل الثاني الذي يسميه المؤلف "شفافية النص" يتبدّى الجهد الأساسي في الكتاب ويظهر طموح الكتاب في اثبات رواية أبي الفرج التي هي الأقرب الى الواقع. فيقوم بايراد قصائد ديك الجن التي تدور حول محور فاجعة "ورد" في سياق حدثي، أي جمع هذه القصائد المبعثرة في الديوان وترتيبها من جديد وانعام النظر في معانيها وربطها بما يمكن استخراجه منها واستخلاصه من المرويّات عنه بالقرينة. هكذا يمنح المؤلف النصوص الفرصة كي تُفصح عن صوتها الأصلي النقي وتبثنا جماليتها المرهفة، فعلى أساس المنطق الداخلي لهذه النصوص واعلانها الصريح تارة والممكن طوراً يضع المؤلف فصول الفاجعة وهي: الحب الكبير، مقدمات الفاجعة، مقتل ورد، والحزن الكبير. على هذه الفصول الأربعة تتوزع شذرات شعرية استطاع المؤلف ان يطابق فيها الشعر مع الحدث. والحال فإنه بهذه الطريقة أعاد ترتيب جزء كبير من شعر ديك الجن وفق تراتب زمني وليس وفق ما ورد في ديوانه. وأبرز صورة جديدة تخالف الكثير من تخرصات الرواة. الأقدمين والمحدثين حول أحداث حياته ومعاني شعره، ويعيد هذا كله الى مقاربة البعض للتراث الشعري بسطحية وقلة موضوعية، ويأمل بان يكون كتابه ساهم في تكوين صورة للشاعر مستخرجة من شفافية أشعاره وهي غير الصورة التي أشاعها تهافت الرواة والمعلقين.