تحاول أقسام اللغة العربية في الجامعات الاسبانية الخروج من نطاق الدراسات المتخصصة في المخطوطات وتاريخ الأندلس الى عوالم اكثر رحابة للتعامل مع المجتمعات العربية المعاصرة من خلال الأدب، علماً ان هذه الخطوة بدأت قبل عقود بانشاء اقسام لتدريس اللغة والآداب العربية في عدد من الجامعات الحديثة في اسبانيا، مثل جامعة الاوتونوما او جامعة غرناطة التي تعتبر اقسامها اكثر التصاقاً بهذه النوعية من الدراسات عن غيرها من الأقسام الاخرى التي لا ترى في اللغة العربية سوى طريق لفهم الحقبة الأندلسية من تاريخ اسبانيا. يضم قسم اللغة العربية بجامعة الاوتونوما مجموعة كبيرة من المستعربين المهمين والمتخصصين في الآداب العربية المعاصرة، وقد بدأ يخطو خطوات اكثر تقدماً باتجاه اعداد الأجيال الجديدة للتعامل، ليس مع الأدب العربي الرسمي او الكلاسيكي، بل مع الآداب الاكثر التصاقاً بحياة الشعوب العربية من خلال محاولة جمع انواع القول والكتابة والفنون التي تنتجها الشعوب العربية من اقصاها الى اقصاها. لذلك تكتسب الدورات التخصصية في الترجمة التي بدأت قبل سنتين، وأكملت دورتها الثالثة هذا العام، لاعداد المترجمين من وإلى اللغة العربية اهمية علمية كبرى، خصوصاً ان الدورة الاخيرة حاولت تنويع انواع الترجمة من خلال ضم الترجمة الصحافية والاعلامية التي قدم فيها عدد من الباحثين المتخصصين جهداً كبيراً لبيان اهمية تلك المجالات في الترجمة، وكذلك كشف الصعوبات التي تكتنف عملية الترجمة في هذه الحقول، او دعوة عدد من مزدوجي اللغة العرب المقيمين في اسبانيا لتقديم خبراتهم الحياتية على مستوى الإبداع او الترجمة بين اللغتين كما حدث مع الكاتب والفنان التشكيلي السوري عاصم الباشا والشاعر والمترجم المصري طلعت شاهين. تحدث عاصم الباشا عن "ازدواجية" اللغة عنده باعتباره مولوداً في الأرجنتين من ام تتحدث الاسبانية، ولكنه تربى وعاش طفولته وشبابه في سورية، فكان يتحدث اللغتين الاسبانية والعربية في لغة التخاطب اليومي على المستوى نفسه. لكنه اعترف بأن هذا الازدواج جعل لغته العربية أقرب الى الترجمة الحرفية من اللغة الاسبانية. الا انه لا يرى في ذلك عيباً، بل يمكن ان يكون - في رأيه - اثراء للغة العربية باستخدام تعبيرات جديدة مبنية على النسق الاسباني، وان كانت مكتوبة في لغة عربية صحيحة. وتحدث طلعت شاهين عن تجربته في الترجمة الأدبية والسياسية التي كان نتاجها اكثر من اربعة عشر كتاباً من بين رواية ومسرحية وأشعار وقصص ودراسات أدبية وسياسية. وتطرق الى الصعوبات التي تواجه المترجم من اي لغة الى اخرى، ومدى حاجة المترجم الى التعرف على اللغة المنقول عنها اضافة الى اللغة المنقول اليها، ليس على المستوى اللغوي فقط، بل على مستوى الثقافة العامة نظراً الى ان الكتابة الأدبية ليست الا نتاج ثقافة متكاملة وليست نتاج ابداع منعزل عن بيئته المحيطة به. ثم كانت محاضرات الجانب الاسباني التي كشف بعضها عن معرفة عميقة باللغة العربية واهتمام حقيقي في ان يكون النقل منها واليها صحيحاً واكثر وعياً وفهماً. أبرز المداخلات التي قدمها المستعربون كانت للبروفيسور بدرو مارتينيث مونتابث الذي قدم عرضاً شيقاً لكتابات اقلام صحافية عربية معروفة في العالم العربي، والأساليب التي يستخدمها هؤلاء في محاولاتهم تطويع الكلمات الأعجمية للغة عربية. وقال ان هذا التطويع لم يتم من خلال ذهنية ابداعية تحاول البحث عن بديل لتلك الكلمات الأعجمية في اللغة العربية او حتى نحت كلمات جديدة يمكن للعرب استخدامها كبديل للكلمات والمسميات الاعجمية التي تدخل الاستخدام اليومي للمرة الأولى. وأشار مونتابث الى بعض هذه الكلمات مثل استخدام كلمة "سيمافور" للدلالة على "اشارة المرور"، ولفت النظر الى ان استخدام هذه الكلمة - على رغم ان العربية تمتلك البديل - هو رغبة الكاتب في استخدام كلمة واحدة بدلاً من كلمتين، مع انه في رأيه يمكن استخدام كلمة واحدة مثل كلمة "اشارة" وحذف كلمة "مرور"، لو كان الكاتب قادراً على استخدامها بشكل صحيح، بحيث يمكن فهمها على معناها الحقيقي الذي تشير اليه، مثل "وعبر الطريق والإشارة حمراء". وتناولت المستعربة كارمن رويث بالاشتراك مع الدكتور وليد صالح مفهوم الاشارات الصادرة عن العرب عند الحديث الشفهي، وهي لغة لها معناها التي يمكن للدارس الأجنبي ان يخطئها، خصوصاً ان بعض تلك الاشارات قد لا تعني شيئاً في لغة الاشارة لهذا الأجنبي. واجرى الباحثان معاً بعض التجارب على تلك اللغة الاشارية امام الدارسين في ورشة الترجمة في محاولة لفك بعض رموزها، وكانت نوعاً من التدريب على فهم سيكولوجية العرب كشعب باعتبار ان لغة الاشارة لها علاقة مباشرة بالتكوين النفسي للمتحدث بها، والعرب أقرب الى سكان اوروبا المتوسطيين ومن بينهم الشعب الاسباني في التعبير الاشاري الجسدي عند الحديث، بل تعتبر الاشارات الجسدية جزءاً مهماً ومكملاً للغة الحديث الشفهي مع الآخرين. ربما كانت مداخلة المستعرب اغناثيو غوتيريث دي تيران الأكثر اهمية، لأنها تناولت اللغة الصحافية العربية في الترجمة من اللغات الأجنبية الاخرى، وكشفت عن العديد من الاخطاء التي تعتور تلك الترجمة. ومن خلال اجراء عمليات ترجمة تناولت موضوعات مختلفة شملت السينما والسياسة حاول المستعرب الكشف عن ان اكثر المترجمين العرب الذين يعملون في الصحافة يرتكبون اخطاء سببها الأول إما جهلهم بالتعبيرات التي ينقلون عنها، او افتقاد اللغة العربية الى معجم موحد للمصطلحات. انتهت الورشة الثالثة للترجمة بجامعة الأوتونوما بحلقة نقاش موسعة شارك فيها جميع المحاضرين والدارسين على حد سواء في محاولة لشكف عن السلبيات التي يمكن ان تكون قد شابت انعقاد هذه الدورة حتى يمكن تلافيها خلال الدورة القادمة من الورشة الابداعية المنتظر عقدها خلال العام المقبل.