تبدو اللقطات التي صورها سامر معضاد وجمعها في كتابه "عالمي العربي" أخفّ من أوزانها الحقيقية، وهي بلا ريب أخفّ من عنوان الكتاب ومن مقدمته. فالأشخاص سواء الفرحون منهم أو المتعبون، وخصوصاً أولئك العابثين. لا يجمعهم كما حاول المصور أن يوحي في مقدمة كتابه انتماؤهم الى عالم هم العربي، مقدار ما تجمعهم خفة دأبت كاميرا معضاد على التقاطها بذكاء واضح أي لحظة تخلي الجسم عن ثقله وانفلاته في حركة متحفزة. والذكاء في صور معضاد ليس في جعله تلك الحركة غير منسجمة مع عناصر أخرى في الصورة، بل في الحركة نفسها. فصورة الأطفال اليمنيين في الصفحة 144 من الكتاب، والمتسلقين أعمدة شيدت في الهباء لا تكمن قيمتها إلا في جسم ذلك الطفل الذي يطير وراء كرته. الطفل اليمني هذا حين تعزله عن بقية عناصر الصورة يحيلك الى طفولة أصلية، والى جسم عابث وغير مكترثٍ بنفسه. إنها صورة مخالفة لما يمكن أن يستدعيه اليمن الى ذهنك، وكذلك رمول الصحراء التي بنيت الأعمدة الإسمنتية عليها. والعمال في الصورة التي تليها والذين ينظفون الترعة، لا يبدو التعب على وجوههم، على رغم حملهم الصخور الكبيرة على ظهورهم. فهم في الصورة أشبه بأناس يجرون اختباراتٍ لليونة الأجسام من جهة، ولوظيفة تجاورها. من المغرب اختارت الكاميرا مقهى رصيف، وطفلاً يحمل طفلاً بطريقة بهلوانية في حين تظهر قدم الرجل الأنيق الجالس على طاولة المقهى، كما يجعل من الرصيف مكاناً لامتزاج الأهواء واختلاطها، وتشتم من بعيد ومن دون قصد رائحة المغرب الغامضة والملتبسة. وصور المغرب أيضاً في كتاب معضاد، تتقابل الى حدٍ قد يبدو معه ابتذال تقصده غير مجدٍ أحياناً. فالفتيات الصغيرات في معمل السجاد لا يختلفن كثيراً عن الأطفال الذكور المستحمين في منتجع مولاي يعقوب، وإذا كان القصد من تقابل الصورتين، الإيحاء برفاهية الذكور وتعاسة الإناث فإن عمق الصورتين وصداهما مختلفان تماماً. أنهما توحيان بدواخل البيئات الشعبية، وتستحضران معاني معقدة للحياة في المغرب، وهما غنيتان الى حدٍ تفقد معه المقارنة قيمتها ومعناها. تثبيت المشهد ولعل ما أنجزه المصور في ليبيا عندما التقط لها ولناسها صوراً، هو تثبيت المشهد الليبي في مخيلة الناظر. فليس لليبيا صورة ثابتة في ذهن من لم يزرها على الأقل، ولكن الأبيض والأسود حين يطبعان مشهداً يرسخانه ويعطيانه عمقاً وزمناً. فقد تبدو عناصر الصورة في صفحة 126 من الكتاب قليلة. ومفتاح الديوان في يد الرجل لم يضف كثيراً، ولكن التقاط الظل وقسمته جسم الرجل، ثبت المشهد وجعله راسخاً وربما ساهم في نسبته الى محتوى جوهري، لا يلبث من يرى الصورة أن يبحث عنه فيها. ربما كان للمصور حاسة حادّة، هي ما دفعته لجعل صوره أشبه بتعريفات بصرية لتلك البلاد التي زارها والتقط لها صوراً. الفتى المصري المطل بوجهه الى الصورة في أحد أسواق الإسكندرية الشعبية، اخترقت بياض عينيه ودائرتهما، الشحوم السوداء التي ملأت وجهه في تلك الضاحية الصناعية من المدينة، فظهر محدقاً بسخرية لا تنم إلا عن عبث وقلة اكتراثٍ بالكاميرا. ولم يشأ المصور أن تتجاور صورة مصرية قد لا يعني تجاورها صهر البلد في إيقاعٍ واحد، فوزعها في أنحاء متباعدة من الكتاب. فالمطربة التي تصور فيلماً غنائياً قرب أهرامات الجيزة. لبست ثوباً أبيض، وعقدت يديها على رقبتها في إيماءة غنج شعبي، ويزيد من "كيتشيتها" وقوع الهرم في خلفية الصورة. فكم كان سيبدو جميلاً ومنسجماً تجاور هذه الصورة مع صورة طفل المدينة الصناعية المندهش والساخر. لم يلتقط معضاد في سوق نهار الجمعة في الجزائر إلا صوراً لفتيان "الحيطيست" أو الحائطيين، هناك حيث يختبىء العنف خلف تلك الوجوه الباردة. وفي السوق أيضاً خرضوات معدنية قليلة يبيعها شبان وضعوا في جانبها ثياباً للبيع أيضاً. ثاقب كهربائي وقطع لمحركات السيارات و"ريسور" يجلس عليه البائع وفي خلفية الصورة، وحول ورجال يعبرون، كأنها الجزائر نفسها. الشيخان الدرزيان اللذان يلعبان الكرة في أحد ملاعب مدينة عاليه اللبنانية، ليسا رشيقين، رغم تثبيتهما في الصورة. واحد متحفز لالتقاط الكرة والآخر طائر في الهواء بعد قذفه لها. كوخ ال"بيبسي كولا" والبناء المتصدع، والفيلا الجديدة البناء، والعمود الكهربائي، الشيخان محاطان بكل هذه العناصر غير المتجانسة. ومن لبنان أيضاً شبان وفتيات في ملهى ليلي، مكشوف على السماء. البلدان العربية، في كتاب معضاد والمجتمعات والناس، مختلفون كل الاختلاف ولم يجمعهم سوى الأبيض والأسود في كتاب هو عبارة عن جولة شخصية قام بها المصوّر بعينيه الحاذقتين ومخيّلته. أما النص الذي قدم به الصور فبدا مخالفاً لما أوحت به الصور من معان وأبعاد. * صدر الكتاب عن دار النهار، بيروت 1999.