كانت فاطمة تستعد لعرسها. ركبت ذات يوم الحافلة قاصدة متجر ازياء في الجزائر العاصمة. لم تصل الفتاة الى المحل، فقد انفجرت سيارة ملغومة قرب الحافلة. وعندما استرجعت فاطمة وعيها وجدت نفسها في المستشفى وقد اصاب حريق الانفجار وجهها، فلم تر الخطيب بعد ذلك اليوم أبداً. صورة فاطمة موجودة في كتاب "داخل الجزائر" الذي صدر أخيراً للمصور مايكل فون غرافينريد وقد دأب على زيارة الجزائر منذ 1992، حيث سجلت عدسته على رغم المخاطر التي كانت تحيط بالصحافيين، فترة قاسية من تاريخ هذا البلد العربي الافريقي. تستقبلك صور الكتاب بالوجوه التي تطل من كل جهة... في الشوارع والبيوت والمكاتب. أسلوب غرافينريد ركز على المشاركة. انه يحترم الآخر عندما لا يريد مواجهة العدسة، لكنه يعود فيقحم الكاميرا في اماكن يحتج الناس فيها على التقاط الصور مثل المقاهي والاحياء الشعبية ومناطق مرت بها حوادث العنف. تنطق الصور بأكثر من مقارنة، من ذبيحة عيد الاضحى الى اماكن العنف والمذابح. من مناظر السلاح الى مشاهد الاعراس، من العبادة الى الاستجمام والموسيقى. عين المصور في بحث مستمر عن مظاهر التناقض والتعايش، وعن تلك الصورة التي تلخص مشاعر اللحظة. وما اكثر التغيرات التي تحدث في اجواء الكتاب. يضعنا غرافينريد امام اتجاه ان المصورين الذين يحبون بلداً او يعيرونه اهتماماً يجب ان لا يلتقطوا له صوراً... لأن الصورة المعبرة يجب ان تكون تلك المحايدة التي لا تتخلى ابداً عن ايجابيتها، تلك التي لا تخنق مشاعر ولا تثير اشمئزازاً. كيف يظل المصور في هذا التوازن، في بلد عانى مأساة من الأسود والأبيض والتناقض! المصور السويسري، الذي حصل على جوائز عدة لصور التقطها في مناطق الاضطراب في العالم، كأنه يقدم في الكتاب وثيقة عن الجزائر في فترة من اصعب مراحل تاريخها. نجد فيها انفصاماً وتجزيئاً ورغبة في الاستمرار والحياة، خصوصاً في صور الشباب. كان المصور سيستخدم آلة صغيرة عادية حتى لا تثير الاهتمام وحفيظة الناس. يتحدث غرافينريد في مقدمة الكتاب عن مروره بثقافة الخوف من التصوير، ومع ذلك استطاع تقديم نظرة متعددة الوجوه عن مجتمع يطغى فيه الكرم والحفاوة على الخوف او الحذر من المصورين. ويقول ان الناس كانوا يستغربون اهتمام انسان بتسجيل مظاهر الحياة اليومية. فالتصوير عندهم مخصص للمناسبات الكبرى التي تستحق التصوير. غالباً ما كانت الصدفة تقود المصور الى لقطات معبرة، والى ابراز التفاعل بين القديم والحديث، والى التناقضات القائمة في المجتمع مظهرياً، هناك صورة التقطها اثناء الاحتفال بالعيد الوطني، في ملعب حيث كان فريق من النساء يلعب كرة القدم، في حين كانت مجموعة من الشباب تؤدي الصلاة خارج الملعب! ابتعد المصور عن مشاهد العنف والقتل مع ان وكالات الأنباء العالمية كانت تطالب بها، وقد علمته التجربة ان اعمال القتل تكون صعبة في البداية، وكلما ازداد القتل كلما سهل تنفيذه. ولا يعتبر المصور ان لقطة واحدة كافية لإعطاء نظرة او معلومة او انطباع، وانما يتأتى ذلك من مجموعة كافية يربط بينها موضوع واحد. كيف ندرك ان هذه الصور تمثل واقعاً في فترة معينة، ام انها مجرد وجهة نظر؟ الحقيقة تتوقف على اخلاص المصور وتفاعله مع مجتمع واحداث. انه فارق شفاف بين المصور السياحي والملتزم الذي يجرب ويعيش ما يرى سواء كان ابتسامة او دموعاً. في الصور الاخيرة من الكتاب تطل علينا وجوه شعب وديع في انتظار رفع ستار كابوس العنف ليستأنف مسيرة التطور الذي هو قدر كل انسان وحقه.