كشفت دراسة دولية حديثة أن التراجع الديمقراطي في الولاياتالمتحدة يؤثر سلبًا على صورتها في نظر شعوب الدول الديمقراطية الحليفة، لكنه لا يضعف في الوقت ذاته رغبتها في التعاون السياسي أو الاقتصادي معها. هذه النتائج تلقي الضوء على مفارقة مثيرة: صورة أمريكا تهتز، لكن تحالفاتها تبقى متماسكة على الأقل في الوقت الراهن. الانطباع العام والدراسة، التي أُجريت في 12 دولة أوروبية وآسيوية وأسترالية، وجدت أن المشاركين الذين اطّلعوا على معلومات حول تراجع الديمقراطية في أمريكا -مثل أحداث اقتحام الكونجرس، وتقييد قوانين التصويت، وتصاعد الاستقطاب السياسي-قيّموا الولاياتالمتحدة بشكل أقل إيجابية مقارنة بمن لم يطلعوا على هذه المعلومات. وهذا الانخفاض لم يكن جذريًا، لكنه كان ذا دلالة إحصائية واضحة، مما يشير إلى تأثر صورة أمريكا العالمية نتيجة هذه الانكشافات. صورة أمريكا ومع أن الشراكات الاستراتيجية لم تتأثر بشكل مباشر، إلا أن استمرار تآكل المؤسسات الديمقراطية الأمريكية قد يفتح المجال أمام نتائج بعيدة المدى. تشير الدراسة إلى أن انخفاض تقييم الولاياتالمتحدة مرتبط بتصورات سلبية حول استقرارها وقوتها، ما يُنذر بأن بعض الدول الحليفة قد تُعيد النظر في مدى اعتمادها على واشنطن مستقبلًا. وفي ظل هذا التراجع، تبرز قوى دولية مثل الصينوروسيا مستفيدة من حالة التراجع الأمريكي لتوسيع نفوذها، وتقديم نماذج بديلة للتعاون لا ترتبط بشروط ديمقراطية. وقد تجلت هذه المخاوف مع إدارة الرئيس دونالد ترمب، الذي عمّق الفجوات مع حلفاء تاريخيين بسبب سياساته الانعزالية وتصريحاته الاستفزازية، إلى جانب فرض رسوم جمركية أثارت توتر العلاقات مع كندا والمكسيك وحتى الصين. ورغم أن هذه الخلافات كانت اقتصادية في ظاهرها، فإنها كشفت هشاشة الخطاب الأمريكي حين يتناقض داخليًا مع مبادئ الانفتاح والديمقراطية التي طالما روج لها خارجيًا. تحدي المفهوم وتتحدى هذه النتائج المفهوم التقليدي للقوة الناعمة، الذي يفترض أن الجاذبية الثقافية والقيم الديمقراطية ضرورية لتأمين النفوذ الدولي. في المقابل، توضح الدراسة أن التدهور الديمقراطي، ورغم كلفته الرمزية، لا يؤدي بالضرورة إلى تآكل التعاون العملي مع الحلفاء؛ لكن ذلك لا يعني أن تأثيره معدوم على المدى الطويل. تحذيرات الداخل ولا تعني هذه النتائج أن التراجع الديمقراطي يمكن تجاهله. فالباحثون يؤكدون أن الضرر الذي أصاب صورة أمريكا حقيقي ومستمر، وأن استمرار هذا التراجع قد يُفاقم الهوة بين القيم التي ترفعها أميركا وسلوكها الداخلي، ما يهدد على المدى البعيد مكانتها العالمية. سلاح صامت ففي عالم يتصارع فيه الكبار على النفوذ، لم تعد القوة العسكرية وحدها كافية لترجيح كفة طرف على آخر. فالولاياتالمتحدة، رغم ما تمتلكه من ترسانة هائلة، تدرك تمامًا أن الحروب لا تُربح بالدبابات وحدها، بل بالفكرة والصورة والرواية. هكذا تشكّلت «القوة الناعمة»، التي باتت أحد أعمدة الاستراتيجية الأمريكية في التعامل مع خصومها. تعريف القوة الناعمة ويُطلق مصطلح «القوة الناعمة» على القدرة على التأثير غير المباشر، عبر الثقافة، الإعلام، التعليم، التكنولوجيا، الدبلوماسية العامة، وحتى السينما والموسيقى. وهي بذلك تمثل الوجه الآخر للهيمنة، حيث لا يُجبر الخصم على الانصياع، بل يُغرى أو يُحتوى. أدوات واشنطن الولاياتالمتحدة تمتلك شبكة هائلة من أدوات القوة الناعمة: • هوليوود: تصدّر الرواية الأمريكية للعالم، وتعيد إنتاج صورة «العدو» و«البطل» حسب مصالحها، سواء كان ذلك ضد روسيا، الصين، إيران أو غيرها. • الجامعات الأمريكية: تستقطب نخبة العقول من العالم، وتزرع فيهم القيم الليبرالية، ثم يعودون ليؤثروا في مجتمعاتهم من موقع القيادة. • وسائل التواصل: شركات مثل فيسبوك، تويتر ويوتيوب، باتت أدوات توجيه للرأي العام، وحجب أو تسليط الضوء على أحداث بعينها يخدم مصالح السياسة الأمريكية. الخصوم المستهدفون: من بكين إلى طهران في مواجهة الصين، تستخدم واشنطن القوة الناعمة لترويج خطاب «الحرية والديمقراطية» مقابل «الدولة القمعية». وفي إيران، تُستخدم الثقافة الأمريكية كأداة لاختراق جيل الشباب وتغذية التمرد الثقافي والاجتماعي. أما روسيا، فقد شهدت منذ سنوات حملة إعلامية ممنهجة تصوّرها كدولة تتدخل في الانتخابات، وتقمع المعارضين، وتعيد إحياء الحلم السوفيتي، وهو ما أسهم في عزلتها الدولية وتبرير العقوبات ضدها. ملحق: بيانات الدراسة المنهجية •عدد الدول: 12 دولة ديمقراطية • عدد المشاركين: 11.810 أشخاص • الجامعات المشاركة: كلية دارتموث، جامعة ولاية فلوريدا، الجامعة الوطنية الأسترالية • توزيع المشاركين: عشوائي على مجموعتين (تجريبية وضابطة) • نوع المعلومات المقدمة: معلومات حول التراجع الديمقراطي أو التدهور الاقتصادي • الأسئلة المطروحة: تقييم أمريكا، دعم التعاون السياسي والاقتصادي أهم النتائج • انخفاض تقييم أمريكا العام: بمعدل 0.095 نقطة على مقياس من 4 نقاط (يعادل 42% من الانحراف المعياري) • عدم تأثر التعاون السياسي: لم يسجل انخفاض في دعم الشراكات مع أمريكا رغم صورة التراجع الديمقراطي • تقييمات إضافية: المشاركون رأوا أن الحكومة الأمريكية أصبحت أقل استقرارًا وأقل ديمقراطية التمويل والنشر • جهة التمويل: كلية دارتموث ومركز ديكي للتفاهم الدولي • النشر: مجلة PNAS Nexus