رؤيتنا الوطنيّة 2030 تبني مناهجنا    المؤسسات العلمية في عالم المتغيرات    محافظة شقراء والأمن الغذائي    عشرات الشهداء والجرحى في قصف مكثف على غزة    لبنان يؤكّد الالتزام بالقرار 1701    الحكومة اليمنية: تحقيق السلام مرهون بالانسحاب الحوثي    موقف سعودي - إندونيسي مشترك تجاه العدوان على غزة.. إدانة ووقف فوري ومحاسبة الاحتلال    إنفانتينو: إنجاز الهلال سيظل خالداً    كورتوا: عودة مبابي مهمة للغاية    أخضر السيدات يخسر أمام هونغ كونغ في التصفيات الآسيوية    نائب أمير الرياض يرعى الحفل السنوي لجمعية تيسير لمساعدة ذوي الإعاقة على الزواج    المخدرات الموت البطيء    الوهيبي ل«الرياض»: أتمنى استضافة المملكة للمخيم الكشفي العالمي    اللقاءات الثقافية في المملكة.. جسور وعيٍ مستدام    «الكتابات العربية القديمة».. أحدث إصدارات مركز الملك فيصل    باب البنط بجدة التاريخية.. ذاكرة الأصالة والتراث    الإنجاز والمشككون فيه    الجامعات السعودية تنظم ملتقى خريجيها من البلقان    «تسكيائي» اليابانية.. وحوار الأجيال    الشكوى هدية    محمد بن عبدالرحمن يفتتح ورشة الوضع الراهن في إمارة الرياض    اتحاد القدم السعودي يوافق على تقديم فترة تسجيل اللاعبين    عبدالعزيز بن سعد يطلع على خطط «شرطة حائل» ومشروعات التطوير    مجمع إرادة والصحة النفسية بالدمام ينظم فعاليات اليوم العالمي لمكافحة المخدرات    ملتقى "مشروع مجتمع الذوق" يجمع قادة المؤسسات في المنطقة الشرقية    الشؤون الإسلامية في جازان تنفذ عدة مناشط دعوية في الجوامع والمساجد    تعيين أحمد زيدان أمينا عاما لغرفة المدينة المنورة    الأمير جلوي بن عبدالعزيز يرعى حفل انطلاق فعاليات صيف نجران    أمير منطقة جازان يشهد توقيع اتفاقيات انضمام مدينة جيزان وثلاث محافظات لبرنامج المدن الصحية    الأمير ناصر بن محمد يستقبل رئيس غرفة جازان    الأمير محمد بن عبدالعزيز يتسلّم تقرير غرفة جازان السنوي 2024    مركز الأمير سلطان للقلب بالقصيم ضمن الأفضل عالميًا    من أعلام جازان.. الأستاذ عبدالله بن عيسى إسماعيل الشاجري    العراق يؤكد استعادة أكثر من 40 ألف قطعة أثرية مهرب    ترامب يهدد بترحيل ماسك إلى جنوب إفريقيا    أمير تبوك يدشن مبادرة جادة 30 ويرعى توقيع اتفاقيات تعاون بين عدد من الجهات والهيئات    بلدية المذنب تطلق مهرجان صيف المذنب 1447ه بفعاليات متنوعة في منتزه خرطم    أمير تبوك يطلع على تقرير فرع وزارة النقل والخدمات اللوجستية بالمنطقة    مانشستر يونايتد مهتم بضم توني مهاجم الأهلي    نثق قي تأهل الأخضر للمونديال    أكد أن أبواب الدبلوماسية مفتوحة.. عراقجي: لا مفاوضات نووية قريبة    تستضيف مؤتمر (يونيدو) في نوفمبر.. السعودية تعزز التنمية الصناعية عالمياً    انطلاق النسخة الثامنة لتأهيل الشباب للتواصل الحضاري.. تعزيز تطلعات السعودية لبناء جسور مع العالم والشعوب    تأهيل الطلاب السعوديين لأولمبياد المواصفات    الفيشاوي والنهار يتقاسمان بطولة «حين يكتب الحب»    134مليار ريال إنفاق المستهلكين    حرصاً على استكمال الإجراءات النظامية.. ولي العهد يوجه بتمديد فترة دراسة تنظيم العلاقة بين المؤجر والمستأجر    استعرض التعاون البرلماني مع كمبوديا.. آل الشيخ: السعودية تعيش تحولاً كبيراً بمختلف المجالات    صدقيني.. أنا وزوجتي منفصلان    برنية: رفع العقوبات يمهد لفك الحصار.. واشنطن تدعم سوريا لإنهاء «العزلة»    "الداخلية" تنهي كافة عمليات إجراءات مغادرة ضيوف الرحمن الإيرانيين عبر منفذ جديدة عرعر    هيئة تقويم التعليم تعزز حضورها الدولي بمؤتمرات عالمية في 2025    ضمن السلسلة العالمية لصندوق الاستثمارات العامة.. نادي سينتوريون يحتضن بطولة PIF لجولف السيدات    وفاة كل ساعة بسبب الوحدة حول العالم    المفتي يتسلم تقرير العلاقات العامة بالإفتاء    سعود بن بندر يلتقي العقيد المطيري    العثمان.. الرحيل المر..!!    هنأت رئيس الكونغو الديمقراطية بذكرى استقلال بلاده.. القيادة تعزي أمير الكويت وولي عهده في وفاة فهد الصباح    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مناقشة حال جامعة التعليم العالي اللبناني تنقلب إلى شقاق عصبي وأهلي
نشر في الحياة يوم 03 - 04 - 1999

لا تكاد مناقشة تتناول أحوال الجامعة اللبنانية، جامعة التعليم الجامعي العام أو الرسمي اللبناني، تبدأ حتى تحتدم وتنفجر تشكيكاً في النوايا، ونسبةً إلى الغرض والهوى، وحملاً على السعي في الهدم والموت. وما يترامى به اليوم بعض مدرسي هذه الجامعة ويتراشقون من مطاعن في "العلم" والمكانة والمقاصد، وعليها، تعقيباً على دراسة وضعها بعض مدرسي الجامعة على بعض أحوالها، يردد أصداء حروب داخلية "أهلية" لم تعف عن الجامعة اللبنانية. وكانت الحروب هذه اتخذت من طلاب الجامعة ومدرسيها ومنظمتها النقابية، ومن مباني كلياتها وساحات هذه الكليات، مسرحاً مبكراً وسباقاً من مسارحها المتناسلة.
وها هي الجامعة، اليوم، أو شطر منها، مسرح حرب متأخرة، ومرتكسة، تتجاوب في جنباتها أضداد "الوطنية" و"الاستخبارات"، و"العلياء" و"الإسفاف"، و"البحث" و"الراحة النفسية"، و"العفة" والفضِّيات"، و"الأهلية" "أهل الجامعة" و"الأجنبية"، و"البيع" و"الشراء"، "التحديث" و"التخلف"... وليس التأخر والارتكاس دلالة على ختام الحروب الداخلية، على نحو ما كان التبكير والسبق قرينة على الابتداء. فهما، التأخر والإرتكاس، استمرار محض، وإرادة دوام لا يفلها خطب مهما كَبُر وعظم.
ويبدو، في ضوء بعض الحوادث السابقة، أن هذا مصير كل مناقشة أو مناظرة تتناول الجامعة، من غير أن تختص الجامعة بالأمر أو يقف عليها. فمنذ نحو السنة دعا برنامج تلفزيوني جامعيين، مدرسين وطلاباً، إلى مناقشة توحيد فروع الجامعة. فانفض الجمع على شقاق بعثت صورته المتلفزة الخوف في قلوب كثرة المشاهدين. وقبل نحو عقدين من الزمن أدت مسألة تفرغ المدرسين للتدريس والبحث في كليات الجامعة، لقاء بدل مالي، إلى مناقشة حادة تبادل فيها المتناقشون والدقة تقتضي القول: تبادلنا بعض المثالب والمدائح التي يكيلها المتناظرون اليوم بعضهم لبعضهم الآخر ولأنفسهم. وتدور كلها على قسمة المواقف والآراء والأحكام إلى غرضيتين وعصبيتين: الغرضية "الوطنية" وخلافها.
ولعل السبب الأول في القسمة هذه هو تناول الجامعة اللبنانية على وجه الشيء الأهلي. فهي ليست، في مرآة جمهور المتناظرين وهم كل الجمهور، مرفقاً من مرافق الدولة اللبنانية تصح فيه المحاسبة على معايير عامة، منها معيار الوظائف والأدوار، ومنها معيار التكلفة والثمن، ومنها معيار التجدد، إلى غيرها من معايير أكثر دقة وأقرب عبارة ربما. فتفترض المناقشةُ، ابتداءً، المباراةَ في تعظيم "المكسب" الذي تنهض الجامعة عَلَماً عليه ودليلاً. فإذا تبارى المتبارون في هذا المضمار لم تبق المناقشةُ مناقشةً، وانقلب القول إنشاداً، والقائلون جوقاً.
وعلى هذا يذهب أصحاب الجامعة إلى وصفها ب"الوطنية"، وحدها. فالجامعات اللبنانية الأخرى، الخاصة الوطنية والخاصة الأجنبية، منفية من الصفة الوطنية، ومن الصفة اللبنانية تالياً. ويتذرع أصحاب النفي إلى نفيهم بوقف استقبال الطلاب اللبنانيين من كل الطوائف، وكل المناطق، ومن الفئات الكادحة، على الجامعة العامة. وهم ينسبون إليها دوراً كبيراً، والحق أنه أوحد، في توحيد اللبنانيين.
وتنكر هذه الذريعة، ضمناً، على الجامعات الأخرى، وبعضها سبق نشأة الجامعة اللبنانية بنحو قرن من الزمن، تنكر عليها إعدادها المتعلمين اللبنانيين، وتأهيلها عشرات الألوف منهم، من كل الطبقات، وكل الطوائف والمناطق، طوال العقود التي سبقت ولادة بعض كليات الجامعة اللبنانية، وبعد هذه الولادة. وكأن الطلاب السابقين واللاحقين هؤلاء ليسوا وطنيين، أي لبنانيين، ولم يسهموا بأسهم لا تحصى في بناء المجتمع اللبناني، وإرسائه على الهيئة، المعقدة، التي رسا عليها، وكان توسع التعليم الجامعي، ووفرة حظوظه، من سماتها.
والحق أن إنكار الوطنية واللبنانية على الجامعات الفرنسية والأميركية، على رغم الدور اللبناني الذي اضطلعت به، يتطاول الإنكار إلى خريجي هذه الجامعات اللبنانيين، وإلى إسهامهم في الحياة الوطنية وهذا تحكيمٌ صريح للغرضيات والعصبيات الأهلية في تصنيف اللبنانيين، وفي ترتيبهم على مراتب وطبقات.
وذلك أن الجامعة الوطنية الوحيدة، والجامعة التوحيدية والموحِّدة، على خلاف جامعات التفريق والتمييز، هي، من وجه آخر يكاد لا يتميز من الأول، "جامعة الفقراء"، على ما يسميها بعض القوى السياسية والمذهبية، ويأخذ عنها من غير تردد بعض الأحزاب الثورية. ويُحمل العدد الكبير من الطلاب الدارسين في كليات الجامعة، وفي فروعها، وهذا العدد يترجح بين الثلاثين ألفاً وبين الخمسين، يحمل على فضيلة وميزة اجتماعيتين وثقافيتين لا تشوبهما شائبة، ولا تخالطهما علة أو مشكلة. وتترتب قوة التوحيد المفترضة على العدد الكبير هذا. ويُخلص منه إلى الجمع بين الصفتين الوطنية والإجتماعية، وإلى توحيدهما، وتخصيص الجامعة اللبنانية وحدها بهما. وهذا يجعل الفرق بينها وبين الجامعات الأخرى، الخاصة الوطنية والأجنبية، عميقاً، والحدود الفاصلين بين هذه وبينها وجودية.
ولما كانت الفروق الإجتماعية والمحلية والثقافية والسياسية الوطنية ومراتبها تظاهرات لفروق طائفية ومذهبية، تبلورت الصفة الأهلية لما تختلف به الجامعة اللبنانية عن الجامعات الأخرى تبلوراً صلباً ومتماسكاً. وهذا الحال يعصى التحليل، على معنيي التحليل: الرد إلى العناصر البسيطة والتناول المتدبر والمتعقل. فمن أي جهة حاول الذهن أن يأتي الجامعة اللبنانية وقع على نواة أهلية تدمج المطاليب والمشاعر والمصالح والأهواء، المذهبية والطائفية والإجتماعية والوطنية والثقافية، في وحدة إسمية أو إسمانية لا تتجزأ. وارتفع الإسم عَلَماً على المكاسب والإنتصارات والإحباطات السياسية والعسكرية والإجتماعية والمذهبية جميعاً، وانحفر وسماً مادياً عميقاً على الثارات كلها: الثأر من تأخير مرتبة الطائفة، والثأر من تأخير مرتبة المنطقة، والثأر من مرتبة الطبقة ومن الحط من مكانة اللغة العربية...
ويتشارك في حمل الجامعة اللبنانية على هذا الحال كل من عول، ويعول، على مكانتها، وعلى حصانة هذه المكانة، وكل من ينيط بالمكانة والحصانة حفظَ مكانته هو وحصانتها. والمعوِّلون والمنيطون أو النائطون قد يكونون أفراداً وجماعات. وهم أفراد وجماعات. ولكنهم، منطقاً وحالاً وتصوراً، جماعات وغرضيات وعصبيات جمعية. فهم لا يفرقون بين أحوالهم ومصالحهم الفردية، التي ترعاها الدولة الوطنية وقوانينها وهيئاتها، وبين الجماعات التي ينتسبون إليها. فيأتلفون جماعة جامعية على المثال العصبي نفسه. ويستعيدون للجماعة الجامعية، أي لأنفسهم، كل مسوغات الرأي أي الهوى المجتمعة من مسوغات الجماعات السياسية والعسكرية والإجتماعية، وربما الأمنية التي تنسب الجامعة العامة إلى نفسها، وتنيط بها مصالحها وأهواءها وانتصاراتها وثارتها.
فلا يصح، والحال هذه وعلى هذا المثال، أن يتطاول الفرق أو التباين أو الإختلاف، إلى الجامعة اللبنانية، أي إلى إسمها وجماعتها وعصبيتها. فلا فرق بين مدرسيها، ولا يجوز أن يتطرق إلى جماعتهم المتماسكة والمتآصرة وسواس المراتب أو الرتب. فهم كلهم واحد، مدرساً مبتدئاً وميلاً شيخاً ومترجماً بين عمرين" وهم واحد، متدرباً معيداً لا يعيد إلا إلهام قريحته وحدها ومساعداً لا يستعين بغير ذي الجلال والإكرام و"كرسياً" متواضعاً لزملائه وطلابه وإدارته. والجامعة اللبنانية، مدرسين وإدارة وطلاباً، قد تكون من الجامعات القليلة التي لا ترتب التدريس أو الإدارة على مراتب تعتبر بالخبرة والنشر والمشاركة العلنية.
وعلى نحو ما ينفى كل فرق بين المدرسين وفيهم - فلا يحق للمدرس أو الإثنين أو العشرة، إذا وجدوا، تناول التدريس والزملاء والطلاب والإدارة استطراداً بنظر فاحص، أو ناقد، يترتب عليه إدخال التمييز والفرق على الواحد المتصل والمشترك - ينفى كل فرق بين الطلاب وفيهم، ويغض عن فروق الإدارة ومراتبها وأعمالها وصلاحياتها. فيُسكت عن اطراح كليات الجامعة اللبنانية وفروعها، في ختام السنة الأولى وحدها، نحو نصف الطلاب إلى ثلثيهم، بحسب إحصاء أحد الزملاء في العدد الأول من "أوراق جامعية" وعلى هذا فتقدير عدد الطلاب، المتباعد، ينبغي أن يوزن بميزان الإطراح وعلله الكثيرة: التسجيل السياسي والإنتخابي، ازدواج التسجيل أو تثليثه قبل الإختيار القاطع، القناعة بالشارة الجامعية....
ويُسكت عن احتمال تضارب المصالح، أو تباينها وضعف تشاركها وتضافرها، بين جماعات الجامعة وفئاتها. فلم يُدع، إلى يومنا، إلى إضراب، أو تظاهر، أو اعتصام، ونجم عن الدعوة، صدرت عن المدرسين أو عن الطلاب، خلاف معلن احتج له أصحابه، واضطروا أصحابَ الدعوة إلى الإحتجاج عليه. فإذا أعلن المدرسون موقفاً أو رأياً لم يشكوا لا في إجماع الجمعيات العمومية عليه، ولا في متابعة الطلاب المدرسينْ على رأيهم وإجماعهم. فالإجماع هو الإبتداء، وهو المقدمة التي يبني عليها أصحاب الجامعة.
وينهض الإجماع على احتجاج متوارد ومرصوص نواته الثابتة أن الجامعة وحدة لا تتجزأ: فإذا لم يطمئن المدرس ولم يتفرغ للتدريس والبحث لم يأتِ تدريسه على الصفة اللائقة بالطالب وبمستوى الجامعة" وإذا لم يحتسب المدرسون والإدارة أحوال الطلاب الإجتماعية والعائلية والعامة تحولت الجامعة إلى "مصفاة"، شأن الجامعات الأجنبية ويمرّ الإستدلال إلى كل الحلقات وكل الأوقات، ولا يقف عند سور، على قول المناطقة.
وإذا ارتكب المرتكبون في حق الجامعة ضروب الإرتكاب الكثيرة، وكانت أداتهم إلى ارتكابهم من الجامعة نفسها، من مدرسيها وإدارييها وطلابها، لم يجز غير الصمت والإغضاء والصبر. فجازت التعيينات الإدارية والأكاديمية كلها، وجازت قرارات الترفيع والتثبيت والتعاقد، وجاز التعطيل العبثي، ويجوز كل يوم تدريسٌ بعضه أو معظمه لا يُنعت، فلا يُدفع هذا إلا إيماءً وتورية وعتاباً رفيقاً وموعظةً حسنة، على ما ينبغي بين الإخوة والأهل. وما دام الأمر بين الأهل، واقتصر عليهم، تصور كل رأي يذهب إلى غير مديح النفس وهجاء العدو، وهو الدولة في هذا المعرض وعلى قول "مفكر" جامعي، بصورة التشهير والدخالة ومواطأة مبيِّتي الشر للمكسب الوطني والإجتماعي الكبير.
فما لا تطيقه الجامعة اللبنانية، إدارةً وطلاباً ومدرسين، هو النظر الفاحص والمراقب. فمثل هذا النظر يشي بالإنقسام الداخلي وبالإزدواج. وهو قد يؤدي إلى تجويز ظهور تيارات الرأي، وكتل المصالح، والإعلان عن الخلافات وبلورتها في روابط مدرسين، وفي اتحادات طلاب، وجمعيات إداريين. ومعنى هذا، إذا نشأ، إناطة تغيير حال الجامعة اللبنانية بمنازعاتها الداخلية، ورقابة الهيئات المختلفة والكثيرة بعضها على بعض، والخروج من الإجماع، وهو قد يكون طوعياً وتلقائياً وهذا الأدهى فيه، إلى الكثرة وتفاعلها وحدها بعضها بعضاً. ومعنى هذا، كذلك، انحسار العداوة عاملَ كبت للخلافات والإنقسامات القائمة، وإن خرساء أو بكماء، وبلوغ الرشد الإحتجاجي.
وهذا الخروج من الإجماع، وانحسار العداوة، وبلوغ الرشد يفترض الإقلاع، الأليم، عن دمج الجامعة اللبنانية في جسم البرنامج السياسي "الوطني"، أي العروبي الثقافة السياسية العروبية، الأهلية والعصبية. فما بقيت الجامعة بنداً من بنود هذا البرنامج - أي مكسباً نضالياً للفقراء والمناطق المحرومة وللحركة الديموقراطية والطوائف الإسلامية ومنظماتها وساستها وقياداتها - استحال الفصل بين المعيار الجامعي، إعداداً وتأهيلاً وتدريساً وبحثاً وإدارة، وبين المعيار الأهلي.
وترتب على دمج المعيارين في واحد ما يترتب عليه منذ عقود، وفي العقد الأخير خصوصاً، أي توحيد المرتبة العلمية والمرتبة الإجتماعية، وحمل الواحدة على الأخرى. فيفضي كل سؤال عن المرتبة العلمية والجدارة والتأهيل إلى انتقاص من المرتبة الإجتماعية، وطعن في استحقاقها وثباتها. ويتشارك الطلاب والمدرسون في طلب دمج المعيارين والمرتبتين، وفي صونه من المحاسبة والنقد. وتتولى كل جماعة الإحتماء بالأخرى، والتوسل بها إلى حماية حصانتها، باسم الجامعة ووطنيتها وقضيتها. وينقض إسم الجامعة، داخل الجامعة وكلياتها وفروعها وخارجها، كل احتجاج بمرجع علمي، أو تربوي، أو إداري تنظيمي، قد يسلط رقيباً على حال الجامعة، وقد يطلب تحكيمه في أحوالها وأوضاعها.
ويرفض الجامعيون نصاب المرجع والمحكِّم في كل مسائل الجامعة. فلا يقر المدرس لغيره، فرداً أو هيئة، بحق النظر في تدريسه، مادةً وتنظيماً. ولا يقر مدرسو القسم، أو الكلية، بحق غيرهم في مناقشة تدريسهم. فكل نظر تهمة لا تطاق، ومجابهة مباشرة وإثنينية مغلقة لا يُقبل تحكيمُ ثالثٍ مرجع أو معيار فيها، مهما كانت شرائط نصب المرجع هذا واضحة ومشتركة. فما ينكره الجامعيون ويرفضونه هو فكرة المرجع، وما يترتب على نصب المرجع من فصل بين المعيار العلمي وبين المكانة الإجتماعية والحصانة السياسية والأهلية.
وإنكار فكرة المرجع قرينة على فردية محمومة هي الوجه الملازم لنازع جمعي، بل جميعي، محموم كذلك. ويتبادل الوجهان، الفردية والجميعية، المنافع، ويتشاركان في درء الإنقسام والمنازعة المفضيين إلى تعريف عام ومشترك لقواعد عمل الجامعة وعلاقات عناصرها بعضها ببعض. ويتذرع الجامعيون في محاماتهم عن إسم الجامعة، وعن ثباتها على حالها وجمودها عليه، بتفوق بعضهم، وغلبتهم على ثقافة "البلد"، ويتذرعون بحصتهم من "الإنتاج الثقافي" وحاجة الجامعات الخاصة إلى تعليمهم.
ولكنهم يُغفلون وصف هذه الثقافة، وما هي عليه من التقطع، والعود المرير على بدءٍ لا يحول ابتداء، ومن تركِ ميادين واسعة وكثيرة مواتاً من غير حرث، واعتيالٍ على الغير، وضعف توارث وخلافة واستئناف. والسبب في هذا الإغفال هو احتساب الأفراد، والسعي الفردي، من دون البيئة المُؤتلفة من الإسهام المتصل والمتسع والمتوارد والآخذ بعضه بتلابيب بعضه الآخر وناصيته. فيقال في هذا العمل أو ذاك، والأغلب في عمل فلان أو فلان قبل الإقتصار على فلان من غير عمله، إنه جيد أو متقن. ويُنسى موقع هذا العمل من أعمال سابقة، في المسألة الواحدة أو الباب المشترك، ويهمل موضعه من أعمال قريبة.
فكأن "الخلاص" الثقافي جائز عن يد أفراد لا يجمعهم نسيج متشابك ومتواشج، ولا يتصلون من طريق بيئة مشتركة. وعلى النسيج والبيئة مبنى الهيئة الجامعية، وهما ميزان عملها، على اختلاف روافد هذه الهيئة، العامة والخاصة، الداخلية والخارجية. وهما الحَكَم في الإخفاق وفي الإنجاز. وهما يفترضان فك المعرفة من السلطة والأهل، ونهوض مرجع داخلي من داخل المعرفة لا تستقر مرجعيته المشروطة على قرار، ولا تأمن المحاسبة الدائمة والملحة. ولا تحتكم المحاسبة، والحال هذه، إلى أفراد الأعمال، وأفراد العاملين، بل إلى الشكل الذي تنعقد عليه علاقات البيئة والنسيج، المجتمعة والمتماسكة.
فما لم تتخذ علاقات البيئة والنسيج الجامعيين شكلاً، على معنى علم نفس الشكل وهو يقدم الموضع والتعالق والكل على المادة، ولم يدرج الشكل هذا المدرسين والطلاب جميعاً في خطوط بيانية يسع الجمهور، أي المجتمع، والمدرسين والطلاب، قراءتها وفهمها، وإدلاء رأي في وجهاتها ورسومها - بقيت الجامعة اللبنانية بنداً في برنامج أهلي يقصر دون بلوغ السياسة والدولة العامتين، وهدية فاخرة ومتحفية من غير استعمال. وفي الأثناء يطرق الطلاب أبواب الجامعات الخاصة، الوطنية والأجنبية، في لبنان وخارجه، ويستمر المدرسون "الوطنيون" على شقاقهم المزمن في سبيل جامعة وطنية واحدة وثقافة وطنية جامعة.
* كاتب لبناني.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.