رياح مثيرة للأتربة والغبار في 5 مناطق وفرصة لهطول الأمطار على الجنوب ومكة    أمير تبوك يعتمد الفائزين بجائزة المزرعة النموذجية    السعودية و8 دول: تمديد تخفيضات إنتاج النفط حتى نهاية 2025    الطائرة ال51 السعودية تصل العريش لإغاثة الشعب الفلسطيني    عثروا على جثة امرأة في فم تمساح    اكتمال عناصر الأخضر قبل مواجهة باكستان    الخريجي يشارك في مراسم تنصيب رئيس السلفادور    المؤسسات تغطي كافة أسهم أرامكو المطروحة للاكتتاب    «التعليم» تتجه للتوسع في مشاركة القطاع غير الربحي    «نزاهة»: إيقاف 112 متهماً بالفساد من 7 جهات في شهر    20 شخصاً شكّلوا أول فرقة كورال سعودية خاصة    إعادة كتاب بعد 84 عاماً على استعارته!    عبور سهل وميسور للحجاج من منفذي حالة عمار وجديدة عرعر    نوبة «سعال» كسرت فخذه.. والسبب «الغازيات»    زلزال بقوة 5,9 درجات يضرب وسط اليابان    في بطولة غرب آسيا لألعاب القوى بالبصرة .. 14 ميدالية للمنتخب السعودي    معرض الكيف بجازان يسدل الستار على فعالياته بعد حضور فاق التوقعات واهتمام محلي ودولي    مزايا جديدة لواجهة «ثريدز»    وصول الطائرة الإغاثية السعودية ال 51 إلى مطار العريش لدعم غزة    نقل تحيات القيادة وأشاد بالجهود الأمنية.. الأمير عبدالعزيز بن سعود يدشن مشروعات «الداخلية» في عسير    تبريد الأسطح الإسفلتية في عدد من المواقع.. المشاعر المقدسة تستعد لاستقبال ضيوف الرحمن    انضمام المملكة إلى المبادرة العالمية.. تحفيز ابتكارات النظم الغذائية الذكية مناخيا    الأزرق يليق بك يا بونو    المملكة تستضيف بطولة العالم للراليات تحت مسمى "رالي السعودية 2025"    الكعبي.. الهداف وأفضل لاعب في" كونفرنس ليغ"    رونالدو يغري ناتشو وكاسيميرو بالانضمام للنصر    القيادة تهنئ الشيخ صباح الخالد بتعيينه ولياً للعهد في الكويت    الصدارة والتميز    أوبك+ تقرر تمديد تخفيضات الإنتاج الحالية حتى نهاية 2025    حجاج الأردن وفلسطين : سعدنا بالخدمات المميزة    وزير العدل: دعم ولي العهد اللامحدود يضع على أفراد العدالة مسؤولية كبيرة    حجب النتائج بين ضرر المدارس وحماس الأهالي    بدء تطبيق عقوبة مخالفي أنظمة وتعليمات الحج    سائقو الدبَّابات المخصّصة لنقل الأطعمة    الحجاج يشيدون بخدمات « حالة عمار»    ..و يرعى حفل تخريج متدربي ومتدربات الكليات التقنية    هذا ما نحن عليه    هنأ رئيس مؤسسة الري.. أمير الشرقية يدشن كلية البترجي الطبية    إطلاق اسم الأمير بدر بن عبدالمحسن على أحد طرق مدينة الرياض    جامعة نورة تنظم 20 حفل تخريج لطالبات كلياتها ومعاهدها    ماذا نعرف عن الصين؟!    توبة حَجاج العجمي !    "فعيل" يفتي الحجاج ب30 لغة في ميقات المدينة    "الأمر بالمعروف" تدشن المركز الميداني التوعوي بمكتبة مكة    الاحتلال يدمر 50 ألف وحدة سكنية شمال غزة    تقرير يكشف.. ملابس وإكسسوارات «شي إن» سامة ومسرطنة    أمير نجران يشيد بالتطور الصحي    نمشي معاك    أمير الشرقية يستقبل رئيس مؤسسة الري    11 مليون مشاهدة و40 جهة شريكة لمبادرة أوزن حياتك    الهلال الاحمر بمنطقة الباحة يشارك في التجمع الصحي لمكافحة التدخين    مسبار صيني يهبط على القمر    «طريق مكة».. تقنيات إجرائية لراحة الحجيج    «إخفاء صدام حسين» يظهر في بجدة    فيصل بن مشعل يرعى حفل تكريم معالي رئيس جامعة القصيم السابق    توافد حجاج الأردن وفلسطين والعراق    إرهاب «الترند» من الدين إلى الثقافة    مدينة الحجاج بحالة عمار تقدم خدمات جليلة ومتنوعة لضيوف الرحمن    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



تنامي النزوع الوطني وتراجع الخيارات الاقليمية والأميركية . السلطة العراقية ، المعارضة والمجتمع : دلالات في ضوء مقتل الإمام الصدر
نشر في الحياة يوم 15 - 04 - 1999

سؤال لا يطرحه أحد: إذا عادت الحياة السياسية داخل العراق، اليوم، فهل هذا يخدم السياسات الأميركية، والاقليمية، مع حفظ الفوارق، أم لا؟ ولكن هل هناك أصلاً من يمكن ان يخطر على باله مثل هذا الاحتمال، وهل ثمة من طريق آخر ما بين "الديكتاتورية" و"اسقاط النظام"؟ الأميركيون والمعارضة والسلطة يتفقون، كل من موقعه، على استحالة الاحتمال الثالث والجميع يتناوبون جاهدين لطمسه مع أن الحياة لم تعرف من ظاهرة حية سواه.
هذا كان معنى ما قد حدث حين أعلن عن مقتل الإمام الجليل محمد محمد صادق الصدر، ففي داخل العراق وخارجه ثارت حمية الناس، وكما في سجون ومعتقلات السلطة، ما زال هنالك معتقلون في إيران، وإذا كانت السلطة تفعل ما فعلته كل يوم وبلا توقف، فالإضافة التي طرأت بهذه المناسبة لم تكن عارضة والاعتقالات التي جرت في إيران هي مؤشر على تغير له دلالة فاصلة، بما أنه يدل بعد أكثر من عقدين من الغياب على عودة فعل الآلية الوطنية "الداخلية" وحضورها على حساب الفعل الخارجي الاقليمي والدولي، وعلى اشتراطاته التي طالت وطأتها كثيراً وتقادمت. وكان على بعض التحليلات أن تتوقع ولو من دون أن تذهب لما هو أبعد، نتائج ما حاسمة، تترتب على حدث 2 آب اغسطس 1990 وتداعياته، سواء منها العدوان والتدمير العسكري، أو الحصار والعزل، مع فعل التغيرات العالمية المعروفة، وبالأخص ما أصاب نموذج ومثال الأنظمة أحادية الحزب من هزيمة مدوية، وشروط التفكيك التي فرضت على النظام بسبب التدمير و"قطع الموارد" النفطية والعزل، إلا أن غالبية تلك التقديرات كانت تتوقع للنتائج المترتبة على هذه الحالة ان تصب في أي خانة سوى تلك التي تؤول إلى امكانية انبعاث العملية السياسية في الداخل.
كان الحد الفاصل بين هيمنة الدولة والحزب الحاكم شبه المطلقة وبين عودة آلية الصراع السياسي الاجتماعي للعمل، قد افتتحت في آذار مارس 1991 مع "الانتفاضة" التي هي فعل يستمد مبرراته من عوامل سابقة على العدوان وعلى التغييرات العالمية، ومع ذلك، فإن سعة ذلك الحدث، وعمقه وشموله الذي يذكر بتظاهرة ثورة 1920، ناهيك عن الطريقة التي استعملت في قتله، وكل هذه سمات ملازمة في تاريخ العراق للأحداث الفاصلة، كان من شأنها أن تعيد رسم المجال الاجتماعي الهائل، الذي كان يمثل حصة المجتمع ضد الدولة على مر تاريخ العراق القديم والحديث خصوصاً. وما كان قد بدا في العقدين السابقين على عام 1990 وكأنه اختناق الحيز الاجتماعي تحت ثقل الدولة الصارمة، محكمة التنظيم، الغنية بموارد لا ينتجها المجتمع، المتضامنة بالايديولوجيا وصلة الرحم وقاعدة اجتماعية تتغذى من محيط بدوي مختنق، لا طريق أمامه للاندراج ضمن الآلية الوطنية العامة إلا عبر الدولة، انهار بفعل عوامل متشابكة أبرزها ذلك المتأتي من فعل العامل الخارجي الطارئ والقاهر.
كل شيء عاد كما كان، ولكن من يجسد اليوم هذه الحقيقة المنبعثة بعد أكثر من عقدين وكيف؟ هنا يجب أن نبحث عن السيد الصدر ونتعرف عليه ونزن خطورة دوره وعمق مأساته. فقبول مسؤولية إعادة بناء حياة سياسية تتجاوز لغة الدم في لحظة استثنائية كان بحد ذاته سيراً على حافة الهاوية، تتحداه وتتهدده سلطة متغطرسة وسخط مجتمع راغب في التغيير حتى الموت، أعلن منذ زمن أن لا لغة بينه وبين السلطة بصورتها الراهنة غير الإلغاء والسحق المتبادل، هذا مع غياب التكوينات والبنى الاجتماعية الثابتة وعدم وضوح مدى التحويرات التي طرأت عليها، فبعد أكثر من عشرين سنة من العمل الدؤوب الشامل على قتل كل ركيزة وكل مؤسسة سياسية أو اجتماعية، مهنية أو فكرية لا تعود إلى السلطة، وعهد طويل من الذهاب بالحياة بجملتها نحو نظام علاقات واقتصاد لا هوية له، يخلط النزعة الحربية بدمج المجتمع بدولة جوهرها عائلي مناف لطبيعة الدولة، ويقايض المجتمع على دوره المستقل وحريته، بإعالة من فوق مشفوعة بالقسر والقسوة، ووعد برفاهية طالما بدت قريبة من ملامسة حياة الناس وضرورات عيشهم الحيوية حقاً. بعد هذا كيف يمكن لقيادة سياسية أن تنبثق فجأة وعلى أية أرض تستطيع الوقوف. وفوق ذلك، فإن ظاهرة الصدر كانت معنية بالخوض وسط تحديات ماض كان يطل عبر ثلاثة وجوه: وجه سلطة لا تريد الإقرار بأن عزها قد ولى وقُبر منذ 2 آب اغسطس 1990، وهي تصر بدل أن تتواءم مع اللحظة، على تغيير وسائلها، إنما بحدود وضمن إطار ما يجعلها تؤدي الوظائف القديمة نفسها، بينما ظل هاجس القيمين على القرار والسلطة تحكمه فكرة الممر الموقت والحدث الطارئ المفضى اما إلى الانتصار الكبير أو عودة الحال إلى أصله الذي كان عليه قبل 1990... ووجه مجتمع بلا رأس مستعد للسير تحت راية أي رأس يجده صالحاً لإقامة شيء من فضاء مستقل، ضروري للتعبير عن الموقف اليومي، وهضم الدروس ما بين انتفاضة مذبوحة وثورة حتمية قادمة... ثم يأتي من بعيد خيال تلك التعبيرات التي تتحدث من وراء الحدود لغة غريبة الوقع والمعنى، وإن رفعت شعاراً له صدى لا يرفضه أحد وتطرب له كل الآذان. وما كان الوضع هنا يشبه بأية حال مثال الاتحاد السوفياتي ودول أوروبا الشرقية. فالعراق أقرب إلى بلد علمثالثي، مفعم بالخصوصية الشرقية، التطور فيه جرى في شروط لا تتيح الانتقال نحو رسوخ الدولة ومؤسساتها العصرية والعقلانية. أما التنظيم السبارطي الصارم لهذا الجهاز، فلم يكن يخفي طابعه وجوهره المناقض لطبيعة الدولة والموكول إلى نواة قرابيه، وهو بناء عليه لم يكن ليؤسس لبنية مؤسسات راسخة، وإذ هو قد جهد لتدمير المؤسسات السياسية الوطنية، فلقد تعدى تلك الحدود ليستهدف البنى الاجتماعية التقليدية التي استنفرها التغيير ووجدت نفسها وجهاً لوجه مع نظام يريد أن يفرض عليها التبعية أو الموت، فقامت حرب نواة عشيرية حاكمة بيدها مقاليد السلطة وامكاناتها الهائلة ضد مجتمع اضطر لأن ينسى حقبة السبات التي أصابت حيوية بناه العشائرية والتقليدية، ففاض بحر تلك البنى والتكوينات مغرقاً كل الجزر التي كانت قد ظهرت على مدى عقود من مجهودات التطور الحديث.
ولم تكن الذاكرة الاجتماعية قد فقدت بعد حرارة الماضي. فالدولة المسماة "حديثة" رفعت هي الأخرى بعد 1920 حين قامت راية الدولة العصرية والنظام ضد العشائرية والتقليدية، وكما بالأمس كما في عهد "الدولة الاشتراكية" اعيد نظام "شيوخ الحكومة" ليشكل ركيزة الدولة العصرية ضد العشيرة ومثلها الحرة المتضامنة المساواتية والتوافقية التي ترفض كل شكل من أشكال الدولة المنفصلة عن المجتمع. ومنذ 1991 ظهر هؤلاء مثل الديناصورات المنقرضة ليملأوا الافق، معلنين بدء عهد جديد وقواعد جديدة للعبة، وكان بعث هذا النوع من المشايخ قد قوبل بداية بالرفض العنيف ونفذت عمليات قتل قام بها أبناء العشائر لبعض من تم "تشييخهم" خصوصاً في منطاق دجلة السفلى ابتداء من ريف الكوت والعمارة كما في القرنة ومناطق أخرى، لكن ردة الفعل الأولية تلك سرعان ما تراجعت على ما يبدو بفعل القناعة بأن التبدل في وضع السلطة ليس بموقت وان انبعاث "شيوخ الحكومة" هو مظهر من مظاهر بداية عهد جديد وأشكال صراع جديدة تضع هؤلاء الشيوخ، كما حصل على مر عهود طويلة في الوسط بين دولة ومجتمع متعادلان مع أرجحية ظاهرة لمجتمع لم يتوقف عن السعي لإقامة حلمه الأزلي... دولته التوافقية التي تشبهه.
بهذه الروح تم الانعطاف على عجل نحو تحالف مجرب قديم كان يجمع الوحدات العشيرية وممثليها الأحرار المنفصلين عن "شيوخ الحكومة" مع "النجف" وكاد يحدث اليوم مظهر يذكر بالواقعة التي انتشر التشيع في العراق الحديث تحت دفعها منذ انتفاضة 1787 الثلاثية التي عمت العراق الأسفل برمته، وكانت أقرب بروفة حديثة لثورة 1920 وترافق فشلها مع زيادة الميل التركي لتعزيز دور "مشايخ الحكومة" وتصفية الاتحادات القبلية، مما دفع لظهور اسطورة حمد آل حمود الوطنية وسرَّع عملية تشيع العشائر العراقية في الوسط والجنوب وربط البحر العشائري بالنجف، لتظهر قيادة وطنية جديدة قادت النضال الوطني منذ ذلك التاريخ حتى ثورة العشرين، غير أن ايقاع الزمن والظروف تغير كثيراً، وما استغرق حدوثه وقتها عقوداً من الزمن حدث اليوم في أشهر، فبدأنا نشهد انعطافة متعاظمة نحو التدين وزاد موقع ممثلي الحوزة في المدن والريف، وبرزت للمرة الأولى ظواهر غير مسبوقة، إذ انتشرت صور الإمام صادق الصدر في البيوت، وهي ظاهرة لم تعرف في تاريخ علاقة الناس بالحوزة، في حين أصبح هنالك مركز للقرار يزداد نفوذه بسرعة مذهلة، ويوحي بإعادة تنظيم للانتفاضة بحلة سياسية بعد هبتها العنيفة المذبوحة.
من أين جاء السيد محمد صادق الصدر بتلك الرهافة الحسية والوعي بالضرورة وبهذا القدر من الشجاعة الخارقة حين قرر بعد الانتفاضة مباشرة الخروج على منطق الالغاء المتبادل ومن طرف واحد؟
في الماضي غير البعيد كانت هنالك مأثرة محمد الصدر الذي ترأس الوزارة عام 1948 على اثر وثبة كانون في لحظة من أكثر لحظات الحكم الملكي حراجة، وسوى ذلك، فإن ما أقدم عليه الصدر اليوم يعد سابقة فريدة، وعلى رغم أن محمد باقر الصدر لم يكن كداعية وكمفكر إسلامي كبير أقل وعياً بشروط الوحدة الوطنية، وان تراثاً يعود إلى الحبوبي وجعفر أبو التمن، يجب ان يحضر الآن مستذكراً مرونة وسعة افق ذلك الزعيم الوطني الذي خرجت من جبته الحركة الوطنية العلمانية العراقية المعاصرة بكل تفرعاتها، ونقصد بالطبع أبو الحركة الوطنية العراقية جعفر أبو التمن. على رغم هذا كله، فإن ما أقدم عليه وما كرَّسه صادق الصدر هو سلوك جديد ومبدع يستحق أن يسجل كعلامة فاصلة وكبداية لعهد تاريخي جديد.
وهكذا ولدت بداية تأسيسية للحركة السياسية وللحركة الوطنية، متحققة على أرض الواقع ومتناسبة مع الظرف الجديد ومع مقتضيات الزمن، ومتميزة بخصائص جديدة أهمها إعادة اكتشاف أوليات الوطنية، باعتبار ذلك أهم سلاح يمكن ان يعوض عن اثر اختلال البنى وفوضى وضياع التعبيرات السياسية و"الفكرية"، هذا ناهيك عن إعادة احياء مبدأ عدم الالغاء والإقرار بحق الجميع بالحياة. وكل هذا المسلك لم يكن يبدو مفهوماً، وظل غريباً ومستنكراً، تتناهبه نزعتان، فعدا عن السلطة التي تدين بدين الالغاء، ولا تستطيع رؤية امكانية صعود وانتصار آلية تعمل عكس منطلقات ذلك الدين الزائف، أو تريد تكريس مبدأ المشاركة الحرة، عدا عن هذه العقبة الكاداء توجد أيضاً عقبة ثقيلة أخرى بعيدة لكن أثرها السيئ ما زال يسد جانباً من الطريق نحو الافق الجديد. هذه القوى بشعارها المعروف الداعي ليل نهار إلى "اسقاط السلطة" هي الأخرى ظاهرة قديمة تضرب في ذات الجذور التي جاءت منها السلطة ومفهومها الأحادي، مع اختلاف المسار وظروف التطور والمآل، فظاهرة "المعارضة العراقية" نشأت بالأصل قبل أكثر من ربع قرن، فوق ساحات عربية واقليمية، كانت تفرض شروطاً صارمة على كل قوة تريد أن تحظى بحق الوجود والنشاط انطلاقاً منها، وبفعل الصراع الذي كان محتدماً بين تلك الساحات والحكم في العراق، بما في ذلك الحروب الطويلة الشاملة، فلقد كان لا بد للمعارضة من أن تتبنى سياسة العداء المطلق وشعار "اسقاط السلطة" شرطاً لازماً قبل أي نشاط، ولم تكن قوى المعارضة تملك أي عنصر من العناصر الضرورية لحفظ التوازن أو خلق حد أدنى منه، فتأثيرها داخل العراق شبه معدوم وصلتها بجمهورها حتى بالحدود الدنيا مقطوعة، وإذ هي قد وافقت على العمل في مثل تلك الشروط، فلقد رضيت أن تلعب دور القوى الملحقة بالسياسات الاقليمية والعربية، ومن ثمَّ وفي ظروف أخرى بالسياسات الدولية.
لقد كان من الطبيعي أن تتحول هذه الظاهرة بمرور الزمن إلى مؤسسة لها بنية وسمات تميزها، فهي قوة تلغي كل تفكير يمكن أن يواجه معضلة التغيير بناء لحكم الشروط الملموسة وعلى ضوء الحقائق لا الشعارات، أو بناء على المتغيرات الاجتماعية وتبدل أشكال الصراع بضوء طبيعة النظام وآليات عمله، وقد تحول شعار "اسقاط السلطة" إلى لازمة اجبارية وإلى دين أعمى وفارغ من كل معنى يلغي كل ما عداه ويحرم كل شكل من أشكال البحث المجرد وكل محاولة تساؤل عن حقيقة ومدى تطابق هذا الشعار مع شروط تحقيقه، إلى أن تحول بمرور الزمن إلى وسيلة تؤدي دور المصادرة الاقليمية والدولية على القرار الوطني وبالدرجة الأولى على امكانية عقود الآلية الوطنية للانبعاث من جديد. لكن المواجهة الدائرة منذ آب 1990 غيرت قاعدة الصراع في الداخل، وأرست بداية انقلاب في الظروف من شأنها أن تلغي حتماً فعل ومبررات وجود المعارضة آنفة الذكر والمواصفات. وعلى مدى السنوات الثماني الماضية لم تؤد سياسة الحصار وقطع الموارد والتدمير العسكري إلى ما هو أكثر من إعادة خلق الشروط الضرورية لعودة الحياة السياسية في الداخل، وبينما يتزايد الضجيج الاعلامي الأميركي ويجري الاعلان عن المشاريع وموازنات دعم المعارضة، فإن أسباب وجود هذه المعارضة تلغي الآن عملياً واحتمالات انتهائها تصبح جدية في حال لو أن السلطة أرادت أن تستوعب الحقائق الجديدة وأفلحت في ايجاد وسيلة للتعايش معها.
كل هذا يدلنا اليوم، على ما يبدو، وكأنه لحظة شلل وانعدام وضوح عام مهيمن على الأطراف المختلفة الاقليمية والدولية وبين صفوف المعارضة بكل أطرافها، فالآثار الناجمة عن المواجهة مع الولايات المتحدة، والمدى الزمني الذي استغرقته، ساعدا في بلورة اتجاهات غير محسوبة، وقد جاء السيد الصدر، وبالأخص ظروف مقتله، لتلقي الضوء فجأة على امكانية انبعاث الآلية الوطنية، وعلى احتمالات تحولها إلى وجهة حاسمة في الحياة السياسية من جهة، بينما هي قد أثارت من جانب آخر مسألة عدم اكتمال عناصر هذه الآلية، وأظهرت المخاطر التي تتهددها، والتغيرات الشاملة والعنيفة التي يمكن أن تترتب عليها. ويجب علينا هنا أن ننتظر الكثير من الجهد النظري والعملي ومن التغيرات المتوقعة داخل السلطة وخارجها، وبين القوى والتكوينات والقطاعات الاجتماعية القديمة منها والجديدة.
وظهر أمامنا الآن وضع جديد يدل عليه التبدل المتسارع في حساسيات العلاقة بين المعارضة والقوى الاقليمية والدولية، فبالنسبة لاميركا، أصبح واضحاً أن الأحداث تجاوزت جهودها ومخططاتها المعلنة، وتتلاحق الآن سلسلة وقائع وتجارب تحول دون عودة هيمنتها على المعارضة من جديد، وبعد المساهمة في إتاحة الفرصة للسلطة كي تصفي انتفاضة آذار مارس 1991، والتسبب في اجهاض بعض المحاولات الانقلابية وكشف بعضها الآخر والتخبطات الطويلة في العلاقة مع الأكراد ومع المعارضة عموماً، وتبدل الأجواء العامة عربياً واقليمياً، فإن محاولات الولايات المتحدة تنفيذ هدفها المعلن والقاضي باسقاط السلطة، أصبح يواجه مأزقاً، بينما تتزايد رغبة المعارضة في عدم التورط أو حتى الامتناع عن الاسهام في الخطط الأميركية. والشيء نفسه ينطبق على مواقف بعض القوى الاقليمية التي تحرص على أن تبقي بيدها جانباً سواء لأسباب داخلية أو لحاجتها الملحة لورقة استثنائية تستخدمها لتعزيز موقعها الاقليمي أو في الصراع مع الولايات المتحدة.
بالمقابل، فإن اغراء العودة للفعل على الأرض، والسعي لإستعادة المواقع المفقودة في الداخل، أصبح له قوة جذب لا تقاوم على القوى القادرة عليه، مما يهيئ الآن الأرضية لخروج هذه القوى على سطوة قانون ومؤسسة المعارضة وفق شروط الخارج التي بدأت مبررات استمرارها تضمحل، ما سيؤدي لتوترات وسياسات عصبية وحتى عنيفة من قبل بعض القوى التي تستمد نفوذها اساسا من دعم الدول والجهات الاقليمية والدولية. هكذا يجب أن نقرأ دوافع حادثة الاحتجاج العراقية في إيران، وما تبعها من اعتقالات، فحزب الدعوة، أو الحزب الشيوعي، والقوى الكردية، تتلمس كل يوم ضرورات الاتجاه نحو الداخل سياسياً أو تنظيمياً، وهي بهذا تريد إستعادة وزنها في ظل ظروف مواتية بعدما فرضت عليها، طويلا، أوضاع لا تناسب مكانتها على الأرض وتاريخياً.
وحتى الولايات المتحدة يمكن ان تجد نفسها أمام رغبتها المحمومة في تغيير الأوضاع، بالطريقة التي تتطابق مع تصورها، وانعدام الوسائل العراقية والاقليمية المناسبة، مضطرة لاعتماد خطط هدفها فرض الأمر الواقع، وإجبار الأطراف المختلفة على التأقلم مع الأهداف والخطط التي تريدها. وبعض التصريحات الصادرة أخيراً عن مسؤولين في الإدارة الأميركية عن المعارضة وانعدام فاعليتها، ربما يكون من بين المقدمات التي قد تؤدي إلى اعتماد وجهة جديدة تقوم على الارغام عن طريق فعل حاسم تتكفل به الولايات المتحدة بنفسها.
هل يعود العراق بعد ما يقرب من ثلاثة عقود استثنائية وغريبة عن طبيعة هذه البلاد، مجتمعاً ودولة، منقسمان ومتصارعان فوق أرضهما، ووفقاً لشروطها وتوازناتها، والقانون النابع من خصائص العملية التاريخية للعراق الحديث، وحسب مستجدات التطور العالمي والتغيرات الهائلة الجارية اليوم، فضلاً عن واقع العراق الراهن، وشروط المواجهة المفروضة عليه على حافة الحياة أو الموت، وتطلبات المستقبل؟ في قلب هذا كله، السيد محمد محمد صادق الصدر وضع لبنة... لا، وضع حجراً صلباً وكبيراً لا يزحزحه حتى الموت.
* كاتب عراقي مقيم في فرنسا.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.