في سنة 1941 كان هنري لوس صاحب مجلة "لايف" الاميركية هو الذي سكَّ تعبير "القرن الاميركي". كان متحمساً بشدة لمشاركة الولاياتالمتحدة في الحرب العالمية الثانية، ومبشراً بأن قيادتها لمعسكر "الحلفاء" ستضمن لها الخروج كقوة عالمية اولى تشكل العالم لحسابها اقتصادياً واستراتيجياً بما يجعل القرن العشرين قرناً اميركياً. وفي مطلع السبعينات كان جاك سيرفان شرايبر الكاتب الصحافي الفرنسي هو الذي اصدر كتاباً عنوانه "التحدي الاميركي" محذراً فيه اوروبا من انها لو لم تفق لمصالحها بسرعة فإن الولاياتالمتحدة في طريقها الى السيطرة عليها اقتصادياً. وفي سنوات الثمانينات صدر في اميركا كتاب بعنوان "اليابان كرقم واحد" لايزرا فوجال، خلاصته تحذير الاميركيين من ان اليابان في طريقها الي الهيمنة اقتصادياً على اميركا. وفي سنة 1991 أصدر آرثر شليزنغر، الكاتب والمؤرخ الاميركي كتاباً عنوانه "تفكيك اميركا"، حذر فيه من انه "اذا مضت الاتجاهات الانقسامية - داخل المجتمع الاميركي - في طريقها بغير مراجعة وسيطرة .. فإن النتيجة ستكون فقط هي التمزق والتشرذم وإعادة التمييز العنصري وتحويل الحياة والمجتمع الاميركي الى قبائل". وفي شباط فبراير 1999 صدرت مجلة اميركية نافذة، تعبر عن مصالح الشركات متعدية الجنسيات دولية النطاق، بغلافها يحمل عنوان "اقتصاد الاطلنطي الجديد". والفكرة المحورية هي انه بغير تحالف اقتصادي وثيق بين اوربا الغربية والولاياتالمتحدة فإن أياً منهما لن يتمكن بمفرده من الهيمنة علي الاقتصاد العالمي. في التطبيق تحولت تلك التحذيرات الى انصاف حقائق. فأميركا خرجت من الحرب العالمية الثانية قائدة ومسيطرة، لكنها خلال 45 سنة تحولت الى اكبر دولة مدينة في التاريخ. والتحدي الاميركي لأوروبا كان جادا ولا يزال، لكن اوروبا - الغربية - حشدت صفوفها، وبعد خمسين سنة من هزيمتها اصبحت لدى 11 من دولها عملة اوروبية موحدة تهدد بمناطحة الدولار الاميركي ومزاحمته عرش السيطرة الاقتصادية العالمية. واليابان - بنصف سكان اميركا - اقتربت فعلاً من مركز القوة والصدارة اقتصادياً. لكنها حينما فكرت في صيف سنة 1997 في إقامة صندوق نقد آسيوي برأسمال مئة بليون دولار تتولى من خلاله - وليس من خلال صندوق النقد الدولي - انقاذ دول "النمور الآسيوية" من أزمتها العاصفة.. شخطت فيه اميركا بحزم لكي تبعد نفسها عن مزاحمة السطوة الاميركية - المباشرة، أو من خلال صندوق النقد الدولي - على اقتصاد آسيا. و"تفكيك اميركا" لا يزال وارداً، فلو أعلنت ولاية كاليفورنيا فقط انفصالها عن الولاياتالمتحدة، فسوف تصبح تلقائيا تاسع دولة صناعية في العالم. لكن المشاكل الداخلية الاميركية تأجلت خلال سنوات الحرب الباردة من خلال التبعئة ضد "الخطر الاحمر". والآن يمكن تأجيلها من جديد من خلال التعبئة لتحجيم "الخطر الأصفر"، أما فكرة التحالف الاميركي - الاوروبي لاقتسام العالم اقتصاديا، فهي في أحسن الاحوال لا تزال فكرة مبكرة واميركية طالما ان قاعدتها هي "العولمة" بالمفهوم الاميركي. في الخلاصة ليس واردا في السياق الدولي - اقتصادياً واستراتيجياً - التحدث عن حقائق نهائية قدرية مؤكدة يملكها طرف بمفرده يزعم لنفسه العصمة والحكمة. هناك حركة مستمرة فيها صعود وهبوط، تقدم وتراجع، كر وفر، هجوم وهجوم مضاد. وهجمة "العولمة" لا تشذّ بالمرة عن هذا التشخيص حتى سنة 1997، بل في الواقع حتى الآن وإن يكن بدرجة أقل، فإن منتديات الشركات متعدية الجنسيات من نوع منتدى دافوس وغيره، وصندوق النقد الدولي والبنك الدولي، كانت تعقد الندوات غير المعلنة وتستضيف كتاباً وصحافيين ووزراء ومسؤولين من دول العالم الثالث تحديداً. تتوسم فيهم برمجتهم لتسويق فكرة محددة: أن "العولمة" هي الطبيعة والقدر والسماء وبابا وماما وانور وجدي. وأنتم في الدول النامية عليكم بالخضوع فوراً وبلا مناقشة وعاجلاً وليس آجلاً... لمقتضيات العولمة. افتح سوقك. اقفل مخك. فرغ جيبك. تخلص بسرعة من "تحويشة العمر" حتى ولو كانت ملكية خاصة. دع الخلق للخالق والأموال لمن هو أجدر بها وبتشغيلها. للفقير الرحمة أو أقرب سجن حكومي لزوم التأديب والتهذيب والإصلاح. أما الغني فمكانه عندنا ولحسابنا.. وحسابنا من خلال الكومبيوتر هذا رقمه. اما ملاك الرحمة الحقيقي فجاهز منه عندنا عشرات. أقربهم اسمه جورج سوروس. هذا رقم هاتفه وعنوانه صندوق استثماره. معظم "صناديق الاستثمار" تلك هي في جوهرها شركات توظيف اموال. انت تدفع الاموال - بتكتم وسرية - والصندوق يشغلها باسمه في اسواق المال التي اصبحت سائحة ومفتوحة دولياً بمنطق "العولمة". في الآخر بين الزبون والصندوق يفتح الله. الزبون في يوم فوق وفرحان؟ حلال عليه. في يوم خسران ومخروب بيته؟ لا بأس . قلنا من البداية إن السوق تديرها "اليد الخفية" التي اسمها العرض والطلب. ناقص تجادل في الأرزاق ايضا؟ هي الدنيا كده والليالي كده. و"العولمة" كده. بعض تلك الصناديق أصبح بقدرة قادر مكاتب مراهنات. كل مديري تلك الصناديق - جورج سوروس وغيره - لا يعملون بفلوسهم. هم يعملون فقط بفلوس زبائنهم ولهم نسبة من الأرباح. وما يعملونه هو المراهنة مسبقاً على سلعة. فلتكن قمحاً أو أرزاً أو بترولاً أو نحاساً أو عملة وطنية لإحدى الدول. هم يقامرون - في صمت وهدوء - على ان هذه العملة أو تلك السلعة سيرتفع سعرها - أو ينخفض - بعد ثلاثة أشهر أو ستة ليصبح سعراً آخر. وبناء على معلومات اقتصادية سرية يحصلون عليها بالفلوس من داخل البلد المعني. في التاريخ المذكور تحدث القارعة. إذا ارتفع السعر استفادوا . واذا انخفض استفادوا ايضا طالما كان رهانهم في الجانب الصحيح. أما الضحية ذاته، صاحب السلعة أو العملة الوطنية، فهو يحصل على مفاجأة العمر كله. لقد ارتفع سعر سلعته بغير جهد اضافي بذله، أو انخفض بغير ذنب جناه، لكن السماسرة الحقيقيين هم الفائزون الدائمون في القصة كلها. وما يمارسه هؤلاء - حسب تعبير الاقتصادية البريطانية سوزان سترانج - اسمه بصريح العبارة "رأسمالية صالات القمار"، فالرأسمالي الحقيقي رجل منتج يعمل ويكد ويكدح سعيا الى الربح. لكنه في طريقه الى الربح يفيد نفسه ويفيد مجتمعه ايضا. في النهاية هناك مصنع جديد أو مزرعة جديدة. هناك ضرائب دفعها وعمال وفر لهم فرص عمل. هناك سلع وخدمات محددة انتجها فأضاف قيمتها الى اقتصاد بلده. لكن مع "رأسمالية صالات القمار" لم يستفد احد. لا مجتمع ولا اقتصاد ولا دولة. الذين استفادوا هم فقط المقامرون المضاربون بلا تعب ولا مجهود ولا حتى ضرائب. وكما الشعرة من العجين، هم يخرجون في كل مرة من مقامرة الى أخرى ومن بلد الى آخر لكي يستمروا في مراهناتهم ومقامراتهم. فقط اذا وقعت واقعة هم عارفون بأنه في نهاية المطاف سيكون صندوق النقد الدولي محاميهم، والبلدان الذبيحة ستصبح غنيمتهم. هذا بالضبط جوهر ما حدث في حالة دول جنوب شرق آسيا في سنة 1997. ومن قبلها المكسيك في 1995. والآن في البرازيل في 1999. هذا هو ايضا بعض ما حاول مهاتير محمد، رئيس وزراء ماليزيا، ان يشرحه حينما بادر علناً الى شن حملته ضد المضاربين الدوليين على اسعار العملات. وفي حينها كان اول من تصدى له هو جيمس روبين وزير الخزانة الاميركي حينما قرر، وبغير ان تطرف له عين، ان المضاربين هم جزء اساسي مشروع من تحرير التجارة وفتح الاسواق و"العولمة". في مونتيغو باي، في جامايكا، عقد ممثلو 15 دولة - اصبحت الآن 17 - اجتماعهم التاسع لمناقشة اوضاعهم نيابة عن مجموع دول العالم الثالث. واصبح من الطبيعي ان تفرض "العولمة" وبلاويها نفسها عليهم، لأن مجتمعاتهم اصبحت هي الضحايا الذبيحة لتوها وتمثل ثلاثين في المئة من سكان العالم. كلهم اكتشفوا أن إحدى نتائج "العولمة" هو إعادة تقسيم العمل عند مستوى آخر مما كان سائداً في القرن التاسع عشر بين دول العالم. فالأقوى والأغنى يريد احتكار الصناعة المتطورة والتكنولوجيا والارباح الفلكية. أما الأضعف والأفقر فعليه القناعة بالعمالة الرخيصة والسوق المفتوحة والمواد الخام في سنة 1998 وحدها فقد البترول مثلا 40 في المئة من سعره. في إحدى دول البترول خرج السفير الاميركي عن المألوف للمرة الأولى لكي يقول لمستمعيه في لقاء مفتوح: اذا كان بينكم من ينتظر عودة سعر البترول الى الارتفاع في المستقبل المنظور، أو حتى عدم هبوطه اكثر اكثر، فهو واهم. أما في الجزائر فقد صرح السفير الاميركي ايضا بأن على الحكومة الجزائرية ان تحرر سوقها المالي بسرعة، على الأقل بما يسمح لأصحاب الاموال من الجزائربين بتشغيل فلوسهم في البورصة الاميركية. اما في دولة عربية ثالثة فقد كان وزير التجارة الاميركي الزائر هو الذي قال في اجتماع لرجال الاعمال: نريد لكم جميعاً ان تكسبوا أكثر واكثر هنا. لأننا نريد منكم ايضاً ان تستثمروا ارباحكم هذه في السوق الاميركية. والمشكلة الاساسية هنا ليست في كون "العولمة" جيدة أو سيئة. المشكلة، على حد تعبير الاقتصادي الاميركي البارز ادوارد لوتواك مرة اخرى، هي ان "المنافسة المعولمة تطحن الناس طحناً وتدمر التماسك الاجتماعي"، المشكلة ايضا هي ان الاستقرار الاجتماعي والديمقراطية الحقيقية لا يمكن الوصول اليهما إلا من خلال تنمية اقتصادية جادة. هذه التنمية لم تقم في أي بلد مطلقا من خلال رأسمالية متوحشة تكسب وتجري. قامت فقط من خلال تنمية واعية مسؤولية تلتزم فيها الرأسمالية بمسؤولية اجتماعية معلنة ومحددة. ويراها الناس كافة في حياتهم العادية اليومية، ليس تفضلا عليهم ولكن كحق لهم. في السويد مثلا، كانت الضرائب التصاعدية هي التي جعلت منها نموذجاً في الوفاق الاجتماعي، في المانيا الغربية بعد الحرب العالمية الثانية كان هناك حرص على ان تقرر المادة 14 من الدستور ان "الملكية مسؤولية اجتماعية"، في فرنسا بعد مئتي سنة من الرأسمالية استمرت القيود على تحويل العملة حتى سنة 1990. في اليابان لم يكن ممكناً ان تصبح ما هي عليه حالياً بغير دور جوهري للدولة في الحياة الاقتصادية. وفي كل الحالات اقترنت مرحلة الانطلاق في التنمية بمستويات مختلفة من الحماية التي فرضتها الدولة لمصلحة انتاجها الوطني. في الهند والصين لم يكن ممكناً لأي منهما النجاة اخيرا من الزلزال الاسيوي يغير الحماية الصارمة نفسها المستثمرة حاليا للإنتاج الوطني. مع ذلك ففي الأول من شهر تشرين الثاني نوفمبر الماضي قرأنا للسيدة مادلين اولبرايت وزيرة الخارجية الاميركية تصريحات محددة، تحذر فيها الدول الآسيوية التي تواجه ازمة اقتصادية من اللجوء الى اساليب الحماية الاقتصادية سعياً الى الانتعاش الاقتصادي. وبذلك التحذير لم تكن اولبرايت تتجاهل فقط حقائق الحياة. لكنها كانت ايضا تتجاهل الطريق الذي سلكته بلادها هي نفسها في التنمية. طريق كان ابراهام لنكولن الرئيس الاميركي البارز تناوله في تصريحات عدة تلخصها كلماته التي قال فيها قبل 135 سنة فقط: "اذا ألغينا الضرائب الجمركية - عن السلع المستوردة من اوروبا - ولم ندعم منتجاتنا، فسوف يهبط عمالنا في كل فروع الاقتصاد الى مستوى الرقيق والبؤساء". بل انه حتى هذه اللحظة - ونحن في سنة 1999 - لا تزال ثلاث من ولايات اميركا الخمسين مسجلة في وثائق بنوك انكليزية في لندن على انها قامت ضدها بعمليات نصب كبرى حينما رفضت سداد ديون عليها لتلك البنوك. ودفتريا لا تزال الديون مستحقة الدفع حتى الآن منذ القرن التاسع عشر. آه .. لو كان في وقتها شيء اسمه "صندوق النقد الدولي" وتسيطر عليه بريطانيا، على الأقل لم تكن خريطة العالم ستتضمن الآن وجود دولة عظمى اسمها الولاياتالمتحدة الاميركية. * نائب رئيس تحرير "أخبار اليوم" القاهرية