"وزارة الصناعة" تعلن عن ضوابط واشتراطات ممارسة الأنشطة الصناعية    الاحمدي يكتب.. جمَّلتها ياهلال    البيعة الثامنة لولي العهد بلغة الثقافة والفنون    هيئة الموسيقى السعودية وعازف البيانو الصيني وأول برنامج صيفي لتعليم البيانو في المملكة    سعد الصقير أول طبيب أمراض جلدية من دول الخليج يحصل على وسام القيادة الدولية في الأمراض الجلدية لعام 2025    كندا تلغي ضريبة الخدمات الرقمية    الصين تستأنف استيراد المأكولات البحرية من اليابان    تراجع أسعار النفط    وزارة الخارجية تُعرب عن تعازي المملكة لجمهورية السودان إثر حادث انهيار منجم للذهب    وسط استعدادات لعملية عسكرية كبرى في غزة.. تصاعد الخلافات داخل الجيش الإسرائيلي    رئيس "الشورى" يبحث تعزيز العلاقات البرلمانية في كمبوديا    تصعيد متبادل بين العقوبات والمواقف السياسية.. روسيا تشن أعنف هجوم جوي على أوكرانيا    نتائج قوية تتجاوز مستهدف رؤية 2030.. 2.8 % معدل البطالة في المملكة خلال الربع الأول    بحثا جهود الحفاظ على أمن واستقرار المنطقة.. وزير الدفاع ورئيس هيئة الأركان الإيرانية يستعرضان العلاقات    تلقى رسالة خطية من سيرجي لافروف.. وزير الخارجية ونظيره الجيبوتي يبحثان تنسيق العمل المشترك    مدرب تشيلسي ينتقد الفيفا ومونديال الأندية    التعليم في ميزان المجتمع    توقيف شخصين ظهرا في محتوى مرئي بسلاحين ناريين    نقل 1404 مرضى داخل المملكة وخارجها عبر 507 رحلات إخلاء    مطار الملك عبدالعزيز الدولي يوفر وسائل نقل رسمية متنوعة    ترسيخ الحوكمة وتعزيز التكامل بين الجهات ذات العلاقة.. السعودية تقفز إلى المرتبة 13 عالمياً في حقوق الملكية الفكرية    انطلق في مدينة الملك عبدالعزيز للعلوم والتقنية.. "جيل الابتكار".. يعزز ثقافة البحث لدى الموهوبين السعوديين    ما عاد في العمر متسع للعتاب    مادتا التعبير والخط    أكد أهمية مناهج التعليم الديني.. العيسى يشدد: تحصين الشباب المسلم من الأفكار الدخيلة على "الاعتدال"    نائب أمير مكة والقنصل العراقي يناقشان الموضوعات المشتركة    دواء جديد يعطي أملاً لمرضى السكري من النوع الأول    "الصحة العالمية" تفشل في تحديد سبب جائحة كوفيد- 19    أخضر السيدات يخسر أمام الفلبين بثلاثية في تصفيات كأس آسيا    خمس شراكات لدعم مستفيدي «إنجاب الشرقية»    أمين القصيم يفتتح ورشة «تعزيز التخطيط العمراني»    "الملك سلمان للإغاثة".. جهود إنسانية متواصلة    بعنوان "النمر يبقى نمر".. الاتحاد يجدد عقد مدافعه "شراحيلي" حتى 2028    فاطمة العنزي ممثلة الحدود الشمالية في لجنة المسؤولية الاجتماعية بالاتحاد السعودي للدراجات    استعراض أعمال الشؤون الإسلامية أمام أمير تبوك    أمير جازان يكرّم الفائزين بجائزتي المواطنة المسؤولة و"صيتاثون"    انطلاق أعمال «المؤتمر الدولي للصيدلة السريرية» بحائل    الجامعة الإسلامية تدعم الأبحاث المتميزة    سعود بن بندر يستقبل مديري "صحة الشرقية" و"وقاية"    «الشؤون النسائية بالمسجد النبوي» تُطلق فرصًا تطوعية    الواجهة البحرية بالوجه.. متنفس رياضي وترفيهي    المملكة تواصل ضرباتها الاستباقية ضد المخدرات    الأحوال المدنية المتنقلة تقدم خدماتها في خمسة مواقع    أرقام صادمة بعد هزيمة «الأخضر» أمام المكسيك    وزارة الرياضة وهيئة الطيران المدني توقّعان مذكرة تفاهم للتنسيق والإشراف على الرياضات الجوية    أمير تبوك يطلع على التقرير السنوي لاعمال فرع وزارة الشؤون الاسلامية بالمنطقة    نائب أمير منطقة مكة يستقبل القنصلَ العام لجمهورية العراق    جمعية "وقاية" تنظّم معرضاً توعوياً وندوة علمية بمستشفى وادي الدواسر    بيئة نجران تعقد ورشة عمل عن الفرص الاستثمارية بمنتدى نجران للاستثمار 2025    قطاع ومستشفى النماص يُنفّذ فعالية "اليوم العالمي للأنيميا المنجلية"    اتفاقية استراتيجية" بين مركز الملك سلمان لأبحاث الإعاقة ومصرف الإنماء    الشؤون الإسلامية في جازان تنفذ جولات ميدانية لصيانة جوامع ومساجد المنطقة    انطلاقة عام 1447    الترويج للطلاق.. جريمة أمنية    مستشفى الدكتور سليمان الحبيب بالتخصصي ينهي معاناة «ثلاثينية» مع نوبات صرع يومية بجراحة نادرة ودقيقة    وكالة الشؤون النسائية بالمسجد النبوي تُطلق فرصًا تطوعية لتعزيز تجربة الزائرات    ترامب يحث الكونغرس على "قتل" إذاعة (صوت أمريكا)    أقوى كاميرا تكتشف الكون    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



حول كتاباته المتراوحة بين الضياع والإخفاء . نجيب عازوري والسجال المبكر عن الصهيونية وشراء الأراضي 2
نشر في الحياة يوم 26 - 02 - 1999

"لا يخفى على الناقد البصير أن عطوفة كاظم بك متصرف لواء القدس الشريف من يوم تعيينه لهذا المنصب الجليل، أخد يستبد ويظلم حتى فاق تيمورلنك الشهير بالفظائع وذلك أنه يستورد من الرشوة أموالاً طائلة ولها عنده أبواب جمة يستحل فيها على أهون سبب وينتحل لها طرقاً شتى منها بيع الوظائف بجميع أنواعها، وله تداخل كبير جداً في مسألة الانتخابات لمجالس الإدارة والتجارة والبلدية وغيرها، فضلاً عما يأويه تحت سقف داره من السارقين ومهربي الأصناف الممنوعة حتى القاتلين أيضاً".
بهذه المقدّمة يصدّر نجيب عازوري مقالته المنشورة في العاشر من حزيران يونيو 1904، حيث يتناول فيها أخطر وأقذر أعمال الوالي وهي تسهيل بيع أراضي الفلسطينيين لليهود "على غير رغائب جلالة سلطاننا الأعظم، وقد وردت بشأنها إرادة سنية مراراً عديدة قاضية بعدم السّماح لليهود أن يتملكوا شبر أرض في تلك الأراضي المقدسة".
بل أن أوامر السلطان بمنع شراء اليهود للأراضي الفلسطينية قد تكررت مع التشديد في عهد الوالي كاظم بك. ولكن العكس قد حصل، بسبب حب الوالي "للأصفر الرنان الذي ملأ خزائنه منه بواسطة مأموريه الذين لا يخالفون له أمراً مع شركائه كحضرة بشارة أفندي حبيب ويوسف جزدار وغيرهما".
متى تمت عمليات البيع وكيف؟ في العام 1903 ألزم الوالي "فلاحي جهة اليهودية وياسور وبيت دفان وجهات أخرى بأن يبيعوا أراضيهم الى المستعمرين من اليهود السيونست" أي الصهاينة. ومع أن عمولة العملية أموال طائلة فإن "الخائنين لم يكتفوا بما فعلوه... حتى عقدوا أخيراً عقداً مع المدعو ألبير عتيقي الوكيل في القدس الشريف عن شركة اليهود السيونست في باريس وقد تعهّد به كاظم بك، فوسّط شركاءه في استمالة عرب بير سبع الى مبيع أراضيهم لليهود المذكورين بأقل من قيمتها أضعافاً ومساحتها تبلغ مائة ألف دونم فتأمل"!
أيضاً، فإن الوالي وشركاءه قد تعهدوا لممثل الحركة الصهيونية "بأن يقنعوا فلاحي غزة ببيع مائة ألف دونم الى الشركات اليهودية بطريقة الوعيد والتهديد والقوة الجبرية، حتى أن تلك الشركات أصبحت تمتلك تقريباً النصف من أحسن الأراضي في قضايا - أقضية - يافا والثلاثة أرباع من أراضي حيفا وصفد وطبريا ومرجعيون وما ينيف عن العشر ضياع من الضياع الكبيرة في جهات حوران". أما ثمن هذه الصفقة الكبيرة فقد بلغ 50 ألف ليرة للوالي وعلى أساس "ربع ليرة عثمانية على كل دونم"، اضافة الى عشرة آلاف ليرة تقاضاها "بشارة حبيب والجزدار وباقي الوسطاء الخونة".
هنا، يورد عازوري تعليقاً بل استشرافاً لنتيجة بيع الأراضي الفلسطينية على نطاق واسع قبل 44 سنة من وقوع النكبة الأولى في العام 1944، حيث يرى "أن أرض فلسطين من جبل حرمون الى لبنان الى عريش مصر، ومن البحر المتوسط الى البادية العربية ستصبح ملكاً حلالاً لليهود ويصبح بنو اسرائيل هم أصحاب الحول والطول فتسود كلمتهم ويعود مجدهم في أرض الميعاد". ولكن هل سيسلّم الفلسطينيون بما حصل ويحصل رغماً عنهم؟ يورد عازوري ثلاثة احتمالات جواباً على السؤال: إما "الخضوع والانقياد الى المستعمرين من اليهود بحيث يفعلون بهم ما يشاؤون. أو "المهاجرة من بلادهم ووطنهم العزيز الى بلاد أخرى تكون آخذه بالعمران والنجاح السريع كسودان مصر البلاد الواسعة أو بلاد أميركا الشاسعة أو جزر المحيط". اما الاحتمال الثالث فيكون بقيام الفلسطينيين "بثورة قبل أن يبرحوا وطنهم العزيز، يكون لها صدى يرن في أنحاء المعمورة، لأنهم يكونون قد يئسوا من حالتهم وعرفوا أن ما كانوا يمتلكونه قد ذهب منهم أدراج الرياح". ويؤكد الكاتب أن أهل فلسطين "يفضّلون الموت حتى لا يستعبدهم اليهود".
ونشرت "الإخلاص" في العدد نفسه رسالة أخرى لعازوري مؤرّخة في 6 حزيران 1904، تعهّد فيها بالاستمرار في فضح أمر الوالي حتى "يتأكد جلالته أن أولئك الخونة سيكونون سبباً في خراب الدولة وفقدانها من أيدي المسلمين".
وفي 24 حزيران يونيو نشر نجيب عازوري مقالة نقدية أخرى، ودائماً بلا توقيع. وهنا أيضاً، يضيء الكاتب على مفاسد الوالي ومعاونيه وبخاصة الترجمان بشارة حبيب، المقرونة بعمليات بيع أراضي فلسطين لليهود.
تسلّم الوالي منصبه في القدس في أواخر شباط فبراير 1902. وبعد أيام، انحبست الأمطار "حتى أصبح الفلاّح في حالة يرثى لها" وعمد الى الصيارف والمرابين اليهود وأخذ منهم المال بالرباء الفاحش الى المحصول القادم. وإن سألتني عن قيمة الربا أقول أن المئة بثلاث مئة فتأمل".
وتوالت المصائب التي هي دائماً فوائد لدى الوالي وعصابته. والمصيبة الآن تمثلت في "ظهور الهواء الأصفر الذي وقع لدى عطوفة الكاظم موقع الاستحسان لأنه هو المتسبب به نظراً لرفعه الحجر الصحي الكردون عن واردات القطر المصري. وبهذه الطريقة دخل الوباء وفتك بالأهالي فتكاً ذريعاً حيث بلغت الوفيات حسب الإحصاء الرسمي نحواً من عشرين ألف نسمة ذهبت ضحية غايات المتصرف التي كان ربحه فيها ما ينيف عن العشرين ألف ليرة كما هو معلوم لدى الأكثرين الواقفين على دخائل الكاظم. فكأن كل روح هلكت بهذا الداء كان عليها ليرة واحدة للمتصرف". أضاف الكاتب منتقلاً من كارثة الى أخرى، فمن الطاعون البقري الذي أباد البقر عن بكرة أبيهم مما اضطر الفلسطينيين الى فلاحة أراضيهم "بواسطة الحمير والجمال"، الى الجراد الزاحف "بخيله ورجله حتى غطى الفضاء وكسا الأرض".
ومرة أخرى يضطر الفلاحون الى استدانة المال "من سماسرة اليهود الذين ينظرون الينا بعين الطمع والجشع كما ينظر الينا عطوفة المتصرف بعين الظلم والاعتساف". وهذه المرة رضخ المديونون لشروط السماسرة وذلك تحت ضغط الوالي، فوضعوا أملاكهم تأميناً للمال المستدان. ولما تعذر على الفلسطينيين تسديد المال في الوقت المحدد، ساعد الوالي الدائنين على مبيع أراضي مديونيهم "بطريق المزاد". واستدرك عازوري ليكرر القول بأن "المعلوم لدى الجميع أن بيع الأراضي في فلسطين الى اليهود ممنوع منعاً باتاً بموجب ارادة سنية تكرر صدورها مراراً في مدة هذا المتصرف... ولكن أنى لعطوفته أن يبادر الى تنفيذ الأوامر المقدسة وهو يعمل لغايته وينقد على ذلك من 200 الى 300 الى 1000 ليرة على كل صفقة بحسب أهميتها".
وختم عازوري مقالته بنداء الى السلطان عبدالحميد كي يبعد كاظم بك عن ولاية القدس قبل أن يهجرها الفلسطينيون.
قبل الانتقال الى مقالة أخرى، أفتح الهلالين على خبر تفشّي وباء الكوليرا. فقد أورد نجيب عازوري هذا الخبر في كتابه "يقظة الأمّة العربيّة" الصفحة 64، وأضاف في الصفحة 65 ما لم يرد في مقالة "الاخلاص" بأن الوالي "نظم لجنة لحث أفاضل الناس على التبرع بستين فرنك أو بخيمة لنجدة أهالي غزة الذين قاسوا الأمرّين من الكوليرا.
جمعت هذه اللجنة ألفي فرنك من الذهب ومائة خيمة. احتفظ كاظم بك بالألفي فرنك وأرسل المائة خيمة الى حاكم غزة الذي باع الواحدة بمائتي فرنك. أتى هذا البيع بربح يقدر بعشرين ألف فرنك. وهكذا يكون كاظم بك قد قبض اثنين وعشرين ألف فرنك دفعة واحدة". ص 65.
وتحت عنوان "إيرادات كاظم بك وشركاه الشهرية - من دم أهالي فلسطين" أكد نجيب عازوري في "الإخلاص" العدد 995 الصادر في 8 تموز 1904 أن الوالي اخترع نظاماً ضرائبياً "لا يوجد نظيره في جميع أنحاء السلطنة العثمانية"، لذلك أطلق عليه تسمية "الضرائب الكاظمية". فقد فرض على قائمقام الخليل مئة ليرة عثمانية، ومدير بيت لحم 150 ليرة عثمانية، وقائمقام غرة 400 ل.ع، وقائمقام بير السبع 80 ل.ع". وبدوره يضاعف المأمور الضريبة "إذ لا يصح أن يجبي ضريبة سيده كاظم بك دون أن يجبي لنفسه". ثم أن هناك جهات أخرى غير القائمقام أو المدير لسلب الناس أموالهم بحجة الجباية أو الضريبة. في يافا "وهي أسلكة ذات ثروة واسعة" يقدم مأمور جوازات السفر للوالي 200 ل.ع شهرياً. صحيح أن هذا المبلغ الذي يتقاضى لجيبه أكثر منه، لا يُجبى من الفلسطينيين. ولكن أذاه عليهم أعمق خصوصاً في المدى البعيد. فالمأمور يقبض المبلغ الشهري المرقوم "من اليهود الأجانب المهاجرين من أوروبا والذين يقصدون فلسطين من دون تذاكر، فيتساهل معهم ويدخلون البلاد آمنين". ويقوم قوميسير البوليس ويوزباشي الجندرمة وقاضي الشرع وأعضاء المجالس، بدور مماثل. أما ترجمان الولاية بشارة أفندي حبيب فإنه يجبي لنفسه ولسيده أضعاف جباية سائر المأمورين وذلك عبر "مهاجري اليهود الأجانب الذين يعتبرونهم تارة أجانب وطوراً عثمانيين حسبما تقتضيه الحالة الأكثر نفعاً لجيوب كاظم بك لا سيما في أمر بيع الأراضي الأميرية والترخيص لهم بالبناء بالرغم من الإرادات السنية". وختم عازوري رسالته بالقول للسلطان بأن "الكأس قد طفح والكيل قد زاد والسلام على من اتبع طرق الهدى والسداد".
هنا، فاجأ ابراهيم عبدالمسيح صاحب "الإخلاص" ورئيس التحرير الجميع بالحاشية التي استغرقت عموداً كاملاً" وإذا كان الوالي كاظم مسروراً بالحاشية، فإن عازوري كان من أكثر المنزعجين. كيف لا، وقد استهل عبدالمسيح حاشيته بالقول أنه بعد أن نشر المقالة الآنفة "طبقاً لرغائب مرسلها" اطلع على كتابات واردة الى "مقام جليل عال وفيها من المديح بعطوفة متصرف القدس ما يثبت لنا أن أخلاق عطوفته رضية حسنة".
أكثر من ذلك، فقد أشار صاحب الجريدة الى "ما كتبه المقطم في عدده 4643 تحت عنوان أملاك الدولة بالمزاد والإمضاء مسلم خبير". وهو فعل ذلك ليؤكد أمرين: ان كاتب "المقطم" هو نفسه كاتب "الإخلاص"... ولكن كتابات هذه تختلف عن كتابات تلك. إذ، لو "كاتبوا الإخلاص مثل ما يكاتبون المقطم، فلا ينشر لهم حرفاً واحداً لأن صدق عبودية الإخلاص لجلالة سلطانه الأعظم هي أشهر من أن تذكر". والجدير أن سياسة "المقطّم" لا تكتفي بنقد والي القدس، بل تتخطاه لنقد السلطان عبدالحميد.
والسؤال الآن: هل أوقف عازوري كتاباته في "الإخلاص" التي يبدو أنه أرسلها بالبريد من غير أن يُعلم صاحبها بهويته؟ أو بالأحرى، هل أوقف ابراهيم عبدالمسيح نشر مقالات ابن منطقته كلاهما من قضاء جزين في الجنوب اللبناني؟
لم يوقف العازوري مقالاته. ولم يتوقف عبدالمسيح عن نشرها. ولكن مقالة عازوري التي نشرت في 22 تموز 1904 كانت الأخيرة في السلسلة التي نشرتها "الإخلاص"، رغم أن كاتبها وعد صاحب الجريدة والقراء "برسالة" يلقي فيها الضوء على تطاول الوالي على العرب الذين ينعتهم ب"سقط المتاع". وعازوري المعروف بنزعته العروبيّة قد ردّ على "وقاحة" الوالي الجركسي و"فظاظة" طباعه بما قاله الشاعر:
وما نقموا منا بني العرب خلّة سوى ان خير الخلق لم يك أعجما
كان يمكن أن يمتنع عبدالمسيح عن نشر المقالة لولا مقدمتها التي تؤكّد على نقد الوالي للسلطان واتهامه بالفساد، إضافة الى تضمينها رداً مقنعاً على أحد مراسلي "الإخلاص" الذي اعتبر أن نيل كاظم بك الوسام العثماني الأول من السلطان دليل على نزاهته وعدالته!
ماذا في مقدمة "المقالة الأخيرة؟ طرد الوالي السّابق الشيخ ابراهيم أبي رباح من مديرية المعارف لسوء تصرفه. وحين تولى كاظم أفندي الولاية وافق على إعادة أبي رباح لقاء مئتي ليرة عثمانية. اعترض "أحد المأمورين" - ويرجح أنه عازوري نفسه - على اعادة الموظّف الفاسد، موضحاً للوالي "أساليب جمع المال التي كان يستخدمها ذلك الشيخ من وراء مأمورية المعارف وهو الدافع الأقوى الذي دفع المتصرف السابق لإقصائه عن الوظيفة المشار اليها، وقد ردّ كاظم بك الاعتراض الموجه اليه بما نصه بالحرف الواحد: ان حكومتنا في حالة فوضى، والدولة في اختلال كلي، والجميع من السلطان الى الصعلوك يستخدمون الفساد والرشوة في أعمالهم. فهل تريد أنت أن أصلح أنا لك وحدي المعارف العمومية في يافا؟".
قبل أن أنتقل الى الوسام الرفيع ورواية عازوري في كيفية حصول الوالي عليه... لا بد من الاعتراف بأن كاظم كان يقول الحقيقة عندما اتهم السّلطان بممارسة الفساد. وهذه الحقيقة يعرفها عازوري بدليل أنه سرعان ما شن على عبدالحميد نقده اللاذع في كتابة "يقظة الأمة العربية" الذي صدر بعد عام واحد من تاريخ مقالات "الإخلاص". ولكنه حاول اتباع نهج تكتيكي في تلك المقالات علّه يؤثر على السلطان فيتم عزل الوالي.
والتكتيك أسلوب يتقنه عازوري، وهو مارسه أكثر من مرة في حياته السياسية، فهو جاهر بعقيدته السياسية المتمحورة على ضرورة استقلال المشرق العربي عن السلطنة العثمانية بصورة مطلقة، عام 1905. ولكن التكتيك دفعه الى الموافقة على المطالبة باللامركزية مع الذين طالبوا بها في المؤتمر العربي السوري الذي عقد في باريس عام 1913، وقد حكم بسببه بالإعدام. وبالمناسبة، فإن التكتيك الذي أعطى مفعوله في العام 1913، إذ أقضّ مضاجع الذين تربّعوا على عرش السلطان بعد خلعه ومنهم أحمد جمال باشا الملقب بالسّفاح، لم يحرك ساكناً لدى عبدالحميد الذي منح الوالي المشكو منه "الوشاح الأكبر للدولة العثمانية" على حد تعبير مسؤول جمعية تركيا الفتاة لنجيب عازوري والمؤرخة في 10 تشرين الأول 1904.
والجدير أن مسؤول الجمعية تمكن من الاطلاع على تقرير عازوري المرفوع الى السلطان، والمرسل الى اسطمبول بُعيد الرحلة التي نفذها صاحب التقرير "ركوباً على الحصان عبر فلسطين وسورية قبل تركه القطاع العثماني". يقظة الأمة العربية - ص 222
نعود الى الوسام أو الوشاح الأكبر. يقول عازوري "ان كاظم بك كان يقدم في كل فرصة تسنح له كشفاً يسأل فيه تلطيفات لبعض الأفراد الذين يحكّون له على الجرب ويضع اسمه في رأس القائمة الى استحقاقه هذا الإنعام لأنه أتم نعمته على بيت المقدس وجعل متصرفيته تضارع أعظم ولاية في الإيرادات الغزيرة. ولما رأى أنه يضرب في حديد بارد، سكت مدة، وفي ذات يوم وردت اليه اشارة برقية بالأرقام الشيفرة يقولون له فيها أن مولانا السلطان قد ضجر من كثرة الشكايات التي كانت ترد اليه يومياً من كل ناحية من نواحي المتصرفية، وأنه سوف يُستدعى قريباً للاستانة ليُسأل عما يفعل، فاجتهد حالاً بإرسال حوالة مالية بألفي ليرة لمقال عالٍ في المابين لا نود ذكر اسمه الآن. ولم يمرّ شهر من الزمن حتى ورد عليه الإنعام بالوسام العثماني العلي الشأن".
والواقع أن السلطان كان على وشك عزل والي القدس "ليس لسبب تعسفه، ولكن لأنه سمح لعازوري بالذهاب الى بيروت والتجول خلال شهرين عبر سورية وفلسطين دون أن يشك بمشاريعه وطموحه الى ترك مركزه" على حد تأكيد مسؤول تركيا الفتاة في رسالته الى عازوري.
وختم عازوري مقالته بأحد استشرافاته العديدة والتي لا تخطىء هدفها حيث قال "ان أحوال الولايات خلقت اليوم حزباً كبيراً سياسياً وتشكلت له في باريس ومصر ونيويورك ولندن لجان وجمعيات بمساعدة بعض من كبار رجال السياسة في أوروبا وخصوصاً في أميركا...
ولا شك في أن الحزب العامل اليوم على النفع العمومي لا بد أن يحدث العراقيل في سياسة الدولة أكثر مما هي الآن في مكدونيا والبانيا وأرمينيا واليمن وحضرموت وفي جميع بلاد الجزيرة العربية. ومن يعش يرَ".
يبقى، ان "الإخلاص" كانت السبّاقة، ليس فقط في نشر مقالات عازوري المصاغة بلغة عربية متينة... بل أيضاً بنشر خبر فراره من مركز عمله. فقد ظهر في العدد الصادر بتاريخ 22 نيسان ابريل 1904 الخبر التالي "لغطت الأهالي هنا بسفر نجيب أفندي عازوري معاون المتصرفية خفية الى باريس دون أن يدري بسفره أحد. والشائع أن ذهابه هو لأجل إنشاء جريدة فرنساوية ضد الدولة".


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.