إطلاق برنامج للإرشاد السياحي البيئي في "محمية الإمام عبدالعزيز"    القيادة تهنئ رئيسي توغو وسيراليون بذكرى الاستقلال لبلديهما    «الاحتياطي الفدرالي» يتجه لتغيير لهجته مع عودة التضخم    جعجع: «حزب الله» يعرّض لبنان للخطر    "البنك الإسلامي" يستعرض أهم الطرق إلى الازدهار وتحدي الفقر    مدرب توتنهام : لا ارغب في تعطيل سعي أرسنال للتتويج    ضبط 19,050 مخالفًا لأنظمة الإقامة والعمل وأمن الحدود في أسبوع    «الداخلية»: تنفيذ حكم القتل بجانٍ ارتكب أفعالاً تنطوي على خيانة وطنه وتبنى منهجا إرهابياً    جامعة حائل: اختبار «التحصيلي» للتخصصات النظرية شرط للقبول السنوي للعام الجامعي 1446    ابن البناء المراكشي.. سلطان الرياضيات وامبراطور الحساب في العصر الإسلامي    عهدية السيد تنال جائزة «نساء يصنعن التغيير» من «صوت المرأة»    أمطار خفيفة على منطقتي جازان وحائل    فرصة مهيأة لهطول أمطار رعدية على معظم مناطق المملكة    الأهلي والترجي إلى نهائي دوري أبطال أفريقيا    اتفاقيات مع الصين لبناء آلاف الوحدات السكنية    عسير تكتسي بالأبيض    بيانات التضخم الأمريكي تصعد ب"الذهب"    مطار الأحساء يطلق رحلة إضافية مباشرة لدبي    فريق طبي سعودي يتأهل لبرنامج "حضانة هارفرد"    بينالي البندقية يزدان بوادي الفنّ السعودي    كبار العلماء: من يحج دون تصريح "آثم"    "طفرة" جديدة للوقاية من "السكري"    إغلاق منشأة تسببت في حالات تسمم غذائي بالرياض    الأحمدي يكتب.. الهلال يجدد عقد السعادة بحضور جماهيره    الصحة: تماثل 6 حالات للتعافي ويتم طبياً متابعة 35 حالة منومة منها 28 حالة في العناية المركزة    اختتام المرحلة الأولى من دورة المدربين النخبة الشباب    نائب أمير منطقة جازان يرفع التهنئة للقيادة بما حققته رؤية المملكة 2030 من إنجازات ومستهدفات خلال 8 أعوام    الإعلان عن تفعيل الاستثمارات المباشرة وانطلاق العمل الفعلي في صندوق "جَسور" الاستثماري    وفاة الأمير منصور بن بدر    حملة «إغاثة غزة» تتجاوز 686 مليون ريال    جيسوس يفسر اشارته وسبب رفض استبدال بونو    الاتحاد يخسر بثلاثية أمام الشباب    "الشؤون الإسلامية" ترصد عددًا من الاختلاسات لكهرباء ومياه بعض المساجد في جدة    الرئيس العام لهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: أصبحت مستهدفات الرؤية واقعًا ملموسًا يراه الجميع في شتى المجالات    رؤية الأجيال    وزيرة الدفاع الإسبانية: إسبانيا ستزود أوكرانيا بصواريخ باتريوت    الأمر بالمعروف في الباحة تفعِّل حملة "اعتناء" في الشوارع والميادين العامة    «الدفاع الروسية» تعلن القضاء على ألف وخمسة جنود أوكرانيين في يوم واحد    منتخب اليد يتوشح ذهب الألعاب الخليجية    المخرج العراقي خيون: المملكة تعيش زمناً ثقافياً ناهضاً    "السينما الصناعة" والفرص الضائعة    «كبار العلماء» تؤكد ضرورة الإلتزام باستخراج تصاريح الحج    معالي الرئيس العام لهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يزور قيادة القوة البحرية بجازان    توافق مصري - إسرائيلي على هدنة لمدة عام بقطاع غزة    ترميم قصر الملك فيصل وتحويله إلى متحف    "الأرصاد": لا صحة لتعرض المملكة لأمطار غير مسبوقة    السعودية تحصد ميداليتين عالميتين في «أولمبياد مندليف للكيمياء 2024»    الأحوال المدنية: منح الجنسية السعودية ل4 أشخاص    خطبتا الجمعة من المسجد الحرام و النبوي    خادم الحرمين يوافق على ترميم قصر الملك فيصل وتحويله ل"متحف الفيصل"    "واتساب" يتيح مفاتيح المرور ب "آيفون"    صعود الدرج.. التدريب الأشمل للجسم    تقنية مبتكرة لعلاج العظام المكسورة بسرعة    التنفس بالفكس    مستشار خادم الحرمين الشريفين أمير منطقة مكة المكرمة صاحب السمو الملكي الامير خالد الفيصل يهنئ القيادة نظير ماتحقق من مستهدفات رؤية 2030    مقال «مقري عليه» !    تشجيع الصين لتكون الراعي لمفاوضات العرب وإسرائيل    التعاون الإسلامي ترحب بتقرير لجنة المراجعة المستقلة بشأن وكالة الأونروا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



تحولات قرن عربي : من خريف النهضة إلى ثورة الحداثة المسرح العربي رافق يقظة المجتمع واجتاز مراحل من الإزدهار ... والخيبة 7
نشر في الحياة يوم 25 - 12 - 1999

هل يمكن الناقد ان يتناول المسرح العربي خلال قرن من الزمن في مقالة صحفية؟ اظن الامر مستحيلاً. ولهذا فان ما سأقدمه هنا هو اقرب الى العرض التاريخي، منه الى التحليل والنقد، بغية تشكيل لمحة سريعة عن تطورات مسرحنا وما قدمه لجمهوره فناً وفكراً خلال هذه الحقبة. وقد ارتكزت الى بعض المراحل في بعض البلدان العربية التي شهدت نهضة مسرحية خاصة سواء في مطلعا القرن ام في نهاياته. على ان اتناول لاحقاً المسارح العربية كافة.
المسرح ظاهرة فنية مركبة، وهو لا يتحقق كنتاج بصري - سمعي الا في عملية جماعية تتضافر عبرها جهود مجموعة من البشر، منسجمة او متقاربة في مشاربها وتوجهاتها الفنية والفكرية. ولا يتخلق العرض المسرحي الا على قاعدة اقتصادية توفر تكاليفه قبل ان يلتقي بالجمهور الذي يشكل الطرف الآخر في هذه المعادلة الثنائية.
وقد علمنا واثبت لنا التاريخ منذ البدايات ان المسرح لا ينهض ويزدهر الا عندما يمر المجتمع بمنعطف حاسم في تطوره، يوطد اركانه وطنياً واجتماعياً واقتصادياً وسياسياً، مما يتيح للحركة الثقافية عامة ان تتفتح، ومنها المسرح. وهذا ما حدث مثلاً عقب انتصار اليونانيين الكاسح على الفرس الغزاة في معركة سالاميس، او عقب انتصار الاسبان على العرب في الاندلس، ومن ثم في العصر الاليزابيتي بعد انتصار الانكليز على اسطول الارمادا الاسباني الغازي.
اما بالنسبة للمسرح العربي الذي بدأ في شكله الحديث المستورد من اوروبا مع عرض مسرحية "البخيل" لمارون النقاش في منزله في بيروت، فقد كانت انطلاقته امتداداً لافكار عصر النهضة العربية، حملتها البورجوازية المدينية الناشئة على اكتاف مثقفيها، ممن احتكوا بالغرب واتقنوا لغاته، او بالاستانة العثمانية المهيمنة. هذا الى جانب امتلاك هؤلاء المثقفين معرفة واسعة بتراث او لغة وطنهم ووعياً كافياً بضرورات المرحلة التي يمر بها على مستوى الثقافة التنويرية. الا أن مبادرات هؤلاء المثقفين لايجاد المسرح على مستوى الاعداد والتأليف والترجمة والعرض كانت فردية متناثرة متباعدة، لاسباب متعددة، منها ظروف الهيمنة العثمانية وسياسة التتريك المعادية لأي توجه عروبي، الى جانب الرجعية الدينية المناهضة للتنوير، وما حدث مع أبي خليل القباني في دمشق خير دليل على ذلك. وعلى الصعيد العملي المادي لم تتوفر شروط تضافر او استمرار هذه المبادرات، اذ لم تكن هناك دور عرض او ممثلون او فنيون كي يتحقق للعرض المسرحي المبتغى شرطه الفني اللائق الذي كان سيشكل عنصر الجذب نحو هذا الشكل الفني الجديد الطارئ الذي لم يألفه جمهورنا ولم يتقبله آنذاك. لقد ابرز النصف الثاني من القرن التاسع عشر في بيروت ودمشق عدداً من المسرحيين الرواد الذين تولعوا بالمسرح وشغفوا بدوره الاجتماعي الفني الفكري، فكرسوا له حيّزاً كبيراً من وقتهم، لكنهم لم يحترفوه، لاستحالة ذلك اقتصادياً. من هؤلاء مارون ونقولا وسليم نقاش وأديب اسحاق ويوسف خياط وابو خليل القباني وجورج دخول وسليمان القرداحي. وان تمكن احد هؤلاء من تشكيل فرقة او الانتماء الى فرقة فقد كانت عروضهم تقدم لليلة او اثنتين في الاندية والجمعيات والمدارس او حتى في الخانات. ونظراً لجملة هذه الظروف الخانقة في بيروت ودمشق وتوفر جواً مختلفاً اجتماعياً وسياسياً في مصر في عهد الخديوي اسماعيل هاجر معظم المسرحيين الى القاهرة والاسكندرية واسسوا هناك مع من لحق بهم فيما بعد ومع المسرحيين المصريين الحركة المسرحية العربية التي سينعكس اشعاعها على العالم العربي في جميع بلدانه من خلال الجولات الطويلة التي ستقوم بها الفرق المسرحية المحترفة مثل فرقة الشيخ سلامة حجازي وفرقة جورج ابيض وفرقة فاطمة رشدي وفرقة رمسيس وفرقة سليمان القرداحي، معتمدة في عروضها على نصوص مؤلفة او مقتبسة او مترجمة. وبرزت اسماء مثل عزيز عيد، علي الكسار، يوسف وهبي ونجيب الريحاني... الا ان التأليف كان يشغل الحيز الاكبر من عروض هذه الفرق، كمسرحيات فرح انطون وابراهيم رمزي ومحمد تيمور واسكندر فرح، الى جانب القباني واسماعيل عاصم على صعيد المسرح الغنائي او الاوبريت التي بلغت ذروة ألقها مع موسيقى سيد درويش.
في عام 1930 تأسس اول معهد للتمثيل في الوطن العربي في بادرة من وزارة المعارف المصرية، لكنه اغلق بعد عام واحد بزعم خروجه على الدين واباحته الاختلاط بين الجنسين. واعيد افتتاحه في 1944 كمعهد مسائي استمر حتى العام 1957 اذ تحول الى معهد عال بنظام اكاديمي متكامل. واذا انتقلنا الى مرحلة ازدهار المسرح المصري فسنجد انها جاءت بعد مخاض طويل وارتبطت بالانقلاب الجذري في حياة المجتمع المصري الذي تمثل بخروج الاستعمار البريطاني وبثورة يوليو والقضاء على النظام الملكي في كل ما يمثله من فساد في السياسة والاقتصاد، اي بولادة مشروع مجتمع جديد، على ابنائه قيادته وبلورته لتحقيق العدالة الاجتماعية المفتقدة منذ دهور. من هنا كان المسرح الجديد في جانب منه بمثابة تصفية حساب مع الماضي البغيض وفي جانبه الآخر تناول المؤلفون من جيل الاربعينات ومن تلاهم قضايا المجتمع الجديد ومشكلاته الناتجة عن علاقة السلطة بالشعب وعن اخطاء التطبيقات الاشتراكية وعن ظهور المحسوبية وتجاوزات اجهزة الامن، مما جعل من اعمال نعمان عاشور والفريد فرج ولطفي الخولي وعبدالرحمن الشرقاوي ويوسف ادريس وميخائيل رومان مرآة صقيلة تعكس صورة هذا المجتمع في ادق تفاصيله. وجدلياً واكب صعود حركة التأليف توافر مخرجين مبدعين عادوا من المعاهد الاكاديمية الاوروبية بشرقها وغربها مثل نبيل الالفي وحمدي غيث وسعد اردش وكرم مطاوع وفاروق الدمرداش ونجيب سرور وغيرهم، اضافة الى ممثلي الفرقة القومية وفرقة المسرح الحر ومن حديثي التخرج. وفي الوقت نفسه برزت الكتابات النقدية للويس عوض وعلي الراعي ومحمد مندور ومحمود أمين العالم وغيرهم، علاوة على ازدهار حركة الترجمة والنشر عن مختلف لغات العالم تقريباً.
وظهرت في الفترة التالية كتابات جديدة لمحمود دياب وشوقي عبدالحكيم ونجيب سرور وعلي سالم وصلاح عبدالصبور، وكذلك ايضاً لرشاد رشدي الذي حافظ على مواقفه المتعالية على الشعب وتطلعاته منذ بداية الثورة. كان صوت محمود دياب متفرداً بين الاسماء الجديدة، لكن تضييق الرقابة على عروضه دفعه للتوقف عن الكتابة نهائىا. وعلى رغم اهمية بعض المسرحيات التي ظهرت بعد هزيمة حزيران وعقب حرب تشرين التحريرية فانها في خضم ازدهار او رواج المسرح التجاري الذي جذب اليه عدداً من الاسماء البارزة على صعيد التأليف والاخراج والتمثيل، لم تترك ذلك الاثر الذي يعيد للمسرح الفني الملتزم القه، بل مرت كسحابة عابرة خلفت ظلها في بعض الكتابات النقدية. والواضح ان هيمنة المسرح التجاري ما زالت قائمة حتى اليوم، فهو الوحيد القادر على منافسة الدراما التلفزيونية التي ابتلعت الاخضر واليابس. لقد تراجع المسرح القومي حتى الاغماء، ولم تنفع في انعاشه أية حقن سحرية، لأن اسباب الاغماء لم تتغير، وظهور بعض الاسماء اللافتة هنا وهناك مثل يسري الجندي ولينين الرملي ومحمد صبحي وغيرهم لن يغير شيئاً من قتامة الصورة. واذا كان مهرجان القاهرة التجريبي يشرف عليه فوزي فهمي وبأهدافه المعلنة قد اثار من حوله الكثير من الضجة، فلا اظن ان تجارب "فرقة الورشة" بادارة حسن الجريتلي او "ترنيمات" انتصار عبدالفتاح هي من ثمار المهرجان.
المشهد المسرحي
خلال النصف الاول من القرن العشرين كان المشهد المسرحي في لبنان موزعاً بين فرق يجتمع شملها لتقديم مسرحية في مناسبة ما، مثل جمعية احياء التمثيل العربي وفرقة التمثيل العربي وجمعية احياء التمثيل الوطني وفرقة الاتحاد المسرحي اللبناني وجمعية ترقية التمثيل الادبي وغيرها وبين النشاط المسرحي المدرسي كما في مدرسة الحكمة او في الجامعتين اليسوعية والاميركية وبين عروض الفرق الزائرة من مصر. وما يلفت النظر هو ازدياد دور العرض المسرحية في بيروت بدءاً من مطلع القرن. وقد اعتمد المسرح آنذاك على النص الادبي المؤلف بالفصحى وبأقلام ادباء وشعراء مثل ناضيف وابراهيم اليازجي وبطرس البستاني. ومعظم هذه النصوص كان يستقي مادته من التاريخ العربي، وحتى من مرحلة ماقبل المسيحية. وقد شارك عدد كبير من آباء الكنيسة في التأليف المسرحي التاريخي، باعتبارهم المسرح وسيلة تعليم وتربية ويقظة.واللافت هنا ايضاً مشاركة النساء في حركة التأليف هذه مثل حبيبة شعبان يكن وحنة خوري شاهين وشفيقة اسكندر رزق والكسندرة الخوري. كما دخل هذا الميدان روائيون ونقاد مثل ميخائيل نعيمة ومارون عبود وامين الريحاني. وكما في مصر ظهرت في لبنان المسرحية الشعرية البعيدة عن مقتضيات العرض المسرحي، لدى سعيد عقل وبشر فارس ويوسف الخال ورئيف خوري وسواهم.
وما ساد في مصر على صعيد تبني شكل العلبة الايطالية مكاناً للعرض وعلى مستوى التمثيل والاخراج والديكور ساد ايضاً في لبنان. وفي عام 1942 أسس عبدالحسيني في مدينة طرابلس معهد الزهراء لتعليم التمثيل، فهو اذاً ثاني معهد في العالم العربي بعد معهد القاهرة عام 1930. والجدير ذكره ايضاً هو ان المرأة اللبنانية شاركت في التمثيل المسرحي منذ عام 1875 مع حفاظها غالباً على سمعتها الاجتماعية.
ولعل تعاون لجنة مهرجانات بعلبك الدولية مع الممثل والمخرج منير ابو الدبس الذي درس في فرنسا ولدى غروتوفسكي قد ادى الى تأسيس معهد التمثيل الحديث الذي انبثقت منه فرقة المسرح الحديث. وهكذا تشكلت النواة العلمية الفنية المنهجية لانطلاقة المسرح الحديث. ولم يكن هذا ممكناً لولا لم يسبق ذلك منذ ما بعد الاستقلال تجديد ملحوظ في حركة الفن التشكيلي والموسيقى والفنون المشهدية الشعبية وخاصة المسرح الغنائي، مع تزايد عدد الصحف الكبرى التي افردت حيزاً مهماً للثقافة والفنون. وخلال فترة قصيرة نسبياً كانت الحركة المسرحية الحديثة قد "تجاوزت مرحلة البناء وامتلكت القدرات التقنية حوالي سنة 1965 فانطلقت في البحث راسمة ملامح الحداثة في تطلعاتها وانشقاقاتها. فخطت في حدود زمنها القصير، المسار الذي ميزها من المسرح النهضوي..فكانت تلك الحركة اعادة نظر في معنى المسرح وفي اصوله وتقنياته واساليبه، كما في الاهداف" كما تقول خالدة سعيد في كتابها "الحركة المسرحية في لبنان". ولا شك ان جو الديمقراطية آنذاك، الذي وفر - وان نسبياً - حرية التعبير والاعتراض والتظاهر، واحترام التنوع والتعدد الطائفي والاثني قد افاد الحياة الثقافية، مما سمح للمسرح الجديد بتطور متسارع ومتنوع، خاصة في غياب هيمنة الدولة على الثقافة، اي على نقيض ما جرى في مصر. كانت مبادرات الافراد المبدعين هي الاساس، وكان المسرح ناشطاً في اربع لغات هي العربية والانكليزية والفرنسية والارمنية، مع التحول غالباً نحو مسرح اللغة العربية.
كانت البداية الجديدة اذاً مع منير ابو دبس كأستاذ تمثيل في معهد اكاديمي وكمخرج في الفرقة المنبثقة عنه وقد قدمت قبل وبعد افتتاح مبنى مسرح مهرجانات بعلبك الدولية 1969 عروضاً مثل "امسية من المسرح الاغريقي"، "مكبث"، "الذباب"، "هملت"، "الملك يموت" و"نبع الحقيقة". رافق هذا النشاط تجربة "حلقة المسرح اللبناني" التي اسسها انطوان ملتقى في 1963 بعد خلافه الفني مع ابو دبس. في "الحلقة" انطلق انطوان ولطيفة ملتقى في عملهما الاخراجي والتمثيلي وتعاونا مع عدد من الفنانين التشكيليين في اطار "مهرجانات راشانا المسرحية". وفي هذه المرحلة نشط مسرح الجامعة الاميركية بالانكليزية ومسرح المركز الجامعي للدراسات المسرحية بالفرنسية، وقد عمل في اطاره كل من شريف خزندار وجوزف طراب وجلال خوري وروجيه عساف وجان ماري مشاقة وغابرييل بستاني. وعلى صعيد آخر ظهر فنان المسرح الشعبي الكوميدي حسن علاء الدين الملقب بشوشو الذي اسس المسرح الوطني وتعاون مع نزار ميقاتي في الاقتباس عن الفرنسي لابيش اضافة الى مسرحيات فارس يواكيم.
وما يسترعي الانتباه في هذه المسيرة الصاعدة هو ظهور اللغة العامية من دون معارضة تذكر، ولا سيما انها اثبتت جدارتها على الخشبة، وخاصة في الاعمال الكوميدية، وهذا ما شجع على الاقتباس والتأليف.
ويشكل عام 1965 مفصلاً مهما في تاريخ المسرح اللبناني، فخلاله افتتحت ثلاثة مسارح جديدة وصدر مرسوم تأسيس "معهد الفنون الجميلة" في الجامعة اللبنانية وضمنه فرع للفنون المسرحية عمل فيه القسم الاعظم من وجوه الحركة المسرحية. وفي العام التالي تأسس المركز اللبناني للمؤسسة الدولية للمسرح بمبادرة من هدى زكا وجلال خوري وجيرار خاتشاريان. وما يبرز بين 1960 - 1968 هو تصدر مسرح اللغة العربية نشاط المسرح اللبناني.
ويمكن القول ان الفترة التي امتدت حتى عام 1975، اي حتى الحرب الاهلية، اتسمت بجهود الاعلام على مستوى التمثيل والاخراج وكذلك التأليف. فعلى صعيد التمثيل برز نبيه ابو الحسن ونضال الاشقر والياس الياس وفائق حميصي ورضى خوري وتيودوراراسي ورفعت طربيه وانطوان كرباج ومنير معاصري وميراي معلوف وميشيل نبعة. وعلى صعيد الاخراج تميزت تجارب شكيب خوري وجلال خوري وروجيه عساف ونضال الاشقرورضى كبريت وريمون جبارة وفيليب عقيقي ويعقوب الشدراوي وجيرار افيديسيان وموريس معلوف. اما علي صعيد التأليف فالى جانب مؤلفات عصام محفوظ تبلورت ظاهرة المؤلف المخرج. وفي هذه المرحلة نشطت تيارات النقد الذاتي ودعوات التغيير واعادة البناء والمواجهة السياسية.
اما مسرح الاخوين رحباني الغنائي مع نجمته فيروز فانه ضمن خصوصيته المتفردة يقف وحيداً، لا على صعيد لبنان فحسب وانما على صعيد الوطن العربي باستمراريته وتناميه وانتشاره حتى فقدانه احدى دعائمه.
وعلى رغم ما سببته الحرب الاهلية اللبنانية من دمار بشري وثقافي واقتصادي وسياسي فان المسرح اللبناني لم يتوقف عن عطائه الذي تشظى كانعكاسات سياسية ونفسية وثقافية لظروف الحرب. هاجر او صمت بعض الاعلام واستمر آخرون، وظهرت كذلك اسماء جديدة. وانقسمت بيروت الى ساحتين جغرافيتين وانقسم معها المسرح، وتكاثرت الاسئلة من كل نوع بحثاً عن الاجوبة وعن الخلاص. ومن خضمها ظهرت ايضاً تجربة زياد الرحباني، والى جانبه ظهرت أسماء رئيف كرم وجوزيف بو نصار وكميل سلامة ومشهور مصطفى ثم رفيق علي احمد وسهام ناصر وسواهم... وبدأت حركة الخروج من الشرنقة الى آفاق الوطن العربي عبر المشاركات في المهرجانات الدورية في دمشق وقرطاج.
ثمة وجوه للتشابه وأخرى للاختلاف بين المسرح السوري خلال العقود الستة من هذا القرن وبين المسارح العربية الأخرى، وخصوصاً في لبنان. فبسبب قرار السلطان العثماني الذي كاد أن يخنق العمل المسرحي والذي أدى الى هجرة فرقة أبي خليل القباني الى مصر عام 1884 كانت الفرق المسرحية تتشكل في دمشق وتغادر بعد عرض أو اثنين الى مصر ابتغاء حرية العمل، وكانت تطلق على نفسها تسمية "جوق" من أجل اجتذاب الجمهور اليها، وكانت تقدم الهزل والفصول الفكاهية الى جانب الطرب والرقص الشرقي، وكان معظمها من تلامذة مدرسة القباني، مثل فرقة اسكندر فرح التي انضم اليها الشيخ سلامة حجازي، والجوق الدمشقي برئاسة نقولا مصابني والجوق السوري الجديد برئاسة يوسف شكري وجوق حبيب الياس وجوق جورج دخول، ما أدى الى تطوير واتساع العمل المسرحي في مصر. ولكن سرعان ما انقلبت الآية ما بين الحربين العالميتين، إذ زار المدن السورية ما ينيف عن ثلاثين فرقة مسرحية واستعراضية غنائية، قدمت عروضها في مسرح القوتلي وزهرة دمشق وقصر البللور، والإصلاح خانة والعباسية والروضة والفرح والهبرا والرويال واللونا بارك والأزبكية وغيرها الى جانب دور العرض السينمائي. وقد بقي المسرح السوري حتى الثورة السورية الكبرى أسير تقاليد المدرسة الشامية من حيث هيمنة الجانب الموسيقي الغنائي على الجانب الدرامي الضعيف من ناحية البنية. والبداية الثانية للمسرح السوري بعد القباني ترتبط بإسم عبدالوهاب أبو السعود الذي أسس فرقته في دمشق عام 1912 وكان ممثلاً ومخرجاً وكاتباً في الوقت نفسه، والى جانبه برز اسم معروف الأرناؤوط ككاتب ومقتبس ومترجم، ومسرحيته الشهيرة "جمال باشا السفاح" 1919 هي التي رفعت أبو السعود الى مصاف الشهرة من خلال الدويّ الذي أحدثته حين عرضها في دمشق. وعلى صعيد التأليف كانت نصوص تلك المرحلة تستقي مواضيعها من التراث العربي والإسلامي ومن الأدب الشعبي، تماماً كما كان الحال في لبنان ومصر. وخلال الحربين العالميتين عادت الفرق المسرحية للظهور بكثرة، على شكل أندية فنية وجمعيات خيرية، وفي المدارس، ومعها نشطت حركة التأليف المسرحي الذي اتخذ طابعاً سياسياً وطنياً ضد الأتراك ومن ثم ضد الفرنسيين، فبرزت أسماء أمين الكيلاني الحموي ومحمد خالد الشلبي الحمصي وعمر أبو ريشة وسعيد تقي الدين وداوود قسطنطين الخوري وعبدالرحمن أبو قوس ورضا صافي ووصفي المالح ومراد السباعي وبهيج غاتا وفؤاد سليم وعبدالرحيم الغزاوي. وكان المخرج يضطلع آنذاك بالمهمات المرتبطة بتحقيق العرض، من تدريب الممثلين وحتى توجيه الدعوات..
توقف النشاط المسرحي خلال الثورة السورية الكبرى، وعاد عقب انتهائها 1928 مع جيل جديد من الشباب، يحمل عن المسرح مفاهيم وغايات جديدة، فاختلف عمله وتوجهه عن المسرح السابق، واتسم بالواقعية في الأداء والإلقاء والديكور. إلا أن السمة التي طغت على التوجه الجديد هي ابتعاده عن المواجهة السياسية، إلا في حلب. وهذا يعني أن التوجه الاجتماعي الناقد طغى على حركة التأليف والترجمة الى جانب المسرحيات التاريخية والشعبية. وفي هذه الفترة أيضاً ظهر المسرح التجاري كنقيض سافر للمسرح الجاد وشاع تحديداً في العاصمة. وبقي المسرح السوري على هذه الحال حتى تأسيس "ندوة الفكر والفن" عام 1959 بإشراف رفيق الصبان العائد حديثاً من فرنسا والتي ضمت أهم وجوه الفن والثقافة في دمشق.
وفي عام 1960 تأسست فرقة المسرح القومي التابعة لوزارة الثقافة وضمت معظم العاملين في مسارح الفرق الخاصة والأندية والجمعيات، ومنهم أهم نجوم الكوميديا مثل عبداللطيف فتحي وسعد الدين بقدونس. ثم اندمجت ندوة الفكر والفن عام 1963 مع فرقة المسرح القومي الرسمية، فتشكلت بذلك نواة النهوض المسرحي الجديد الموجه ثقافياً والمدعوم مالياً من الدولة. وخلال الستينات والسبعينات اغتنى المسرح القومي بعدد مهم من المخرجين والممثلين والممثلات كذلك، بالإضافة الى الفنيين، وقدم في مواسمه عدداً كبيراً من النصوص العالمية والعربية والسورية، بالفصحى طبعاً، وهي ستبقى لغة القومي الوحيدة حتى أواخر الثمانينات. في البداية اعتمد القومي على المخرجين رفيق الصبان ونهاد قلعي وهاني صنوبر، ثم قدم اليه علي عقلة عرسان وأسعد فضة وخضر شعار ومحمد الطيب الذين درسوا المسرح في القاهرة، وتلاهم العائدون من شرق او غرب أوروبا، مثل حسين إدلبي ويوسف حرب وفردوس أتاسي وحسن عويني وتوفيق المؤذن وفواز الساجر وشريف شاكر وغيرهم، كما انضم الى العمل الإخراجي كل من سليم صبري وسليم قطاية وفيصل الياسري وشريف خزندار. وبهذا كان المسرح القومي بمثابة البوتقة التي انصهرت فيها خبرات وتيارات المسرح العالمي من الشرق والغرب الى جانب التجربة المحلية والعربية، على مستوى الإخراج والتمثيل والتأليف المسرحي والسينوغرافيا. وبعد بضع سنوات تأسس "مسرح حلب القومي" الذي ضم خيرة ممثلي وممثلات حلب مع قلة من المخرجين المتفرغين مثل بشار القاضي وحسين ادلبي وكريكور كلش وفواز الساجر الذي أسس مع الكاتب سعد الله ونوس "المسرح التجريبي" عام 1976، أي في العام نفسه الذي استقبل فيه المعهد العالي للفنون المسرحية أول دفعة من طلابه والذي صدر فيه العدد الأول من مجلة "الحياة المسرحية" عن وزارة الثقافة.
كان لهزيمة حزيران 1967 أكبر الأثر في توجه او تطور المسرح السوري، فالأسئلة المقلقة التي طرحتها الهزيمة على كل الصعد، كان لا بد للمثقفين من ايجاد أجوبة لها. ولما كان المسرح المكان الأنسب لطرح الأسئلة وتلقي ردود الأفعال من خلال اللقاء المباشر بين الخشبة والصالة، نجده قد تحول خلال فترة قصيرة الى بؤرة للعمل السياسي الثقافي، رفدتها أسماء قدمت من الشعر والقصة، فبرزت كتابات سعد الله ونوس ومحمد الماغوط وعلي عقلة عرسان وفرحان بلبل ووليد اخلاصي ومصطفى الحلاج ورياض عصمت وغيرهم الى جانب المسرحيات العربية الصادرة عن الأجواء والقضايا نفسها. وقد تجلى هذا التفاعل منذ الدورة الأولى لمهرجان دمشق المسرحي عام 1969 سواء على مستوى العروض ومناقشاتها الحارة مع الجمهور، أو على مستوى الندوات الفكرية، وخصوصاً منها ما طرح قضية "المسرح السياسي ومسرح التسييس" و"هوية المسرح العربي" و"العلاقة مع الجمهور". واللافت للنظر هو أن المسرح القومي لم يعد الحامل الوحيد للحركة المسرحية السورية، إذ ظهرت منذ مطلع السبعينات بوادر المسرح الجامعي والعمالي والشبيبي التي تشكلت من الهواة المندفعين الى العمل المسرحي تعبيراً عن مواقفهم الفنية والفكرية التي جاءت في أحيان كثيرة أشد جرأة ومصداقية من عروض القومي.
وخلال هذه المرحلة عاد المسرح التجاري المحترف الى نشاطه السابق واستقطب فئات معينة من الجمهور المحلي والطارىء، في زعمه معالجة قضايا اجتماعية وسياسية بحدة لا يجرؤ عليها المسرح الرسمي، إلا أن دبابيسه النقدية لم تكن في واقع الأمر أكثر من وخزات تنفيسية أو مفرقعات مرضي عنها من السلطة. أما الوجه الآخر للمسرح الخاص فقد تجلى في تجربة "فرقة تشرين" التي جمعت عميد الكوميديا السوداء محمد الماغوط مع النجم دريد لحام والتي امتدت من منتصف السبعينات وحتى مطلع التسعينات.
ونتيجة للتحولات السياسية الاجتماعية والضائقة الاقتصادية التي حلت بالمنطقة منذ منتصف الثمانينات، ومع صعود الدراما التلفزيونية السورية، تراجع دور المسرح وانكمش جمهوره، وتحول عدد كبير من الممثلين والمخرجين والكتّاب عن المسرح الى التلفزيون الذي يجلب الرخاء المادي السريع والشهرة الواسعة على المستوى العربي. فتوقف مهرجان دمشق المسرحي ومن بعده مهرجان المسرح العمالي والشبيبي والجامعي، وتراجعت المبادرة وخفت هاجس المسرح حتى لدى الشباب، إلا قلة منهم، كما تقلص التأليف المسرحي وفقدت دور النشر اهتمامها به، إلا على الصعيد الرسمي، وذلك كله رغم تتالي دفعات الخريجين والخريجات من المعهد العالي للفنون المسرحية وتوفر دور عرض عالية التقنية في الأفق القريب. ولولا بعض الالتماعات بين موسم وآخر، سواء في المسارح القومية أو في المعهد أو في مسارح المحافظات، لقلنا ان المسرح السوري خبا نوره.
لا شك أن العراق كغيره من البلدان العربية امتلك الكثير من الظواهر المسرحية الشعبية منذ القدم، كخيال الظل والكراكوز والحكواتي وغيره. إلا أن أول نص مسرحي، مجهول المؤلف، هو "نبوخذ نصر" الذي عرضته كنيسة الموصل عام 1889، وبعده بثلاثين عاماً كتب الشاعر محمد مهدي البصير مسرحية "نعمان بن المنذر" المستوحاة من التاريخ العربي. إلا أن الأب الحقيقي للمسرح الحديث في العراق هو حقي الشبلي الذي تأثر بزيارات الفرق المسرحية المصرية، وعمل معها، ثم تدرب في مصر ودرس في فرنسا. وكان قد أسس عام 1927 أول فرقة مسرحية محترفة في العراق. وبعد عودته من فرنسا عمل على تأسيس قسم للتمثيل في معهد الفنون الجميلة، أشرف على ادارته وتدريب كوادره وتنظيم عروضه اعتماداً على نصوص مترجمة أو مقتبسة أو محلية. وفي عام 1929 ابتكر وقدم نوري ثابت شخصية "حبظبوظ" المستلهمة من "كشكش بيك" الريحانية، ولاقت نجاحاً كبيراً لدى الجمهور، ثم انشق عبدالله الغراوي عن حقي الشبلي ليؤسس عام 1934 فرقته الخاصة.
واللافت للنظر هو أن المسرح العراقي لم يعرف في عروضه الغناء والرقص والموسيقى كما كان الحال في المسارح العربية الأخرى حينذاك، ولا حتى في عروض "فرقة المسرح الشعبي" التي أسسها 1947 كل من ابراهيم جلال وعبدالله الغراوي وجعفر السعدي وخليل شوقي. وبعد خمس سنوات أسس ابراهيم جلال مع يوسف العاني وسامي عبدالحميد "فرقة مسرح الفن الحديث" التي سيكون لها أكبر الأثر في بلورة صورة تجارب مجموعة من المخرجين والممثلين الشباب خلال اثنتين وعشرين عاماً.
وقد كان لأحداث عام 1948 و1952 تأثيرها الواضح في الطابع السياسي الذي اتخذه المسرح العراقي حينذاك، سواء على صعيد الصراع مع المستعمر الإنكليزي أو في الكشف عن مفاسد الحكم، أو في معالجة القضايا الاجتماعية البالغة الحساسية. ومنذ تلك المرحلة برز اسم يوسف العاني كأحد أهم كتاب المسرح في العراق الى جانب عادل كاظم وجليل القيسي ونورالدين فارس ومحي الدين زنكنة وعبدالرحمن الربيعي وغيرهم. وعلى رغم أن ابراهيم جلال درس الإخراج في الولايات المتحدة، إلا أنه كان أول من أدخل منهج بريشت الملحمي الى المسرح العراقي. ومع أواخر الستينات ومطلع السبعينات عادت الى بغداد تحديداً مجموعة من خريجي معاهد المسرح في غرب او شرق أوروبا، وكان من أهم وجوهها قاسم محمد صاحب المسرحية الشهيرة "بغداد الأزل بين الجد والهزل" التي استوحى موضوعها ومادتها من أدب التراث العربي وعرضها 1973 بإخراجه معتمداً على أجواء السوق الشعبي. ولا شك في أن توجه معظم الفنانين والمثقفين العرب آنذاك نحو الفكر الاشتراكي وسم أعمال الكتاب والمخرجين بطابعه الواضح، وحتى على صعيد الترجمة عن المسرح العالمي. ونتيجة لذلك سعى المسرح العراقي الى توسيع رقعة فعاليته باكتساب فئات أخرى من الجمهور خارج المدن، فالتفت الى الفلاحين في الريف، بدعم من وزارة الزراعة وبالاعتماد على خريجي المعاهد المسرحية الذين ساهموا أيضاً في تنشيط الفرق المسرحية العمالية في المدن.
إلا أن الطابع الشمولي للنظام الحاكم الذي قصم ظهر الوحدة السياسية الوطنية، والتدخل السافر للرقابة في عمل الفرق المسرحية وأكاديمية الفنون الجميلة أدىا الى انكماش الحركة المسرحية والى هجرة أعداد كبيرة من المسرحيين الى البلدان العربية المجاورة حيث شاركوا في مسارحها بنشاط ملحوظ، مثل جواد الأسدي وعوني كرومي في دمشق وعمان وبيروت، ومنهم من تابع طريقه الى المنافي الغربية مثل روناك شوقي ونماء الورد، وغيرهم من الكتاب والصحافيين والفنانين والشعراء الذين تركوا بصمات واضحة في الثقافة العربية.
المسرح التونسي الجديد
منذ مطلع هذا القرن وفدت الى تونس فرق مسرحية عربية من لبنان ومصر أثارت اهتمام التونسيين ثقافياً وفنياً ولغوياً، مما حفزهم على تشكيل فرقهم الخاصة مثل "الجوق المصري التونسي" عام 1909 و"جماعة الآداب العربية" عام 1911 و"جماعة الشهامة العربية" عام 1912 وهي قدمت المسرحيات المصرية وأوائل النصوص التونسية، مثل "عبدالحميد بين جدران يلدز" لمحمد الجعايبي و"الانتقام" للشيخ محمد مناشد. إلا أن زيارة "فرقة جورج أبيض" لتونس عام 1921 وبقاءه فيها مدة عام ونصف لتدريس فن المسرح بالاتفاق مع "فرقة الآداب العربية" شكل منعطفاً مهماً في التعرف على أصول الفن المسرحي علمياً. وحتى نهاية الستينات تشكّل كثيرٌ من الفرق المسرحية، منها ما اتبع أسلوب جورج أبيض ومنها ما بقي على الأسلوب الشعبي المتداول. وظهر خلال تلك الفترة أسماء مهمة ساهمت في استمرار الفن المسرحي، مثل خليفة السطنبولي ومحمد البنزرتي والشاذلي جعفورة على صعيد التمثيل والإخراج، كما امتدت الحركة المسرحية الى الأقاليم والمدن التونسية حيث كانت المسرحيات التاريخية الفصيحة تقدم مع المسرحية الاجتماعية المؤلفة بالمحكية. وبعد الاستقلال كان لرئيس الجمهورية الحبيب بورقيبة دور رئيسي في تفعيل او تجذير او تطوير الفن المسرحي، فدخل المسرح الى المدارس والجامعات، وأوفدت الكوادر للتخصص في أوروبا وقامت الدولة بدعم الفرق المسرحية مادياً ومعنوياً ونُظمت المباريات المسرحية، كما تم تطوير مدرسة التمثيل بأن أُتبعت بالمعهد القومي للتمثيل والموسيقى والرقص وأصبح اسمها منذ 1966 "مركز الفن المسرحي"، وفي عام 1964 أنطلقت الدورة الأولى لمهرجان المسرح المغربي العربي الكبير. وخلال تلك السنوات التأسيسية للنهضة برز اسم المؤلف الحبيب بو الأعراس والمخرج الممثل علي بن عياد. ومنذ مطلع السبعينات لمع اسم الكاتب عزالدين المدني الذي ساهم مع كتاب عرب آخرين في حركة تأصيل المسرح العربي شكلاً ومضموناً عن طريق استلهام التراث الأدبي والتاريخي، وتعاون مع كبار مخرجي تلك الفترة، وخصوصاً مع المنصف السويسي ومع الدراماتورغ رجاء فرحات في تجسيد نص "ديوان الزنج". ومع رواج مسرحيات المدني وفرحات وسمير العيادي بدأ اتجاه جديد في العمل المسرحي التونسي مهدت له "فرقة المسرح الجديد" وهو العمل الجماعي، لا على تطوير النص من فكرة أو قضية فحسب، بل على كل مستويات العرض الذي يخاطب الجمهور في قضاياه المعاصرة والملحة. وقد لفتت عروض هذه الفرقة مثل "التحقيق" و"غسالة النوادر" النظر الى لغة فنية مسرحية جديدة، وخصوصاً في التعامل مع الممثل والسينوغرافيا والنص. ضمت هذه الفرقة ألمع الأسماء التي سترسم الى جانب أسماء أخرى صورة المسرح التونسي المتعددة الألوان والمشارب والاهتمامات، مثل محمد ادريس والفاضل الجزيري والفاضل الجعايبي والحبيب المسروقي وجليلة بكار ورجاء بن عمار.
ان الجمالية الراقية في التعامل مع مكونات العرض، وخصوصاً التمثيل في ارتباطه بالفضاء المسرحي شكلت مدرسة استلهمها كثيرون، وليس في تونس فقط. وعندما حان وقت تجاوز التجربة اتجه كل من أعضائها منذ 1982 نحو تجارب جديدة مع خبرات جديدة، فمحمد ادريس أذهل جمهوره ب"اسماعيل باشا" و"يعيشوا شكسبير" ثم قدم "ونّاس القلوب" و"فلوس الغاز" ومونودراما "هذيان الأفاعي" فبرز مخرجاً وممثلاً من نوع فريد. أما الفاضل الجزيري فخرج من الفضاء المألوف الى رحاب الكنيسة وحقق فيه عرض "يا عرب" ليعود بعده الى الخشبة في "العوادة" التي ضربت رقماً قياسياً في عدد عروضها وخصوصاً أنها استلهمت ملمحاً من التراث الشعبي. وشكل الجعايبي مع زوجته جليلة بكار ثنائياً باحثاً بدأب عما هو مغاير، كما في "كوميديا" و"فاميليا" و"عشاق المقهى المهجور". وكذلك رجاء بن عمار التي أسست مع آن ماري سلامة والمنصف الصايم "مسرح فو" وقدموا "برج الحمام" و"ساكن في حي السيدة" و"الهوى غلاب". والى جانب هؤلاء ظهرت تجارب موازية ومغايرة في آن معاً، تجلت مع "المسرح المثلث" الذي قاده الحبيب شبيل ومع "تيا ترو" توفيق الجبالي، وخصوصاً في "كلام الناس". ثم هناك المنجي بن ابراهيم وعبدالعزيز قنون وغيرهم وغيرهم ممن دفعوا بالعمل المسرحي الى مداه الأقصى حرفياً وجمالياً وفكرياً فأغنوا الحركة المسرحية العربية منذ السبعينات.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.