استمرار تأثير الرياح النشطة على معظم مناطق المملكة    كندا تندد بإسرائيل    القيادة تعزي رئيس روسيا في ضحايا حادث تحطم طائرة ركاب    رئيس الوزراء الإسباني يرحّب بإعلان فرنسا أنها ستعترف بدولة فلسطين    وزير أمريكي: التجارة مع الصين في "وضع جيد"    32 لاعبًا يتأهلون إلى دور ال 16 في بطولة العالم للبلياردو بجدة    مؤشرات الأسهم الأمريكية تغلق على تباين    جمعية الإعاقة السمعية في منطقة جازان تزور مسنًا تجاوز التسعين من عمره    الوفد السعودي الاستثماري يختتم زيارته إلى سوريا    أكثر من 40 ميدالية في ختام بطولة المملكة البارالمبية لرفع الأثقال للرجال والسيدات    هل مديرك معجزة؟    قطار الرياض ينقل أكثر من 23.6 مليون راكب بالربع الثاني ل 2025    الأخضر الأولمبي يختتم مشاركته في دورة أوزبكستان الودية بمواجهة اليابان    «بيئة جازان» تنظم ورشة عمل عن طرق الاستفادة من الخدمات الإلكترونية الزراعية    السعودية ترحب بإعلان الرئيس الفرنسي عزم بلاده على الاعتراف بدولة فلسطين الشقيقة    حرس الحدود بجازان ينقذ مواطنَيْن من الغرق أثناء ممارسة السباحة    وفد ثقافي وفني يزور هيئة التراث في جازان لتعزيز التعاون في مجالات الهوية والتراث    القمامة الإعلامية وتسميم وعي الجمهور    «هُما» القصيبي من جديد..    خطبة الجمعة تحذر من إساءة استغلال الذكاء الاصطناعي    القبض على يمني و4 سودانيين في عسير لترويجهم «الإمفيتامين»    الهلال الأحمر يفعل «المسار العاجل» وينقذ حياة مواطن بجدة    وزير الرياضة "الفيصل" : لحظة تاريخية لرياضة المملكة بتخصيص ثلاثة أندية    أمير جازان من الدائر: البن ثروة وطنية والدعم مستمر    المملكة تشارك في مؤتمر الأطراف باتفاقية الأراضي الرطبة "رامسار"    إيزاك يبلغ نيوكاسل برغبته في استكشاف خيارات أخرى    6300 ساعة تختتم أعمال الموهوبين في أبحاث الأولويات الوطنية بجامعة الإمام عبد الرحمن    هيئة الأدب تستعد لإطلاق النسخة الرابعة من معرض المدينة المنورة للكتاب2025    أمير منطقة جازان ونائبه يلتقيان مشايخ وأهالي محافظة الدائر    أمير تبوك يطمئن على صحة الشيخ عبدالعزيز الغريض    الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي يلتقي وزيري الخارجية والداخلية الأفغانيين في كابل    الشؤون الإسلامية في جازان تواصل تنفيذ الدورة العلمية الصيفية الثالثة    مستشفى المهد يعتمد تقنية تخدير الأعصاب لتقليل الألم    رسميًا.. فيرمينو ينضم إلى السد القطري    القادسية يختتم المرحلة الأولى من معسكره التحضيري في هولندا استعدادًا لموسم 2025/2026    الإحصاء: ارتفاع الصادرات غير البترولية بنسبة 6.0% في مايو 2025م    تحطم طائرة الركاب الروسية المفقودة    الأمير محمد بن عبدالعزيز يستقبل قائدَي قوة جازان السابق والمعيّن حديثًا    الإحسان الطبية تنفذ مشروع «الإستشاري الزائر» في مستشفى صامطة العام    السعودية تدين مطالبة الكنيست الإسرائيلي بفرض السيطرة على الضفة والأغوار المحتل    منظمة الصحة العالمية تنفي انتهاك السيادة الأمريكية    أكثر من 7 آلاف زيارة منزلية خلال 6 أشهر بمستشفى الظهران    تعاون سعودي – سريلانكي في مجالات الإعلام    الشهري ينال الماجستير بامتياز    بالتنسيق مع 5 وزارات تمهيداً لوضع الإجراءات.. "البلديات" تشترط عدم كشف مساكن العمالة للجيران    الوفد السعودي بدأ زيارته لدمشق.. اتفاقيات اقتصادية لدعم التنمية في سوريا    المفتي يطلع على أعمال "حياة"    موجز    توجه رئاسي لحصر القوة بيد الدولة.. غضب على «حزب الله» في الداخل اللبناني    وسط تحذيرات دولية وركود في مفاوضات الهدنة.. غزة على شفا مجاعة جماعية    واست رئيس بنغلاديش في ضحايا سقوط الطائرة.. القيادة تهنئ الرئيس المصري بذكرى اليوم الوطني لبلاده    الصنهاج والزهراني يحتفلان بزواج ريان    دوران يسجل في فوز فنربخشة برباعية على الاتحاد وديًا    «سلمان للإغاثة» يوزّع (840) حقيبة إيوائية في منطقتين بإقليم جامو وكشمير في باكستان    اختيار سلمان: هكذا أطلق صقره ليحلق بالوطن    «سوار الأمان».. حلول ذكية في المسجد الحرام    "الشعفي" يُرزق بمولودته الأولى "سما"    مفوض إفتاء جازان يستقبل منسوبي إدارة جمعية سقيا الماء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



قراءة في أعمال غونتر غراس الفائز بجائزة نوبل . عالم روائي ملتبس بين مأزق الواقع وأخطاء الماضي
نشر في الحياة يوم 05 - 10 - 1999

كان سؤال "كيف تكتب؟" غداة الحرب العالمية الثانية في نظر كاتب ألماني في منزلة غونتر غراس سؤالاً سياسياً بالدرجة الاساس أشدّ مما كان عليه السؤال الجمالي في أيّ وقت آخر من التاريخ الحديث.
فبينما سارع بعض الكتّاب الالمان الى الانغماس في طقوس الادانة الذاتية، بإعتبارهم امة من الخطاة، وعمد البعض الآخر الى ادانة النازية وكأنها شرّ سقط عليهم من كوكب آخر، لم يغب عن انتباه فريق ثالث ان سؤال "كيف تكتب عما جرى في الماضي القريب، كيف تصوّر ما ألم بالمانيا، ما اقترفته بحق نفسها وبحق الآخرين؟" هو سؤال ينطوي على التباس لا يمكن استجلاؤه بيسر طالما ان الماضي لم يكن محض امتحان اخلاقيّ او بمثابة كابوس انقضى. فالماضي القريب كظاهرة سياسية وتاريخية عموماً لا يمكن اختزاله الى جملة من المجازات الجوفاء، ومن ثم فإن الاحساس بالذنب الذي ما برح الألمان يظهرونه منذ ما بعد الحرب الثانية ليس الاجابة الشافية طالما ان هذا الاحساس موجه نحو ماضٍ منقطع عما قبله وما بعده. وما جنوح كل من الالمانيتين الى صوغ نفسها طبقاً لنُظم المعسكر الذي أُقسرت على الانضواء فيه زاعمة بذلك الانتماء الى صف الاخيار المنتصرين الاّ من قبيل السعي الى التبرؤ من الماضي.
"ان تكتب" يقول الروائي الالماني الكبير غونتر غراس، المعني عناية استثنائية بالالتباس المذكور، هو "ان تناضل ضد انقضاء الزمن". ومقصد قول كهذا على ما يتضح في رواية "من مفكرة حلزونة" التي أُخذ منها هذا الاستشهاد، ان عبء الماضي هو من الثقل وبلوغ الاثر ما يجعل تناسيه والتنصل من تبعاته وآثاره من قبيل الاستغراق في نوبات من الانفعالات الزائفة وجنوح الى الطيش لا حد له. ومن ثم فإن الكتابة نضال ضد هذا النسيان يسعى الى "الابقاء على الجرح مفتوحاَ" طالما ان ذلك هو السبيل الوحيد لتجنب تكرار ما حدث في الماضي مرة اخرى، اليوم او غداً. فأي سبيل للكتابة، اذن، هو الانجع للحؤول دون مراوغة الماضي ودفعه الى غياهب النسيان؟ ناهلاً من معين رابلييه وسرفانتس وعموم روّاد الرواية الشطارية، ومستنداً الى بوادر الحداثة الادبية في المانيا مطلع القرن العشرين، ولا سيما اعمال الروائي ألفرد دُبلن، يعمد غراس في رائعته الاولى "طبلة الصفيح" الى توظيف اسلوب سرديّ من التهويل والترويع سبيلاً لاستجلاء ابعاد الماضي. فمن خلال ذلك الكم الهائل من المفارقات والنوادر التي تروي غرائب الامور وعجائبها وتمزج الواقعي بالفانتازي فضلاً عن تلك اللغة التي تصور ما هو سوقيّ ومبتذل بفصاحة ملوكية، يبقى وجدان القارىء يقظاً ومتنبهاًً، والاهم من ذلك، عاجزاً عن الركون الى الصورة المألوفة للكينونات والحوادث طبقاً لما يصوره الوجدان المشترك.
واذ تحول هذه التدابير التقنية دون امر ما فإنها تحول دون التأويل الرمزي للتاريخ بما هو اختزال لظاهرة الماضي يسلم في نهاية المطاف بإنقضائها. الى ذلك فإنها تنبه القارىء الى حقيقة التشويه الشامل الذي تعرض له الواقع الالماني في ظل النازية. وليس يعوز الكاتب تبريراً خارجياً لاستخدام تقنيات سردية كهذه طالما انها التقنيات الوحيدة التي يمكن لشخصية كأوسكار ماتسراث، بطل الرواية وراويها، استخدامها على وجه مقنع. فهو فضلاً على انه نزيل مستشفى للامراض العقلية، فهو كائن عجيب، قزم في الخامسة عشر يرفض منذ سن الثالثة ان ينمو مثل بقية الناس. ومن ثم فإنه لا مناص من ان يبدو العالم لناظريه ضخماً ضخامة كاريكاتورية تثير الروع حيناً وتبعث على الضحك احياناً.
ولئن تشبث اوسكار بالطفولة رافضاً الانضواء في عالم الراشدين، فإنه لا يتلاعب بالفارق ما بين الطفولة والنضج، وانما ما بين الطفولة والصبيانية. فهو يريد التشبث بالبراءة وعدم التورط، فلا يتهم بالصبيانية ومن ثم بالطيش وانعدام المسؤولية. وما عالم الكبار، على ما يستشف من تصوير اوسكار له، الا عالم صبيانيّ يتصنّع افراده الجدية المفرطة في المواقف التي تدعو الى السخرية والضحك، وينشغل اهله انشغالاً تاماً بتافه الامور وصغيرها في حين تراهم يولون الشؤون المدنية والسياسية العامة من الاهتمام أقله. ولذا فإن اوسكار ليرفض الانتماء الى من هم معدومي النضج المتنصلين من المسؤولية والمراوغين للاحساس بالذنب الذي يدّعونه. وهو يدين اخلاق البرجوازية الالمانية التي توانت، اولاً، عن الوقوف في وجه المدّ النازي وتحدي الفعل الاجرامي، وتصنعت تالياً الجهل بدورها في ما جرى بل وبما جرى ايضاً. وما يزدريه اوسكار بشكل خاص هي تلك الرقابة الذاتية التي يفرضها الواحد من ابناء هذه الطبقة على نفسه مخافة الادانة الجمعية، او حتى الخروج من القطيع. فيخبرنا اوسكار بأن هؤلاء الذين مارسوا الارهاب والقتل لاعوام عديدة وبصورة روتينية، انما كانوا من الممكن في ظروف اخرى ان يعملوا كمستخدمين في الدوائر المدنية الحكومية يؤدون واجباتهم بدقة ودأب. اوسكار على اية حال ليس بطلاً، ولا يتوسله غراس كصوت للضمير الالماني المكبوت في العصر المظلم، وانما هو ايضاً شخصية ملتبسة التباس الشخصية الالمانية العادية في زمن الحرب وبعده. وهو اذ يعرّي الواقع الالماني، فإنه هو نفسه عاجز عن الاقرار بالذنب وقصارى ما يعترف به، وما يميزه عن بقية ابناء الطبقة التي ينتمي اليها، هو انه مراوغ ومتهرب من المسؤولية.
الى ذلك فهو شخصية لا تتوانى عن اظهار نزعة انتهازية صريحة، فيبدي مرة استعداداً تلقائياً لان يلعب دور الملاك، ومرة اخرى استعداداً لا يكون ابليساً وذلك انسجاماً مع المهنة التي يزاولها كبهلوان. وحيث انه برجوازي قيماً ولغةً ومعايير فهو لا يكتفي بتسليط الضوء على الالتباس الذي يعتري التاريخ، وانما ايضاً الالتباس الذي يكتنف محاولة كتابة ما جرى من موقع من ينتمي الى الطبقة المُدانة هنا.
فالراوي، شأنه في ذلك شأن الكاتب المتحدر من عائلة برجوازية مناصرة لهتلر، فضلاً عن انضوائه عضواً في الشبيبة الهتلرية، ليس من البراءة والحيادية بما يسوغ قبول روايته من دون شك او سؤال. وبذا فإن غونتر غراس الساعي الى محاسبة الامة الالمانية حساباً يكفل عدم تكرار ما جرى، لا يزعم احتلال موقع الحكم الاخلاقي المتعالي تعالياً تاريخياً عما فعله ابناء امته. وحيث ان الكاتب لا يستثني نفسه، فإنه يحرص انه ينبه القارىء بأن ما يرويه مجرد عمل ادبي، لا من حيث انه سلسلة من الحوادث المتخيلة التي لم تقع فعلياً، وانما من حيث انه رجل لا سلطة مطلقة له في سرد وقائع ما جرى وان القارىء الالماني الغارق في نعيم البحبوحة الاقتصادية التي شهدتها المانيا بعد الحرب، ليتوجب ان يشاطره همّ التفكير بما جرى والحيلولة دون التغافل والنسيان.
ولعل العناية التي يبذلها غراس، في هذه الرواية كما في روايتيه اللاحقتين "قط وفأرة" و"اعوام الكلب" او ما بات يُعرف ب"ثلاثية دانزغ" تجاه احياء وتنقية اللغة الالمانية ما يدل على حرصه بألاّ يظهر بمظهر المحايد اوالمتعالي عما يسرد. اذ يعمل غراس في هذه الثلاثية على صوغ نثر يبعث الجوانب الثرية من اللغة الالمانية ويكافح في الآن ذاته ضد الافساد الذي اعملته النازية فيها ان في سعيها الى تسويغ اطروحاتها الايديولوجية البذيئة حول التمييز العرقيّ ام من خلال الرطانة الجوفاء التي لا غرض لها الاّ القاء ستار من الابهام على الواقع وتأجيج الهستيريا القومية. ورواية "اعوام الكلب" لهي محاولة استثنائية للحفاظ على لغة معرضة للاندثار، وعلى هذا فإن السرد يعمل على سوق اشارات وعلامات من تاريخ اللغة وتقديم نماذج لاحياء الذاكرة اللغوية. فعلى سبيل المثال لا يكف احد الرواة الثلاثة في هذه الرواية عن المضي بعيداً في نبش اصول المفردات والتعابير والاسماء، شارحاً معانيها ومتتبعاً اطوار تدرجها واشتقاقاتها. ولئن كان الغرض من هذه العناية المفرطة باللغة، احياء ما كان متداولاً في الماضي وما امسى رهن التلاشي، من جهة، فإنها من جهة اخرى تبيّن ان الكثير من المصطلحات والتعابير العامية والرسمية المستخدمة في الحاضر، ولا سيما تلك التي تحمل مضموناً سياسياً ملتبساً، انما تعود الى الماضي القريب بما يدل على تورط من يستخدمها، كالنازيين القدامى مثلاً، في الجرائم المقترفة، او على الاقل في معرفتهم بحدوثها خلافاً لمزاعمهم. فالسرد بهذا المعنى يصون التاريخ من خطر النسيان باعثاً الماضي الملموس كسياق لحيوات الافراد موظفاً اشكالاً لغوية حديثة لمصطلحات ومفردات وتعابير متقادمة.
والامر الذي توليه اعمال غراس عناية استثنائية هو استجماع شتات الماضي من حيث انه مهمة عسيرة تحوطها محاذيرة كثيرة مختلفة بحيث لا يمكن للراوي، للباحث او للقارىء، ان يتخلص من الشك ويطمئن الى بلوغه شاطىء اليقين. وفي "طبل الصفيح"، كما في "اعوام الكلب"، لا يكتفي غراس بالعودة الى الحقبة النازية فحسب وانما الى ما سبقها وما اعقبها ايضاً. فالإكتفاء بالتركيز على هذه الحقبة هو من قبيل المماطلة والخداع الذاتيّ طالما انه يخلص الى التعامل مع الامر وكأنه محض كابوس طرأ على حين غرة وانقضى مع نهاية الحرب. لذا تحرص "طبل الصفيح" على انشاء صورة لدانزع، مسقط رأس المؤلف، يوضح ما جعلها تربة خصبة لنمو النازية فيها. ففي ظل معايير عقلانية وقيم اخلاقية من تلك التي كانت سائدة بين ابناء هذه المنطقة امكن حدوث ذلك التشويه العظيم الذي ألحق بالعقول وباللغة وبكيفية رؤية الامور على ذلك الوجه المثير للروع والسخرية في آن معاً.
وإذ لا يتمتع الراوي في رواية "قط وفأرة" بمنافع الغرابة والجنون التي يتمتع بها اوسكار ماتسراث، فإن سرده يعجز في احسن الاحوال عن ان يكون اجدى من استجماع تفاصيل ومراكمة معلومات مما هو متوافر على سطح الماضي وما يتبيّن في النهاية بأن لا طائل تحته. فيجهد بلينتس، الراوي، في محاولة بناء سيرة شخصية تدعى مالكه، غير انه يقف عاجزاً امام صعوبة إحالة الصور والعلامات الى معانيها ومضامينها الداخلية، اي ان يكتشف ما وراء او اسفل واجهة التفاصيل المعروضة لناظريه. والمشكلة الفعلية انه كمؤرخ ماديّ، وشأنه في ذلك شأن كل مؤرخ وضعيّ التوجه، يظن ان من الممكن القبض على روح الشخصية وكأنها شيء مرئي او ملموس من خلال الملاحظة وحدها. وعلى رغم ان الراوي شخصية مخلصة في ما هو مجد في طلبه من خلال اعادة انشاء صورة الماضي وقبول حقيقتها، الاّ انه محدود التصورات وغير قادر على تجاوز المعلومات السطحية او توظيفها في سياق ابتكاري. وجلّ ما يخلص اليه هو تقديم صورة للشخصية المعنية كبطل او ايقونة يتطلع اليها المراهقون بإعجاب. هذا في حين ان سياق الرواية العام يسير في وجهة معاكسة مفصحاً عن شخصية روائية اشبه بشخصية دون كيخوته. فيظهر "مالكه" ككائن عجيب مثير للحيرة والتردد، وكبطل كوميدي وتراجيدي في الحين عينه، يبادر الى الفعل او رد الفعل في عالم معقد لا يمكن الفصل الصارم فيه ما بين الواقع والخيال او ما بين الوهم والحقيقة. وكأني بغراس في هذه الرواية يتبع التمييز الذي يقيمه جورج لوكاش ما بين الملحمة والرواية. وعلى ذلك يخفق بلينتس في تقديم صورة واقعية للشخصية التي يقفو آثارها منتهياً بتقديم شخصية اشبه بشخصية ابطال الملاحم، طالما ان كتابة التاريخ الحديث لا يمكن ان تستوي اتفاقاً مع الشكل الملحمي، بينما تنزع الرواية الى التشديد على محدوديتها ومحدودية إلمامها بعالم من السعة والتعقيد مما لا يمكن للشكل الجمالي الحديث ان يحتويه.
ويبلغ الاعراب عن صعوبة استجماع شتات التاريخ قصاراه في رواية "اعوام الكلب". فيتناوب على سرد هذه الرواية ثلاثة رواة مختلفين بما ينجلي عن ثلاث روايات متباينة تتقاطع احداثها وتتشابك وتختلط ازمانها بشكل يُملي اكثر من قراءة واحدة لمعرفة ما يدور فيها. ولا تغطي الرواية الحاضر والماضي القريب فحسب وانما تعود الى الاطوار المبكرة لتاريخ دانزغ غير متوانية عن التوغل في ماضيها الاسطوري. على ان الرواية تمتد افقياً بحيث تشمل تواريخ كل ما يقع في مدارها بشراً كان ام حجراً. لكن حصيلة ذلك لا اكون عملاً تاريخياً كلاسيكياً وانما ما هو اقرب الى سجل خليط من الوقائع والحوادث المختلفة والفعلية بما يشي بلا نهائية التاريخ وعبثية حركته. بل يجوز القول ان غراس في هذه الرواية بالتحديد يسوق محاججة مفادها ان تأريخاً ايديولوجياً يزعم اكتشاف وتائر وقوانين موضوعية لهو اقرب الى ضرب من العبث، وان جلّ ما في وسع المؤرخ فعله هو فهم الماضي، القريب او البعيد، كظاهرة تاريخية تنطوي على قسط من الحقائق والمعطيات بما ييسر فهم الحاضر. أن السؤال الجمالي عند غراس وجيله من الكتّاب الالمان هو سؤال سياسي في جوهره لم يحتم فقط معرفة ما حدث وكيفية الاحاطة به وتصويره على وجه يسهم في ابقاء الوجدان النقديّ يقظاً بما يحول دون تكرار ما حدث، وانما ايضاً الانضواء في العمل السياسي.
ولقد رأينا كيف يخلص غراس في ثلاثيته الشهيرة الى ان التاريخ، وخلافاً للظنون الشائعة، ليس بعملية ذات قوانين ووتائر محددة ولا تمضي بإتجاه هدف قابل للإكتشاف. لذا فقد اتخد الكاتب الالماني من الفلسفة المثالية النازعة الى رؤية العالم كمقولات ووتائر موضوعاً لنقده المتواصل. فمثل هذه الفلسفة انما هي التي تمدّ السياسة المتطرفة، يميناً ويساراً، بالحصانة النظرية التي تسوغ لها التسليم بصحة تصوراتها الايديولوجية وتبرر افعالها المسرفة. فيسعى غراس الى تقديم الشك على اليقين الفلسفيّ واضعاً الافكار والاطروحات المجردة موضع التساؤل والريبة. فليست السياسة بالنسبة له تطبيقاً للنظريات على ارض الواقع، لهذا فإنه لم يتوان عن مهاجمة المنظمات الماركسية واليسارية المتطرفة عموماً بقدر مكافىء لمهاجمته على الاحزاب الكاثوليكية والمحافظة.
صحيح ان غراس لا يكف عن الدعوة الى احياء بعض ابرز اطروحات عصر الانوار الكلاسيكي حول استقلال الارادة والحرية الفردية والتسامح، الاّ ان دعوة كهذه لا تصل به الى حدّ الايمان بالتغيير الشامل او الدعوة الى انشاء عالم طوباويّ. فمثل هذه الدعوة لا تتمتع بأي حسّ عمليّ سياسيّ لدى من اتبع سبيل الاشتراكية الديمقراطية الداعية الى اصلاح سياسي تدريجي ب"خطوات صغيرة" وعلى صلة وثيقة بمعطيات الواقع.
وان من الامور التي يشدد عليها غراس هو "النضج" السياسي والتنازل وغير ذلك من الامور التي تكفل تجاور الوقائع المتباينة في نطاق مجتمع ليبرالي تعدديّ، وهذا حتماً ليس مما يروق ابناء الطبقة المتوسطة الفارين من سأم حياة ذويهم وبيئتهم الى احلام ثورية رومانطيكية بتغيير العالم كله. واننا لنعثر على مثل هذه الآراء ليس في كتابات وخطب غراس السياسية فقط وانما ايضاً في بعض اعماله الروائية التالية للثلاثية خاصة في رواية "تخدير محلي" او في رواية "من مفكرة حلزونة" التي يعرض فيها للحياة السياسية المعاصرة في المانيا من خلال نشاطه كعضو في الحزب الاشتراكي الديمقراطي، وحيث ساهم في الحملات الانتخابية للحزب وآزر زعيمه، في عقد الستينات، ويلي براندت كاتباً خطبه ومرافقاً له في مهمات سياسية مختلفة. وليس هذا الاّ استجابة الى جوهر السؤال الجمالي من كونه يحضّ على النظر والعمل. ولئن افضى الالحاح على العلاقة ما بين الاحساس بالذنب تجاه الماضي والمسؤولية تجاه الحاضر والمستقبل، بالكاتب الالماني الى الانضواء في الحياة الحزبية لبلاده فإن في ذلك دليلاً على ان غراس وان آمن بأن للرواية دوراً في بعث وصون الوجدان النقدي، فإنه في الوقت نفسه لا يزعم بأن الروائي مبشر يهدي قارئه الى نور اليقين. هذا والا لاكتفى بكتابة الرواية.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.