تقرير لمركز أبحاث يكشف عكوف الولايات المتحدة على استعمار العقول    المرور يحذر من سحب أو حمل أشياء عبر الدراجات    مراقبون توقّعوا أن تكون الزيارة أهم حدث دبلوماسي في 2025 ترمب يدعو ولي العهد إلى زيارة واشنطن.. نوفمبر القادم    توقيع شراكات مع القطاعين الحكومي والخاص الأمير سعود بن نهار يطلق أعمال المؤتمر العالمي للسياحة العلاجية بالطائف    الأميرة أضواء بنت فهد تتسلم جائزة الأميرة صيتة بنت عبدالعزيز «امتنان» للعمل الاجتماعي    حين يتحدث النص    بنجلادش تكافح موجة متصاعدة من حمى الضنك وحمى شيكونجونيا    ارتفاع أسعار النفط    جامعة حائل تحقق إنجازًا علميًا جديدًا    مشروعات وجسر بري إغاثي سعودي لسورية    صوت العدالة    ولي العهد يهنئ رئيس وزراء تايلند    «مؤتمر الاستثمار الثقافي».. الوصول للاستدامة    تحت رعاية وزير الداخلية.. تخريج الدورة التأهيلية لأعمال قطاع الأمن العام    النسور.. حماة البيئة    أمريكي يصطاد ابنته بدلاً من «الطائر»    شرطة لندن تضبط «نصابة» المواصلات    إجراءات عراقية حاسمة ضد مهددي الأمن    932.8 مليار ريال قروضاً مصرفية    الأخضر السعودي يختتم استعداده لمواجهة التشيك    في مهرجان ولي العهد.. تألق سعودي في سباق الهجانة للرجال والسيدات    بعد أول خسارة في التصفيات.. ناغلسمان يعد بتغييرات على تشكيلة ألمانيا    قبل خوض جولة جديدة من التصفيات.. ماذا تحتاج مصر وتونس والجزائر للتأهل إلى كأس العالم؟    التعاونيون لن ينسوا خماسية النصر    مدافعون لا يقودون أنفسهم    استعداداً لكأس العالم .. الأخضر تحت 20 عاماً يكمل جاهزيته لمواجهة تشيلي    إطلاق جائزة "مدن" للتميز.. تعزيز الابتكار والاستدامة في الصناعات السعودية    الجوازات تواصل استقبال ضيوف الرحمن    مهربو القات المخدر في قبضة الأمن    يعتمد على تقنيات إنترنت الأشياء.. التعليم: بدء المرحلة الأخيرة للعمل بنظام «حضوري»    «تواصل» تنهي إجراءات الجوازات إلكترونياً    صيف عسير.. حالات ضبابية ولوحات طبيعية    التجارة: «تطبيق بلاغ» يحمي المستهلكين    "موانئ" تحقق ارتفاعًا بنسبة 9.52% في مُناولة الحاويات خلال أغسطس 2025    السعودية تحمي النسور ب«عزل خطوط الكهرباء»    وزير الحرس الوطني يناقش مستجدات توطين الصناعات العسكرية    راغب علامة يلاحق «المسيئين» بمواقع التواصل    «صوت هند رجب» يفوز بالأسد الفضي في مهرجان البندقية    «الإعلام» : استدعاء 5 منشآت لدعوتها معلنين من الخارج    السمكة العملاقة    صحن الطواف والهندسة الذكية    كيف تميز بين النصيحة المنقذة والمدمرة؟    رقائق البطاطس تنقذ امرأة من السرطان    «الصحة» تستكمل فحص الطلاب المستجدين    إعادة السمع لطفلة بعمر خمس سنوات    وفدٌ من كلية القيادة والأركان للخدمات الدفاعية البنغلادشية يزور "التحالف الإسلامي"    المملكة التاسعة عالمياً في إصابات السكري الأول    122 متبرعًا بالدم في تقنية صامطة    مجتمع الذوق" في الخبر ينطلق في مرحلته الثالثة    خسوف طويل يلون القمر باللون الأحمر ويشاهده أكثر من 7 مليارات نسمة    الشؤون الإسلامية في جازان تنفذ أكثر من 28 ألف جولة رقابية على الجوامع والمساجد    زين السعودية تطلق برنامج ZGI لتمكين رواد الأعمال والشركات الناشئة    أمير القصيم يستقبل سفير كندا لدى المملكة    عشرات الجهات والخبراء يناقشون مستقبل المزارع الوقفية بالمدينة    نائب أمير الشرقية يستقبل مدير شرطة المنطقة ويطلع على التقرير الإحصائي السنوي    مصر تتصدر عالميًا بالولادات القيصرية    حين تتحول المواساة إلى مأساة    أربعون عاما في مسيرة ولي العهد    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



المثقفون والسلطة في التاريخ الاسلامي : عصر الفتنة الاندلسية
نشر في الحياة يوم 31 - 08 - 1998

شكلت الفتنة الاهلية نقطة تحوّل في تاريخ الاندلس وبداية انقلاب موازين القوى بين العالمين الاسلامي والاوروبي في جنوب القارة الاوروبية. فبعد الفتنة لن تعود الاندلس كما كانت وستتم محاصرة الوجود الاسلامي في تلك البقعة الاوروبية من الداخل والخارج وسيصبح في حال تراجع مستمر على رغم المحاولات العسكرية الناجحة التي حققها المسلمون مراراً في فترات متقطعة. فالفتنة أفرزت سلسلة تداعيات على مختلف المستويات فهي قوضت الدولة الاموية المروانية وكسرت شوكة العصبيات العربية النافذة، واطلقت الغرائز العصبية الصغرى ودفعتها الى ساحة مفتوحة للصراع على السلطة، وشرّعت المحرمات، وفتحت ابواب التعامل مع الفرنجة والاستقواء بالخارج ضد الداخل. وهي اخيراً ادخلت كل الفئات المتخاصمة في قنوات التدمير الشامل لمختلف القوى.
عندما اندلعت الفتنة كان مضى على تأسيس دولة عبدالرحمن الداخل حوالى 250 سنة وصلت خلالها الى مرحلة الاشباع واستنفدت وظائفها التاريخية، وكان لا بد من اعادة تجديد عصبيتها لحقنها بقوة حيوية تعطيها دفعة سياسية الى الامام تحفظ دورها وتبرر موقعها كنقطة توازن لشبكة معقدة من التنوع والتعدد. فالاجواء العامة كانت جاهزة لواحد من خيارين: إما توسيع قاعدة عصبيات الدولة او تضييق قاعدة الدولة بإخراج عصبيات متحالفة مع الشوكة المروانية.
كانت الاندلس حاضرة تاريخياً لتجديد دورها وفي الآن قابلة للانفجار الداخلي، وأي احتمال من الاحتمالين يعني بداية تاريخ ونهاية تاريخ. الا ان خيار بداية النهاية تغلب على خيار بداية جديدة تبعث الدولة على أسس اكثر تقدماً من المراحل السابقة.
ادى فشل مشروع التجديد، الذي بدأه الحاجب المنصور بن ابي عامر توفي 392 هجرية وتولى والد ابن حزم الظاهري في فترته موقع الوزير، الى كسر مختلف القنوات وفتح ابواب الحروب الاهلية على بعضها.
فالبلاد كانت اشبه ببيوت النحل وكل "نحلة" او "ملّة" او "فرقة" تعيش في مكانها مستقلة عن الاخرى وتتعايش في اطار من التوازنات الدقيقة التي تتقارب الى بعضها في فترات الغزو او الدفاع عن النفس ثم تعود لتستقر في مواقعها من دون اندماج تنظيمي يعيد تركيب صورة الواقع ليتناسب مع تصور الدولة المركزية الشوكة القوية. وعندما حانت الفرصة تفككت منظومة العلاقات وتشرذمت الى مراكز قوى متنازعة تتنافس على السيطرة وتتدافع نحو الاستقواء بالخصوم التقليديين لضرب الاعداء المستحدثين.
وتحت سقف الحروب الاهلية التي امتدت من العام 399 هجرية الى العام 422 هجرية جرى هدم المدن، وانتهاك المحرمات، وحرق القرى، وذبح الابرياء، وابادة جماعات اتنية وقبيلة، وشلّ الحياة الاجتماعية، واغتصاب الاراضي، وانقلاب القوانين، وتفكك نظام القرابات، والغدر بالاتفاقات، والاستيلاء على الثروات، ونهب البيوت وانفلات الأمن الذي اجبر عائلات على الهجرة واللجوء الى مناطق أكثر استقراراً. فالفتنة الاندلسية كانت اشبه بعصاب جماعي تفشى في مختلف الفئات التي يتكون منها المجتمع الذي هو مركب اصلاً من عناصر غير منسجمة تاريخياً وثقافياً. فالبربري يعيش في مناطق مستقلة ويشكل عصب الدولة في لحظات المواجهات العسكرية. والعربي يعيش في مناطقه ويقود الدولة ادارياً وينظم شؤونها المالية والحياتية. وخلال الفتنة تم فرز مناطق الاختلاط في المدن وتحويلها الى احياء صافية في تركيبها القبلي او الديني او المذهبي.
وفي فئتي العرب والبربر كانت هناك درجات من التراتب في القدوم الزمني، فهناك العربي الذي جاء مع الفتوحات الاسلامية واستقر في معاقله وهناك الهجرات العربية اللاحقة التي تدفقت بتقطع للاستقرار في مناطق الفتح.
وهناك البربري الذي شارك في حرب الفتوحات الاولى، وهناك موجات بربرية استقدمت وتوطنت الثغور لحماية المناطق الداخلية من الغزوات البحرية والاوروبية. وهناك ابناء البلد الذين توزعوا في المناطق وتزاوجوا واختلطوا واندمجوا. وهناك من لم يندمج فعاش وتعايش في بحر من التنوع والاختلاف. وهناك من استوحش فابتعد عن حياة الاختلاط واعتزل مع جماعاته في مناطق خاصة نجحت في صوغ نوع من التعايش القلق احياناً وغير المنسجم احياناً اخرى. وهناك من حاول التكيف مع دولة مستقرة في نظامها ومنظوماتها السياسية والحقوقية والاحتفاظ بهويته ضمن الهوية العامة والمشتركة.
كل هذه الخصوصيات انفجرت دفعة واحدة عندما دخلت الدولة الاموية المروانية فترة اللااستقرار واخذت تتجاذبها مراكز القوى وتشدها من اطرافها وقلبها الى ان انحطت وتلاشت وتشرذمت الى دويلات يحكمها امراء، وامراء يرتهنون لتحالفات شديدة التعقيد ومتقلبة سياسياً وخاضعة لأمزجة لزجة لا حصر لشروطها وطموحاتها.
كيف بدأت الفتنة ولماذا انفجرت؟
تولى ابن المنصور المظفر بالله ابي عامر المعافري منصب الحجابة في عهد الأمير هشام المؤيد بالله سنة 392 هجرية.
وكان على سيرة والده في اظهار العدل والرفق بالرعية وحماية الدولة، فأسقط عن البلاد سدس الجباية وقام بسبع غزوات ناجحة ففتح في سنة 393 هجرية حصن ممقصر، وأجرى مصالحات بين ملوك الفرنجة في سنة 394 هجرية، وغزا جليقية سنة 395 هجرية، ثم بنبلوله في 396 هجرية.
وتشير كل تلك الحسنات عن تطور حصل في عصب الدولة الاموية المروانية في الفترة العامرية اذ لجأت الاسرة العامرية الى تخفيف اعباء الضرائب لتحسين شروط الانتاج مقابل تقليل اعباء الدولة في الخدمات الاجتماعية. وكانت الدولة في وضع مريح مالياً الامر الذي اتاح للمنصور وابنه المظفر شنّ حملات دفاعية وغزوات هجومية من دون حاجة لرفع الضرائب على الناس. وبلغت قوة شوكة العصبية العامرية في العهد الاخير من الدولة الاموية درجة عالية من توازن القوة جعلت من امير الدولة المرجع السياسي لمختلف القوى المتخاصمة منها ملوك الفرنجة الذين كانوا يراجعون الامير الاموي بشؤونهم ويقبلون تدخله لفض النزاعات بينهم.
في هذا الجو المتماسك بدأ الصراع على السلطة بين وزير المظفر عيسى بن سعيد اليحصبي وخادم المظفر طرفة الصقلي. واضطر الحاجب المظفر ان يتخلص من خادمه طرفة بتحريض من وزيره عيسى. ومنذ ذاك الحادث اخذت تتدهور اوضاع الدولة سياسياً جالبة على الاندلس كارثة اودت في النهاية الى تفكك العصب الاموي المرواني.
ادى التخلص من طرفة الى استبداد الوزير عيسى في الامر مستغلاً ثقة الحاجب الدائم الانشغال بغزواته وحروبه. واكتشف المظفر خداع وزيره متأخراً فحاول التخلص منه فلجأ الوزير الى المكر مستفيداً من خلافات العصبية الاموية المروانية وانقسامها.
آنذاك كان هشام بن عبدالجبار بن عبدالرحمن الناصر ينافس الامير هشام المؤيد بن الحكم بن الناصر على امارة الاندلس وكانت الاسرة العامرية تؤيد هشام بن الحكم المؤيد وتتحالف معه ضد ابن عمه هشام بن عبدالجبار. وحتى يحمي الوزير عيسى نفسه من انتقام الحاجب المظفر العامري اقدم على دعم هشام بن عبدالجبار وحرضه على التحرك لاسترداد الامارة من تسلّط العامريين.
اكتشف الحاجب المظفر خطة وزيره في تحريك الصراع العامري - المرواني فتعاون مع شقيقه عبدالرحمن على قتل الوزير عيسى، ثم عاد المظفر وتخلص من هشام بن عبدالجبار وقتله خوفاً من استنفار العصبية المروانية وتوحدها ضد الاسرة العامرية. بعد نجاح المظفر بمعونة شقيقه عبدالرحمن في احباط مؤامرة القصر اتجه نحو التشدد في احكامه والتثبت في مركز الحجابة كقوة مركزية ترفد بعصبيتها الجديدة تخلخل الامارة الاموية.
رفع اعتماد المظفر على شقيقه عبدالرحمن من شأن الاخير وبدأ يستبد بمنصبه وينفرد بقراراته الامر الذي اضعف مكانة شقيقه الحاجب وأضرّ بسمعته السابقة. وعندما حاول المظفر تصحيح الاوضاع ووضع حدّ لتعسّف شقيقه توفي في حادث غامض اتهم فيه عبدالرحمن بدس السم لشقيقه للتخلص منه والتحكّم بمنصب الحجابة بدلاً عنه المراكشي، الجزء الثالث، صفحة 37. يتفق المؤرخون على تحديد موعد "فتنة الاندلس" في السنة التي توفي فيها المظفر. ويرى الباحثون ان دولة العامريين ذهبت مع المظفر بوفاته سنة 399 هجرية وتولي شقيقه عبدالرحمن بن ابي عامر الملقب ب "شنجول" منصب الحجابة بعده.
في هذا الجو من التناقضات السياسية والعصبية ولد علي بن احمد بن سعيد بن حزم في سنة 384 هجرية 994م وعاش طفولته الاولى في القصور العامرية اذ شبّ في لبلة في حياة مترفة شأن ابناء الوزراء والامراء فهو كما يذكر ابن كثير "من بيت وزارة ورياسة ووجاهة ومال وثروة"جزء 12، ص99. ثم انحطت به الايام فعاش حياة التشرد والاقتلاع فشهد تفكك نظام القرابات وانعكس الامر على اعماله وافكاره ومؤلفاته.
عاش ابن حزم حياة منقسمة بين فترتين وتقلّب بين مزاجين بسبب التنازع الداخلي بين ميلين: الاول اصله الفارسي واسلام عائلته الحديث جده الادنى فجده من فارس وهو اول من دخل بلاد المغرب من الفرس. والثاني تأييده السياسي للعصبية العربية الاموية المروانية وصلة جده الاعلى بتلك العصبية وخدمته لها منذ ايام الدولة الاموية في دمشق فهو خدم سفيان بن يزيد مولى يزيد بن ابي سفيان صخر بن حرب الاموي.
الى النزاع الداخلي وصعوبة الدمج بين الاصل الفارسي والهوى الاموي تعرضت طفولة ابن حزم الى تشتّت اجتماعي بين رفاهية القصور ابن وزير في عهد الحاجب المنصور الذي رفع لواء العامرية وتعاسة السجون والقهر والملاحقة.
واضاف ابن حزم عليها مشكلة عقائدية حين تحول من المذهب الشافعي الاشعري الى المذهب الظاهري الذي يدعو الى الاسلام كما كان عليه منذ نزوله الاول ويرفض التأويل الفقهي او التفسير حسب المنطق القياسي، بتأثير من شيخه مسعود بن سليمان بن مفلت ابو الخيار الذي اخذ عنه الظاهرية القول بالظاهر كمدرسة مبتكرة في الاجتهاد.
عاش ابن حزم لحظات مستقرة في طفولته الاولى ودرس في قرطبة العلوم الشرعية وحفظ القرآن وتفرغ للسياسة باكراً وشارك في حضور ندوات وجلسات في بلاط الحاجب المنصور وابنه المظفر وكان في عمر لا يتجاوز 15 سنة. كذلك درس على عدد من الشيوخ ابرزهم ابو عمر احمد بن محمد بن الجسور وهو اول اساتذته، وعبدالله بن يوسف بن نامي ابو محمد الرهوني، وعبدالرحمن بن ابي يزيد المصري ابو القاسم. ودرس الفلسفة لاحقاً على يد ابن الكناني محمد بن الحسن المذحجي القرطبي وهو اديب وشاعر وطبيب وله رسائل في الفلسفة، وحفظ الحديث والروايات التاريخية باشراف علي عبدالله الازدي ابن الفرضي وهو واسع الرواية وحافظ الحديث.
تأسس ابن حزم في حياة القصور وترفها وعلومها وجلساتها التي كانت تجمع مشاهير قرطبة وكبار العلماء والقضاة والفقهاء والادباء والشعراء. وتكوّنت بداياته الاولى في مجالات من الحرية وقلّة المسؤولية والاتكال وعدم التفكير بالمستقبل. وفجأة تطوّح مجد الاسرة وانهار العقد بسقوط الدولة العامرية بعد رحيل المظفر وتولي شقيقه عبدالرحمن منصب الحجابة ودخول الاندلس عصر الحروب الاهلية.
كان عهد عبدالرحمن من أسوأ عهود الاندلس ومعه انتهت دولة العامريين ولم يتوقف التدهور الا بسقوط الامارة الاموية وتفكك العصبية المروانية.
تلقب عبدالرحمن بأسماء كثيرة مثل الناصر والمأمون ونظر "في الامور نظراً غير سديد وانفق الاموال في غير وجهها". ونجح في اقناع الامير هشام بن الحكم المؤيد بتوليته عهد المسلمين من بعده فوافق المؤيد لضعفه فأدى الامر الى "انحراف أكابر الاندلس عن عبدالرحمن" المراكشي، الجزء 3، ص 38. وبدأت ثقة الناس تتزعزع بأهلية المؤيد فاعترض على قراره اهل بيته من المروانيين وغيرهم من بطون قريش. ووقف والد ابن حزم الى جانب المروانيين في رفض عهد الولاية لعصبية لا صلة لها بالاموية. فزاد من غضب الحاجب المستبد عبدالرحمن على والد ابن حزم واسرته فطرده من قصره والتجأ الى المرية املاً بالعودة الى قرطبة وضاحيتها الزاهرة مركز الدولة ومؤسساتها الحكومية والمالية.
وأمعن ولي العهد عبدالرحمن العامري شنجول في تحدي العصبية المروانية واستفزاز مشاعر الامويين فأقدم على تولية ابنه عبدالعزيز خطة الحجابة وهو موقع اخذه والده بعد رحيل عمه المظفر. وبسبب اجتماع العصبية المروانية - الاموية شعر عبدالرحمن بضعفه وشدة الحصار السياسي حوله فلجأ الى توسيع العصبية العامرية بزيادة الاعتماد على الاندلسيين ضد العرب وتحالف مع البربر وزاد من اعتماده على الجند ومال الى صحبة ضباط الجيش فأكثر من انواع الزيادات والصرف والبذخ فتفاقم الوضع الاقتصادي وتقلصت الاموال وتضخمت النفقات.
وبسبب ضعف عصبية عبدالرحمن حاول كسب العامة من طريق الرشوة وبذل المال وشراء الذمم واخذ ينجرف مع الاهواء المتضاربة وينقاد لها. وبدأ يطلب ملذاته لمسايرة الاجواء في صخبها وتناقضاتها فتجرأ كما يقول المراكشي في تاريخه على "ذوي الهيئات من طبقات اهل الخدمة" واكرههم على طرح قلانسهم والانتقال عنها الى العمائم فكانوا "بها اقبح منظر وأهجن زي وملبس لمخالفة العادة واصبحوا في الناس فضيحة" فانحطّت مكانتهم بأعين الناس والرعية الجزء الثالث، ص 48.
أثارت تصرفات عبدالرحمن شنجول حركة تمرد من قبل المروانيين فاجتمعت العصبية على محمد بن هشام بن عبدالجبار الناصر وقام انصار الامويين باقتحام قرطبة والاستيلاء على ضاحية الزاهرة مركز الدولة وولاية العهد وطاردوا عبدالرحمن شنجول وظفروا به وانتزع محمد بن هشام الناصر الامارة من هشام بن الحكم المؤيد الذي هرب متخفياً واشاع الامويون مقتله.
واستغل العامة اضطراب الموقف واختلال الامن وانقسام الولاء السياسي في العصبية الواحدة فقاموا بنهب المدينة وحرق اسواقها وسرقة متاحفها وتحفها وانتقل الشغب الى الزاهرة فدبّت الفوضى في ضاحية المدينة العامرة بالقصور والمراكز الرسمية ومؤسسات الدولة.
واضطر الحاكم الجديد محمد بن هشام الناصر الى ارسال قوات خاصة لانقاذ بيت اموال المسلمين من النهب والسرقة.
ويقول المراكشي في تاريخه انه نجح في نقل اكثر من 5 ملايين دينار نقداً ومليون دينار ذهباً الجزء الثالث، ص 61 ثم أمر محمد بن هشام بعد ان نهب العامة الزاهرة ضاحية تجمع العامريين بتدميرها وهدم سورها ومنازلها. ولم تعد لها قائمة بعد ذلك… كذلك كان أمر دولة العامريين.
* كاتب من أسرة "الحياة"


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.