أعطى الدكتور الياس القطار أبحاثه عنواناً هو "مؤرخون من لبنان" بدلاً من "المؤرخين اللبنانيين" تحاشياً لاشكالات ثلاث: الأولى، ان الباحث يتناول مؤرخين أجانب "لا يحملون الجنسية اللبنانية، إنما كان عطاؤهم التاريخي من لبنان وبعضه عن لبنان"" والثانية "ان هناك مؤرخين لبنانيين في سجلات النفوس ولا يؤمنون بلبنان"؟ والثالث "ان لبنان لم يكن موجوداً ككيان بذاته في ايامهم". تطرح هذه الاشكالات استطراداً، شكلية التأريخ قبل أن تستقر الشعوب والجماعات في كيانات سياسية معترف بها دولياً. فهل يرتبط التأريخ حكماً بتاريخ هذه الكيانات؟ أم ان مرتكز التأريخ يعود الى كيانات مجتمعية سابقة تاريخياً كالكيانات السياسية المستحدثة؟ الإجابة على هذا التساؤل يرتبط منهجياً، بمدى وعي الوجدان التاريخي لتمايزه في بيئته ومحيطه. وليس الكيان السياسي عندئذ، إلا تجسيد هذا الوعي مع احتفاظ الوجدان بكل خصائصه المجتمعية والتاريخية، مع ما يحيط به من مفارقات تؤدي الى طرح المسألة السياسية المعاصرة. تأخذ أبحاث الدكتور القطار اهمية خاصة في اطار هذه الشكلية وعلى صعيد تاريخ التأريخ في لبنان. فهو يبحث في سيرة ثمانية عشر "مؤرخاً" مختلفي القيمة والتأثير ان من حيث منهجيتهم التاريخية، وان من حيث أهمية عطائهم التاريخي. يندرج البطريرك اسطفان الدويهي، وهو الأول في هذه السلسلة، في اطار وعي وجدان الجماعة لخصوصيته في محيطه الرحب، وبالرغم مما كتب حول الدويهي، فأن المشكلية التي يطرحها الباحث حول الدويهي، بالخصوص حول "تاريخ الأزمنة"، جديدة اذ يسأل: "ما هو مدى تأثير النهضة الأوروبية عموماً، وعلى صعيد تدوين التاريخ خصوصاً، على فكر اسطفانوس الدويهي ومنهجيته التاريخية؟". وبعد أن يستعرض الباحث الأجواء الثقافية التي عاش في أرجائها الدويهي، وبعد أن يبرز أهم معالم نهضة التأريخ في أوروبا، يخلص القطار الى القول ان الدويهي قصّر من ناحية، في الأخذ عن رواد النهضة، وعلّ التقصير كان مقصوداً، ذلك ان الشرق كان فلك أبحاثه فكان من الطبيعي ان يقيم الدويهي اتصالاً عميقاً وكبيراً وواسع النطاق مع المؤرخين العرب سواء أكانوا من المسلمين أم من المسيحيين؟" لكن الدويهي أدرك من ناحية ثانية، ومن خلال الغرب، أهمية وعي الوجدان للمدى الزمني والمكاني في سيرة الجماعة، لا بل الجماعات التي كانت تعاني في عصر الانحطاط. لذلك جاء هذا الوعي بمثابة "عملية انهاض الشعور الوطني للجماعة وفي محاولة تحديد الهوية والانتساب المجتمعي والوطني والقومي". فالشخصية المارونية تأخذ في هذا الإطار ابعاداً ثلاثة: وعيها لذاتها كشخصية تنتمي الى التاريخ بحكم تمايزها المجتمعي" وعيشها تاريخها في "مداه الحيوي الذي يتجاوز القوقعة الى الانفتاح الاقتصادي والتفاعل الثقافي عبر البر باتجاه بلاد الشام"؟ وأخيراً، انفتاحها على البحر باتجاه أوروبا حيث تجد الجماعة عوامل ارتقائها لصنع تاريخها والاسهام في رقي محيطها المشرقي. فهو بذلك قد ارسل ظاهرة باتت قاعدة في التأريخ المعاصر، وهي الربط الحيوي بين الجماعة والمدى الجغرافي. تجد ابعاد التأريخ عند الدويهي تطبيقاتها العملية اولاً عند الخوري جرجس زغيب ؟-1729 صاحب "تاريخ عودة النصارى الى جرود كسروان". وأهمية هذا التاريخ انه دوّن استناداً الى الشاعرة والنقل والسماع. ومهما تكن دقة التدوين من حيث منهجية البحث، فإنه يحاول الالمام بحدث شكّل منعطفاً في تاريخ كسروان، بقدر ما عبّر عن تفاعل بين جماعتين، وانتهى الى عودة النصارى الى كسروان، وما رافق هذه العودة من تحول ديموغرافي لم يهتم له المؤرخون بعد لانهماكهم غالباً بالحدث السياسي وما يحمله من ابعاد ايديولوجية تسيء الى عملية التأريخ مهما كانت بدائية. وثانياً، تجد تلك الأبعاد تطبيقاتها على صعيد التفاعل الحضاري مع ميخائيل الغزيري 1708-1792. وقد أعطى القطار التفاصيل الوافية لابراز دور الغزيري في اسبانيا. فهو انتقل اليها للعمل في حقل الترجمة في المكتبة الملكية. ثم انضم الى الأكاديمية الملكية للتاريخ، ليكمل من ثم مشروعه الموسوعي: فهرست المخطوطات العربية في مكتبة الاسكوريال "لانصاف الشرقيين الذين اعطوا اوروبا الرياضيات وعلوم الفلك". ومن اسبانيا، يعود بنا الباحث الى لبنان ليتناول سيرة حنانيا المنيّر 1757-1820؟ ومؤلفاته، فيركز على "الدر المرصوف في تاريخ الشرق". وبالرغم من أن الكتاب بات معروفاً لدى الباحثين اللبنانيين، فان ما يطرحه القطار حوله فيه الكثير من الجديد، فبيئة المنير شهدت "انبعاثاً ثقافياً كبيراً اذ فيها نشأت مدارس كبرى عينطورا، عين ورقة، كفرحين، رومية. وكان الانفتاح على الغرب يشق طريقه صعداً عبر الارساليات الأجنبية وعبر الذين تتلمذوا على أوروبا مباشرة". مهما يكن موقف المنير المنهجي، فأن التأريخ معه اتجه محلياً نحو مجتمع جبل لبنان وأحداثه بين الأعيان. فشكل بذلك مدخلاً الى تاريخ لبنان مع الانفتاح على الغرب لفتح التأريخ افاق جديدة بلغت ذروتها في القرن التاسع عشر مع المطران يوسف الدبس 1833-1907 في مؤلفه الموسوعي "تاريخ سورية الدنيوي والديني". والغرض من الكتاب "هو جعل الاكتشافات الحديثة، في زمانه طبعاً، معروفة لدى عامة الشعوب المتكلمين باللغة العربية...". فجعل كتابه على تاريخ سورية القديم والحديث، إلا انه افرد في نهاية كل فصل ملاحق خاصة بالموارنة، لينتهي الى اثبات الخصوصية اللبنانية بإثنتين: الأولى هي الموارنة" والثانية هي الخصوصية اللبنانية بالذات التي ترتبط بجبل لبنان. وقد يكون "مجمع المسرات" لشاكر الخوري 1847-1911 من تلك المصادر التي يدخلها القطار في صلب عملية التأريخ. فالكاتب "هو أحد رواد النهضة التي شهدها لبنان وعمّت أرجاء المشرق العربي انطلاقاً منه". والجديد في هذا المجال ان سيرة شاكر الخوري غنية بالأحداث الذاتية، "وتجتمع في شخصيته علوم متعددة" قادته الى الأخذ "بالعقل والفكر الواقعي التطبيقي والايمان بقوانين الطبيعة والتسليم بها". من هنا تنبع فائدة المذكرات في المجالات الأدبية والاجتماعية التي تتخطى لبنان الى الأقطار العربية وخصوصاً مصر. والفائدة التاريخية هي أن المؤلف جمع بين الثقافة الواسعة على مذهب العقلانية والإحاطة بالأحداث التي عاصرها في أواخر عهد المتصرفية. وفي إطار التأريخ انطلاقاً من الأحداث المعاشة، يأخذ بولس نجيم 1880-1931 أهمية خاصة في عصره. انه رد فعل على واقع مجتمعي ممزق وحاجات اقتصادية واجتماعية متفاقمة، دفعت جميعها بنجيم الى استنباط نظرية لبنان في حدوده الطبيعية والتاريخية. انه "لبنان الكيان" المميز في محيطه السوري، والقائم على وعي تاريخي جمع "اللبنانيين" في إرادة العيش المشترك. والاشكالات التي يطرحها بولس نجيم، تأخذ مع الأب هنري لانس اليسوعي 1862-1933 وهو مستشرق بلجيكي، بعداً آخر في كتابه "تاريخ سورية". فسورية التي تشكل بالنسبة اليه "وحدة طبيعية وحدوداً واضحة"، حملت بذاتها تناقضات جغرافية "دعت المقيمين الى الانطواء على ذواتهم"، مما أثر على وحدة الشعور والتماسك الاثني، فكان ان خضعت سورية "في آن معاً لثنائية الوحدة والتفسخ"، برزت من جرائها الخصوصية اللبنانية التي يتكلم عنها في الجزء الثاني من الكتاب. ومع محمد جابر آل صفا 1875-1945 تأخذ تناقضات الجغرافيا بعداً مجتمعياً "فتاريخ جبل عامل" هو "في الآن نفسه، مصدر ومرجع أساسي يؤرخ لمنطقة محددة هي جبل عامل، ولطائفة معينة هي الطائفة الشيعية، محاولاً ادخال الاثنتين في السياق العام لتاريخ المنطقة". وهكذا تظهر الخصوصية في واقع مجتمعي تشده الى المحيط انتماءات قومية تخرج الشيعة من ضيق المكان الى رحاب الوحدة. ويستفيض القطار في بحثه عن أسد رستم 1897-1965 رائد علم المنهجية في لبنان. فبعد أن يتناول سيرة المؤرخ وشخصيته ومؤلفاته العديدة والمتنوعة، يبرز القطار اهم المجالات التي برز فيها رستم وهي: نشر الوثائق والمخطوطات في تاريخ لبنان والشرق الأوسط على عهد محمد علي باشا الى جانب تاريخ الروم والكنيسة الأنطاكية، بعد نشر تاريخ اليونان والرومان. وقد جعلت منه هذه المؤلفات "مؤرخاً عملاقاً من أهم مؤرخي الشرق العربي في القرن العشرين ومن أكثرهم انتاجاً" حسب القطار. ويندرج في سياق هذه المدرسة الوضعية التي سادت في الغرب، فيليب حتي 1886-1978 الذي كتب ونشر في تاريخ العرب، وخص لبنان بمجلد وقد "ضاق بعض اللبنانيين ذرعاً بهذا الكتاب اليتيم عن لبنان، برغم أن المؤرخ ينطلق فيه من واقع سياسي عالمي قائم من جهة، ومن وجود شريحة كبيرة جداً من اللبنانيين عملت من أجل كيان لبناني آمنت به منذ قرون عدة، من دون ان يكون في ذلك تنكر لانتمائها الى الحضارة الحديثة". لكن هذا الضيق في سعة صدر العديدين من اللبنانيين، لم يحد من انتشار الكتاب واعادة طبعه مراراً، كما أنه لم يلاق اي تجاوب في تفكير المؤرخ. فحتى في تركيزه على لبنان يعتمد المنهج المقارن لابراز أهم مقومات الوجود اللبناني وقد تناولها القطار بشيء من التفصيل. ومع جواد بولس 1899-1982 تأخذ الجغرافيا مكاناً خاصاً في النظرية التاريخية، "ففي لبنان حلف ثابت بين الجبل والبحر، الجبل الذي يمنح أبناءه نعمة الاستقلال، والبحر نعمة الانفتاح في تعاط فكري واقتصادي وعلمي مع العالم الأوسع". وانطلاقاً من الجغرافيا "يتمتع لبنان بشخصية لها طابعها المميز المختلف عن سائر الشخصيات الشرقية"، وقد طبعت هذه "الجغرافيا الشخصية اللبنانية المميزة بروح الاستقلال الذي يقدمه الجبل، وبروح الحفاوة التي يدفعها البحر". ومع الخوري يوسف أبي صعب 1925-1985 يتناول القطار نمطاً آخر من الكتابة التاريخية، هي تاريخ الأسر والنوى. لينتقل من ثم الى المجموعة الأخيرة من المؤرخين المعاصرين، ولكل منهم مكانته الأكاديمية وتأليفه المرموقة: فأنيس فريحة 1902-1993 شكّل محطة بارزة في عملية التأريخ في لبنان. فهو قد أثبت للمؤرخين وبكل جدارة أهمية الجمع بين اللغات السامية القديمة واللغات المعاصرة في البحث عن الحقائق التي خلّفها الماضي. فترجم وألف في اللغة والتاريخ. لكنه أدرك بحس ارتباطه بالزمن التاريخي خطورة تسارعه الحضاري على مستقبل القرية اللبنانية فكتب "حضارة في طريق الزوال: القرية اللبنانية"، ليقف على تطور قد يفقد الريف عامة، أصالته باندماجه في المجتمع الاستهلاكي. وألبرت حوراني 1915-1993 علم في التأريخ. كان "اطار ابحاثه في التاريخ الحديث والمعاصر للعالم العربي، وهو واكب الناحية الحضارية والثقافية في هذا التاريخ بصورة دقيقة وعلمية". وهو بذلك أخرج التأريخ من القوقعة السياسية، ليفتحه على الآفاق الحضارية التي تطال بنتائجها مسيرة الفرد والجماعة معاً. ومع فؤاد افرام البستاني 1906-1994 يختلط التأريخ بالأدب في نتاج موسوعي تناول على صعيد التأريخ "نشر المصادر وسرد القصص التاريخي والتأريخ". وفي كل ما كتب البستاني، "كان لبنان من جهة الحضارة العربية من جهة أخرى محوري كتاباته". أما مع الخوري يواكيم مبارك 1924-1995 فيأخذ التأريخ منحى ثقافياً يتجسد في "التجذر في حضارة العروبة والإسلام". ضمن هذا التجذر أصدر مبارك "الخماسية الأنطاكية: ابعاد مارونية"، وهي تقوم "على قاعدتين أساسيتين: من جهة ترجمة التراث الماروني الى اللغة الفرنسية" ومن جهة ثانية انتقاء النصوص الفرنسية الأصل...". وأخيراً، يصل الدكتور القطار الى عميد المؤرخين المعاصرين الدكتور نقولا زيادة الذي لن يتوقف حصاده الا عندما يأذن الله بذلك. فالحياة الزاخرة بالعطاء انعكست على نتاجه التاريخي الذي اتسعت جغرافيته المكانية والزمانية لتشمل كل عصور العالم العربي وكل نشاطاته الفكرية والسياسية. فمؤلفاته "تتميز بالتوسع المعرفي بحيث يبدو الكاتب وكأنه يختزل دائرة معارف حية متميزة بمعارفها الشمولية العميقة والواضحة". ويختصر القطار نشاط الدكتور زيادة التأريخي بالقول: "انه علم من أعلام النهضة التاريخية العربية ومؤرخ كبير...". وهكذا، يوقفنا الدكتور القطار على مسيرة التأريخ في لبنان ومن لبنان، نهجاً وموضوعات. وان اتجهت هذه المسيرة مع الاعلام نحو العلم والموضوعية، فإن تقلباتها تطورت من الخصوصية نحو الشمولية، بقدر ما احتفظ الوجدان بتمايزه المجتمعي، وبقدر ما أدرك ان الارتباط بالزمن التاريخي يحتم الانفتاح والتفاعل انطلاقاً من مساواة الانا بالآخر. هذه الخصوصية يبرزها القطار جلية من خلال الكتبة والمؤرخين من لبنان.
