أقدمت جماعة مسلحة في شهر ايار مايو الماضي على خطف رجل الأعمال اليوت مارغوليس فريدمان صاحب فرع مبيعات سيارات كرايسلر في العاصمة المكسيكية. وتمت العملية في أقل من أربع دقائق، قام خلالها المختطفون بتهديد العاملين في معرض السيارات، وصعد بعضهم إلى مكتب رجل الأعمال واقتاده إلى حيث كانت سيارة واقفة أمام المعرض، انطلقت به إلى اتجاه مجهول خارج مركز العاصمة. بعدها قدم الخاطفون طلب فدية قيمتها خمسة ملايين دولار، وهددوا بقتله ما لم تتم الاستجابة لطلباتهم، وحددوا لذلك موعداً. لكن شرطة العاصمة المكسيكية تحركت بسرعة، لأن المخطوف ليس رجل أعمال عادياً، بل هو من أهم رجال الأعمال اليهود في البلاد، وعملية خطفه يمكن استغلالها سياسياً ضد المكسيك من جانب اللوبي اليهودي في الولاياتالمتحدة، في وقت تمر العلاقات بين البلدين بأزمة حادة نتجت عن إقدام رجال المباحث الفيديرالية الأميركية باختطاف عدد من العاملين في البنوك المكسيكية، ومحاكمتهم باعتبارهم يسهلون عمليات غسيل أموال المخدرات. ظلت الشرطة تواصل عمليات البحث، فيما كانت أسرة المخطوف ومحاموه يتباحثون مع الخاطفين حول قيمة الفدية الممكنة ومكان وموعد تسليمها، إلى أن استطاع رجال الشرطة التوصل إلى مكان المخطوف بعد 24 يوماً من عملية الخطف، وجرى انقاذه خلال عملية ضخمة شاركت فيها القوات الخاصة، واستخدمت خلالها أنواع الأسلحة المختلفة. هذه ليست العملية الأولى التي يتم فيها خطف رجل أعمال مهم، بل أن مسألة الخطف في المكسيك تحولت في السنوات الأربع الأخيرة إلى عمليات شبه يومية. ولكن الاعلان عنها أو اخفاءها يرجع إلى مدى أهمية المخطوف، مثل عملية خطف رجل الأعمال أيضاً الفريدو هارب التي جرت العام 1994، وظل رهينة في أيدي الخاطفين لمدة 106 أيام، ولم يتم اطلاق سراحه إلا بعد أن حصل خاطفوه على 25 مليون دولار. ثم هناك عملية خطف رجل الأعمال الياباني مامورو كونو مدير شركة "سانيو" للالكترونيات. شهد العام 1997 أشهر عملية خطف كان ضحيتها وزير الداخلية السابق وقائد جهاز المخابرات فرناندو غوتيريس، الذي كان معروفاً باسم "السوبر بوليس". ولم يتم اطلاق سراحه إلا بعد أن خضعت الدولة للخاطفين، ودفعت فدية تقدر بحوالى مليون ونصف المليون دولار. عمليات الخطف وطلب الفدية في المكسيك ليست عمليات منعزلة تحدث بين وقت وآخر، بل أصبحت اليوم مهنة جديدة لمن لا مهنة لهم. وليس مطلوباً بالضرورة أن يكون الخاطفون جماعة منظمة، ولا حتى ان تكون لهم ايديولوجية معينة للقيام بتلك العمليات بحثاً عن تمويل للنضال... وإنما تحول الكثيرون إلى ممارسة عمليات الخطف لا لهدف سياسي أو حتى عسكري، وإنما لأهداف اقتصادية بحتة. الخطف تحول إلى "مهنة" يمارسها بعضهم كما يمارس غيره الزراعة أو الصناعة أو حتى بيع الصحف على نواصي الشوارع. الأشخاص الذين يعجزون عن الحصول على قوتهم اليومي يتحولون إلى العمل في "الخطف" للحصول على رزقهم. هذه المهنة انتشرت أخيراً وبشكل بارز في المكسيك، فقد سجلت دوائر الشرطة خلال العام 1996 حدوث 550 عملية خطف تم الابلاغ عنها. ويؤكد المسؤولون أن هذا الرقم أقل من 10 في المئة من عمليات الخطف الحقيقية التي وقع أناس عاديون ضحايا لها، لأن الخوف من ابلاغ الشرطة يصاحب مثل هذه العمليات، والابلاغ لا يتم إلا من قبل الذين لا يملكون "الفدية" المطلوبة، وهم يعلمون تماماً أن الشرطة ستقف عاجزة أمام بلاغاتهم، بل هناك قناعة لدى الشعب المكسيكي بأن جزءاً من تلك العمليات تقوم به مجموعات منظمة تعمل تحت حماية مباشرة من الشرطة. وتؤكد الاحصاءات التي نشرتها الحكومة المكسيكية أخيراً أن عمليات الخطف من أجل الحصول على الطعام انتشرت بشكل كبير، حتى أصبح من الممكن الحديث عن مهنة حرة تسمى "الخطف" أو "الخاطف". وهذه المهنة ظهرت بشكل فردي، ثم سرعان ما تدخل بعض الاشخاص لتنظيمها، تماماً كما يحدث في أية مهنة أخرى، فتحول الخاطفون للعمل في جماعات منظمة، وجرى تحديد السيطرة على مناطق معينة لجماعات معينة. ويبدو أن تلك الجماعات وضعت لنفسها قوانين خاصة تطبقها على أفرادها، ويحترمها أعضاء الجماعات الأخرى، وأصبح لكل منها منطقة نفوذها. هؤلاء الخاطفون الجدد يبدون أكثر "ديموقراطية" من جماعات الجريمة المنظمة القديمة، لأن ضحايا جماعات الخطف الحديثة في المكسيك يؤمنون بأن أي شخص هو صالح للخطف، بغض النظر عن وضعه الاجتماعي أو المالي !، وليس مهماً أن يكون المخطوف طفلاً لربة بيت لا تملك غير ما يتركه لها زوجها العامل البسيط، أو أن يكون ابناً أو حفيداً لجنرال في الجيش، أو لرجل أعمال معروف. وهذه الديموقراطية في "صناعة الخطف" تعود إلى حجم الفدية، وفدية هذه الجماعات في متناول الجميع، ولا تزيد في أية حال من الأحوال عن ثلاثمئة دولار، وفي أحيان كثيرة تكون عبارة عن أطعمة لسد الرمق، أو ملابس لوقاية الجسد من برد الشتاء وحر الصيف. وتؤكد تقارير رسمية أن عمليات الخطف الجديدة لا تزيد عن ساعات قليلة، بخلاف عمليات الخطف التي يمارسها مختطفون منظمون، وتستغرق أسابيع وأشهراً، وفي أحيان كثيرة تستمر لسنوات، لذلك تغير مسرح عمليات الخطف أيضاً، فأصبحت المناطق المجاورة لأسواق "السوبر ماركت" من أفضل المناطق للخاطفين. ويذكر المراقبون أن الأسباب الرئيسية لظهور هذه المهنة الجديدة تعود بشكل أساسي إلى الفساد الذي انتشر بصورة واسعة في الإدارات الحكومية، نتيجة للنظام الاقتصادي الذي تطبقه الحكومة المكسيكية للخروج من الأزمة التي أوقعتها فيها سياسات الحزب الحاكم، والتي لا تختلف كثيراً عن سياسات غيرها من الحكومات في أميركا اللاتينية. هذا النظام الذي قسم المجتمع إلى "اثرياء" و"فقراء"، فالثراء في المكسيك "فاحش" والفقر "مدقع"، ولم يعد أمام الفقراء سوى ابتزاز الاثرياء، ولكن لأن الاثرياء لديهم من يحميهم من عمليات الاختطاف، تحول الفقراء إلى ابتزاز الأقل فقراً منهم! المشكلة الأساسية في هذه المسألة أن عمليات الخطف التي يتعرض لها الجميع في المكسيك ليست جديدة، بل تعود إلى منتصف الثمانينات. لكن الاحصاءات في ذلك الوقت لم تلفت الأنظار إلى ما يحدث، لأنها كانت أيضاً منتشرة في مناطق أخرى من أميركا اللاتينية، وتم اكتشاف مصدرها الأساسي بعد ان تحولت مدينة مكسيكو سيتي العاصمة إلى أخطر المدن في العالم من الناحية الأمنية. الوضع مقلق إلى حد بعيد، لكن يبدو أن المسؤولين ورجال الشرطة غير قلقين. لأن الحكومة تملك الرجال لحراستها من تلك العمليات، وتملك أيضاً المال لدفع الفدية إذا تعرض رجالها للخطف، وأصبح على الشعب أن يبحث عن طريقة لحماية نفسه من تلك العمليات التي يؤكد الكثيرون ان الشرطة من منظميها !!. والسؤال الآن يتردد حول امكان إنهاء هذا الوضع. وعلى رغم وصول أحد رموز المعارضة إلى مقعد محافظ العاصمة في الانتخابات التي جرت قبل عام، ومني فيها الحزب الحاكم بأول هزيمة له بعد أكثر من خمسة وستين عاماً في الحكم، فإن النتائج التي شاهدها الشعب في ظل المحافظ المعارض لا تشير إلى وجود أي تحسن في الوضع. وهناك من يؤكد بأن الحكومة المركزية تساعد في استمرار حال عدم الاستقرار في العاصمة ليخسر المحافظ شعبيته، وبالتالي يخسر حزبه في الانتخابات العامة المقبلة، لأنه فشل في تطبيق برنامجه الاصلاحي! الأخطر من ذلك أن انتشار عمليات الخطف أدى إلى انتشار مكاتب الحراسة الخاصة التي تعرض خدماتها على القادرين. ويوجد في المكسيك حالياً أكثر من 1500 شركة من شركات الحراسة الخاصة، يقدر عدد العاملين فيها بحوالى 150 ألف رجل مدرب، أي يتفوق عدد رجال الحراسات الخاصة عن عدد رجال الشرطة في العاصمة المكسيكية بحوالى 50 ألف رجل. هذا الأمر يدفع إلى التفكير بأن رجال الحراسات الخاصة، إلى جانب قيامهم بمهمة يعجز رجال الشرطة عن توفيرها لمن يريد، هم أنفسهم يعتبرون عامل قلق وعدم استقرار، لأن هؤلاء يشكلون جيشاً سرياً يمكن لمن يملك المال أن يحركه لصالحه، ويهدد أمن البلاد، وذلك باستخدامهم في عمليات مسلحة ضد مصالح الغير، أو يمكن دفعهم للقيام بمهام تهدف إلى زعزعة الاستقرار، ويمكنهم التسبب أيضاً في إثارة الذعر بين الجماهير التي سوف تجد نفسها محاصرة من جانب هؤلاء ومن جانب الشرطة الرسمية