الأمير سعود بن نهار يبحث جهود تعزيز هوية العمارة السعودية بالطائف    الأخضر السعودي يخسر أمام كولومبيا في مونديال الشباب    "إثراء" يشارك بالنسخة الأولى لمؤتمر الاستثمار الثقافي كشريك إستراتيجي    ولي العهد يوجه بإطلاق اسم مفتى المملكة الراحل على أحد شوارع الرياض    ضبط وافد في الحدود الشمالية لمزاولته أنشطة صحية دون ترخيص    مجلس الشورى يعقد جلسته العادية الرابعة من أعمال السنة الثانية للدورة التاسعة    وزير العدل يوجّه بإطلاق خدمة إصدار وكالة لقطاع الأعمال    السعودية تترأس أعمال الدورة الثانية لمجلس وزراء الأمن السيبراني العرب    جامعة الأميرة نورة تُشارك في معرض الرياض الدولي للكتاب 2025    القبض على 3 مصريات في رابغ لترويجهن «الشبو»    ملتقى مآثر ابن صالح.. خطوة نحو الإعلام الحديث    الرياض تستضيف بطولة آسيا للياقة البدنية الوظيفية 2025    المسؤولية تصنع المتعلم    ولي العهد يتسلم أوراق اعتماد سفراء عدد من الدول الشقيقة والصديقة المعينين لدى المملكة    ميزانية السعودية 2026 تتوقع نفقات 1.31 تريليون ريال وإيرادات 1.14 تريليون ريال    الفضاء مداك حينما يتسع المدار    توقيع 5 اتفاقيات استثمارية بين السعودية وفيتنام    الرِّفقُ في القيادة.. صناعةُ الولاء وبعثُ الإبداع    المملكة تؤكد التزامها بقيادة الابتكار المسؤول في الذكاء الاصطناعي خلال اجتماع وزراء مجموعة العشرين في جنوب أفريقيا    من أصالة التراث إلى أفق المستقبل... المملكة تقود حراك الثقافة الاستثمارية    تطبيق " بلدي" : صور وأرسل وخلال ساعات يتغير المشهد    أمير الشرقية يشيد بتنظيم احتفالات اليوم الوطني ويطلع على تقرير هيئة الأمر بالمعروف    أمير جازان يستقبل مدير مركز جمعية الأطفال ذوي الإعاقة بالمنطقة    الرزيزاء: تنظيم العلاقة الإيجارية بين المؤجر والمستأجر خطوة محورية في مسار تطوير السوق العقاري    النائب العام يستقبل سفير قرغيزستان لدى المملكة    الفاران إلى المرتبة الحادية عشر    مستشفى الملك فهد الجامعي يفعّل اليوم العالمي للتوعية بأمراض القلب    "هدية" تطلق معرض "تاريخ مجيد في خدمة ضيوف الرحمن"    ابن معمر: المملكة تضع الترجمة والابتكار في صميم رؤيتها الثقافية والتنموية    تشكيل النصر المتوقع أمام الزوراء    يحيى بن جنيد شخصية العام التراثية في احتفالية يوم المخطوط العربي 2025    "طبية" جامعة الملك سعود تسجّل براءة اختراع لأداة فموية متعددة الوظائف    الأمين العام لمجلس التعاون يُرحِّب بخطة الرئيس الأمريكي لإنهاء الأزمة في قطاع غزة    افتتاح معرض "صوت التناغم" الصيني بالمتحف الوطني السعودي في الرياض    جدة تتصدر جودة الحياة في السعودية    2.5 مليار دولار صكوك إعادة التمويل    مع ارتفاع نسبة مشاركة النساء.. سوريا تبدأ الدعاية الانتخابية لمجلس الشعب    الذكريات.. إرث يبقى بعد الرحيل    مستشفيات غزة محاصرة.. والموت يطوق المرضى    في ثاني جولات نخبة آسيا.. الهلال يتصدر بنقاط ناساف.. والأهلي يتعادل مع الدحيل    في الجولة الثانية من دوري أبطال أوروبا.. ريال مدريد وليفربول يبحثان عن التعويض.. ومورينيو يعود إلى «ستامفورد بريدج»    ميدفيديف يحذر أوروبا من حرب شاملة.. وزيلينسكي: روسيا لن تعيد رسم حدود أوكرانيا    أمَّن وصول المساعدات لأول مرة.. الجيش السوداني يكسر حصار الفاشر    «أحذية» تقود هنديين للفوز بجائزة عالمية    نوم أقل.. وزن أكثر (1)    «محمية الإمام تركي» تنضم لبرنامج الإنسان والمحيط الحيوي    أمير الرياض يلتقي نائب وزير الحرس الوطني    أمير حائل: المبادرات تدعم الحراك الرياضي والسياحي    لبنان: «إسرائيل» تقصف مخزن أسلحة ل«حزب الله»    أربعة قتلى بنيران مسلح في ميشيغن.. وترمب يصفه بجزء من "وباء العنف"    أمير جازان يطلق فعاليات منتدى فكر    ‏قائد قوة جازان يزور المنطقة الخامسة ويشيد بالجاهزية القتالية للوحدات العسكرية    «العظام والمفاصل» بمستشفى الدكتور سليمان الحبيب بالمحمدية في جدة.. رعاية صحية وفق أعلى المعايير.. أميز الكفاءات.. وأحدث التجهيزات    الصندوق السعودي للأفلام يعتمد ريفيرا كونتنت اسما جديدا    فضيلة المستشار الشرعي بجازان يلقي كلمة ضمن برنامج تماسك في الكلية التقنية بصامطة    بحضور الأمراء.. نائب أمير مكة يشارك في صلاة الميت على الأميرة عبطا بنت عبدالعزيز    نائب أمير تبوك يستقبل القنصل العام لجمهورية السودان    أول محمية ملكية سعودية ضمن برنامج اليونسكو    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



سلمى الخضراء الجيوسي تدرس الحركات الشعرية العربية الحديثة . تجميع نقدي يتخلّف عن أبحاث عصر النهضة
نشر في الحياة يوم 07 - 06 - 1998

وصلنا أخيراً الجزء الأول من كتاب الناقدة العراقية سلمى الخضراء الجيوسي وعنوانه "الاتجاهات والحركات في الشعر العربي الحديث" منشورات اتحاد كتاب وأدباء الامارات، وكان عكف على ترجمته الناقد العراقي عبدالواحد لؤلؤة. وكان الكتاب أثار اهتمام الباحثين والقراء العرب قبل أن يصدر مترجماً الى العربية نظراً الى الموقع النقدي والأكاديمي الذي تحتله المؤلفة.
جاء في صفحة الغلاف الأخيرة أنَّ في الكتاب "متابعة دقيقة لتطوّر النقد الشعري في العصر الحديث لا سيما في جانبه النظري، كما أنّه يتضمن دراسات نقديّة متكاملة للشعراء الرئيسيين ما قبل حركة الشعر الحديث...".
عنوان الكتاب، وما جاء في صفحة الغلاف يجذبان القارىء، ويحملانه على توقّع ما يمكن أن يشتمل عليه الكتاب، ويكوّنان له أفق القراءة، أي أن يكون الكتاب مقاربة جادّة تحفر في الحداثة نقداً وشعراً، بحثاً عن جذورها، ومعاينة لانبثاقها، وملاحقة لتجلّياتها. غير أنّ المتن يصدم القارىء باشكالات غير منتظرة، تتعلق بالمصطلح والمرجعية والرؤية التي حافظت، على ما يبدو، على الخطاب النقدي السائد، برغم الحداثة.
الكتاب، في الأساس، أطروحة دكتوراه أنجزتها الباحثة سنة 1970، وألحقت بها دراسات عن حركة الحداثة أنجزتها 1993. وقد جاء في المقدّمة التي جعلتها الباحثة جزءاً من الفصل الأوّل، أن غايتها رصد التطوّر التاريخي للشعر الحديث بوصفه شكلاً فنّياً، منذ النهضة، ذلك أن التغيّرات التي لحقت بالشعر لم تحظَ بدراسة عامّة وشاملة. وهي تتوخّى أن تروي "قصّة العبقرية الشعرية في الزمن الحديث"، على أن تسقط من دراستها غيرَ المعروفين، والذين تشبه تجربتهم الشعرية تجربة "شعراء أكبر منهم كصلاح لبكي".
كشفت الباحثة أنّها اختارت المنهج التاريخي مستفيدة من طريقة العرب ومن اضافات الغربيين، أي اختارت طريقة تجمع بين العوامل الخارجية الاجتماعية والسياسية والثقافية، والعوامل الداخلية لتطوّر الفنّ من داخل. على أنّها تميل الى الاعتقاد بأنَّ تطوّر الشعر يمليه تطوّر الفن وليس التطوّرات الاجتماعية والسياسية. وهي ترى أن كلّ "عمل فنّي ينطوي على جوهرٍ ثابت من القيم، من دونه لا يبلغ العمل مستوى الفن"، وأنّ ثمّة مجموعتين من القيم الجمالية إذاً، "القيم الثابتة التي تستعصي على التحديد، والقيم المتغيّرة التي هي جزء من عملية التاريخ". وهكذا، فقد حدّدت معاييرها بالقيم الجمالية الثابتة وبالحركة التطوّرية، فتأخذ النتاج في تطوّره، تضعه في مجال القيم السائدة في عصره ثمّ النظر اليه في ضوء القيم السائدة في زمن الباحث ]20[.
ولأن الباحثة تركّز على التطوّر الذاتي الداخلي للشعر والنقد وليس على التطوّرات الخارجية فقط، فإنّها اختارت، في تقسيمها دراستها، الوضع الفنّي الذي يميّز المراحل الأدبية وليس الوضع السياسي والاجتماعي، فلاحقت التغيّرات التي تحدث في المعايير الشعرية، وتنتقل بالشعر من نسق إلى آخر. وتبعاً لذلك، يبدو أنّ الباحثة وجدت مفاصل التغيّر في النسق الشعري في نهاية القرن التاسع عشر، وفي نهاية العقد الثاني من القرن العشرين، وفي نهاية منتصف القرن العشرين، فوزّعت دراستها بين ثلاثة فصول:
الفصل الأول جاء بعنوان: الجذور الثقافية للشعر العربي الحديث، وفيه مقدّمة الكتاب، وقسمان: الأول عن الثقافة العربية في القرن الثامن عشر، والثاني عن النهضة الأدبية في القرن التاسع عشر. وأبرز الذين دار كلامها عليهم كانوا في لبنان وسورية ثم من مصر. ففي لبنان عمل اليازجي على بعث القديم متّبعاً أساليب القدامى، وفي حين سرّب فرنسيس مرّاش ورزق الله حسّون الأفكار المسيحية الى الأدب العربي، استطاع اليازجي أن يتخلّص من التراث المسيحي أسلوباً وفكراً، وإذ تصف الباحثة شعر القرنين الثامن عشر والتاسع عشر بالتخلّف وامتلائه بالعبارات المكرورة والمحسّنات اللفظية والتطريز والتراسل والتأريخ والتظرّف الأجوف، ترى أنّ انجازات النهضة لم تغيّر "هذا الشعر على امتداد القرن التاسع عشر، وحتّى الشدياق العظيم لم يستطع ان يجتاز الامتحان الصعب لإحداث تغيّر فعلي في الشعر". أمّا في مصر، فقد غلبت الدراسات العلمية على النهضة فيها، وبقيت الدراسات الأدبية من غير تشجيع، وقد برز البارودي بوصفه "أفضل شعراء مصر"، وهو بدوره قد "اتّبع نموذجاً ثابتاً على مثال الشعر القديم، وأسس الكلاسيكية المحدثة".
الفصل الثاني وقد جاء بعنوان:التطوّرات الأولى في القرن العشرين، وقد وزّعته الباحثة على قسمين: الأوّل عن إرساء قواعد الكلاسيكية، والثاني عن الشعر العربي في الأميركيتين، وهذا القسم وزّعت أيضاً الى قسمين: الأوّل عن الشعر المهجري الجنوبي، والثاني عن الشعر المهجري الشمالي.
تعيد الكاتبة تثبيت الكلاسيكية المحدثة الى أحمد شوقي، وبرغم الانتقادات الشديدة الموجّهة اليه، ترى الباحثة إليه، اليوم، في شعره "وقد اتّخذ مكانته بين أهم الشعراء في التراث العربي جميعه"، وهو على ما تقول "أعظم حدث شعري، يقف عالياً فوق الآخرين... والشعراء بعد متلاحقون، وإلى شوقي، تضيف الباحثة حافظ ابراهيم الذي اشتهر في شعر المنابر، والشعر الغنائي الذي يستدعي الاستجابة العاطفية.
مطران والتجديد
أما التغيّر فقد حدث مع خليل مطران الذي تحصر تجديده في الشعر القائم على الخيال، في فنّ الوصف وفي الصورة الشعرية، وفي الحقل القصصي، لكنّها ترى أن مطران "بقي منشغلاً بالمظاهر الخارجية للمرئيات، ولم يلتحم بالطبيعة شأن الرومانسيين"، وانه "بالرغم من انجازه المهم في الشعر، في مطلع هذا القرن، لم ينجح في إنعاش عنصر العاطفة في الشعر، واطلاقه قويّاً متوهّجاً، ولذلك، ترفض الباحثة تتويج طه حسين لمطران معتبراً إياه "سيّد جميع الشعراء في العالم العربي دون منازع"، معتبرة هذا التتويج واحدةً من اندفاعات طه حسين المزاجية، كما ترفض اشادة مندور بمطران، وبزعامته للشعر الحديث.
تلحظ الباحثة أن شعر الجنوب الأميركي تفوّق في الكمّ على شعر المهجر الشمالي، وأنّ شعراءه ادخلوا الى الشعر المواضيع التجريدية والمواقف الفلسفية والرومانسية، ففوزي المعلوف استخدم الصور التجريدية في "على بساط الريح"، وشفيق المعلوف اتّبع النزعة الرومنسية الا أنّ صوره كانت منفّرة، أما رشيد سليم الخوري فشعره ملتزم، لاهب، عاطفي ومباشر، بعض قصائده الوطنية "تعدّ أعظم أمثلة الشعر الوطني العربي الحديث". وهذا الشاعر مزيج متضارب من التقليدي والمستقلّ.
وبالمقابل، تلحظ الباحثة ان الشعر المهجري الشمالي كان أكثر تحديثاً، فأمين الريحاني "أبو الشعر المنثور" في العربية، عمل على نقل الروحية العربية الى الغرب، ونقل تقدّم الغرب الى الشرق، وهو مزيج من الرومانسي والواقعي، وفيما كان عرب المشرق يسعون الى التخلّص من الكلاسيكية المحدثة كان الريحاني يسعى الى تخليص الرومانسية من الميوعة العاطفية والحشو اللفظي، أما جبران، فتعتبره الباحثة، "أعظم شخصية أدبية في الأدب العربي خلال العقود الأولى من هذا القرن"، أطلق التيار الرومانسي، وأدخل الروح المسيحي الى الأدب العربي، ومع أنّ شعراء الجنوب الأميركي مسيحيون، الا انهم كتبوا ضمن القومية العربية، بينما الشماليون سرّبوا الروح المسيحي عبر فكرة الحب الأشمل والانشغال بثنائيات الوجود والتقنّع بشخصية المسيح، بصورة خاصة، جبران، ومع أنّه يدعو الى أخوّة البشر، فقد رأى محمد حسين هيكل أن الحركة الأدبية التي يتزعّمها جبران تمثّل خطراً حقيقياً على الثقافة الإسلامية. وإلى ذلك، ترفض الباحثة أن يكون جبران قد أنشأ قصيدة النثر التي اعتبرها حاوي من ابداعاته، مثلما كان العقاد قد رفض اعتبار "المواكب" قصيدة، وبالمقابل هذا التوجّس من جبران، تقبّل العرب العرب ايليا أبو ماضي لوقوفه بين التقليد والتجديد، ولأنه أقلّ المهجريين تصويراً للموقف المسيحي، ولتطابق موقفه مع جوهر الموقف الإسلامي، ولتضمّن شعره الحكمة والخلاصات اليقينية، ولاعتماده الحكايات الرمزية، ولنزعته التفاؤلية، ولعدم تسريب الدخيل الى شعره.
أمّا في النقد، فقد برز ميخائيل نعيمة، يقوم مذهبه على تفضيل المحتوى على الشكل، ويستند الى معايير أدبية ثابتة في أن يعبّر الأدب عن الحقيقة والجمال والفضيلة، وعن الموسيقى والمشاعر والأفكار الإنسانية، وهي حاجات، ترى الباحثة أنّها ما تزال متطلّبات أساسية في الأدب والفن. وكذلك، حمل نعيمة على الواقعية المحدثة، وعلى الأدب الملتزم، وعلى موضوعات الجنس والرغبات الجسدية، وهو يرى تحرير الأدب في اللغة - والعقول.
الفصل الثالث ورد من غير عنوان، إلا أنّ القارىء يمكن أن يورده تحت عنوان الفتح. وقد توزّع الى عناوين فرعية استناداً الى التقسيم المكاني، ووفقاً للأقطار العربية.
في مصر، تلاحظ الباحثة نزعة تمصير الأدب والذات المصرية، ومن العاملين على ذلك طه حسين وسلامة موسى ومحمد حسين هيكل والعقاد. فالمصريون من سلالة الفراعنة، وثقافتهم هيلينية اغريقية وليست شرقية، و"ليس من شيء، ولا حتى الإسلام، يستطيع أن يمنع العقل المصري من اعادة تبنّي قيم الحضارة الغربية والتقدّم بشكل كامل". وهكذا، تمّ عزل مصر، والذات المصرية، والشعر والنقد المصريين. وهذه الانعزالية هي التي دفعت طه حسين الى نقل زعامة الشعر، بعد شوقي، الى العقّاد، مما جعل مارون عبود يهزأ من طه حسين ومن العقاد.
مارس طه حسين النقد كأستاذ، بشكل فوقي، وقال بالموضوعية مع أنّه أطلق الكثير من الأحكام الذاتية، لم يكترث من شعر الأحياء سوى لشعر حافظ وشوقي، دعا الى المحافظة على الوزن والقافية، فضّل المعنى الدقيق على الموحى به، وقد شكّ بالشعر الجاهلي. أمّا جماعة الديوان شكري والمازني والعقاد، فقد وضعوا أساس النقد الشعري الحديث في مصر. عملوا على تحطيم حصون الكلاسيكية المحدثة، ورأوا أنّ للشعر مقوّمات أساسية أهمّها أن يتغافل في النفس، ويستقي إلهامه من التجربة الإنسانية، وعلى الشعراء أن يبحثوا عن الجوهري في الأشياء، وأن يهملوا شعر المناسبات والأحداث العامّة". إلا ان شعرهم لم يكن بمستوى نظرياتهم، وأنَّ تعبيرهم كان متكلّفاً وليس تلقائياً ايحائياً. ثاروا على شوقي بسبب تقليده، وتفكك قصائده، وولوعه بالأعراض، وتكلّفة، وفقدانه التلقائية.
العراقيون والمشهد الوطني
في العراق، انشغل العراقيون بالمشهد الوطني، ومعظم شعراء العراق صدروا من النجف، والتزموا بالمسائل الوطنية والسياسية والاجتماعية، ومعظم شعرهم منبري ومرتبط بالمناسبات. فالكاظمي هو من أوائل أنصار الحرية في العراق، كلاسيكي تقليدي "لا يضاهيه بنقاء كلاسيكيته حتى شوقي العظيم"، شعره، كسائر الشعر العراقي في زمانه، اتّسم بالوضوح والمباشرة والخطابية والنبرية التعليمية، وهكذا، أيضاً، كان الرصافي هو الشاعر المعلّم، وأكثر الشعراء نزعة وطنية واجتماعية، يغلب على شعره ارتباطه بالمناسبات التي اعتبرها عبود "كوليرا الشعر وطاعون العرب". وكذلك، ترى الباحثة أنَّ الجواهري هو أعظم شاعر عراقي، وأكبر شاعر صوّر حياة العراق المضطربة، وهو "سيّد شعر المناسبات"، وقد تميّز "أسلوبه بفحولةٍ لا مثيل لها في الشعر العربي الحديث".
في سورية، تتكلّم الباحثة على شعر بدوي الجبل، فتشبه أسلوبه بأسلوب البحتري، وتراه مجيداً في شعر المناسبات، خصوصاً في المراثي، وهو ينهل من التراث الشيعي، ومن الشريف الرضي ومهيار الديلمي، مثله مثل جميع الشعراء الشيعة.
أمّا عمر أبو ريشة فيمثل الشباب المتحرّر الرومانسي في شعر الحب والمرأة، وعنده أنّ المرأة بريئة نقية، أو هلوك بغية، برع في الشعر الوطني والقومي، فتغنّى بالأمجاد الإسلامية، وبالتفوّق الحضاري العربي، وتفاعل مع السياسة.
في لبنان، تكلّمت الباحثة على شكيب ارسلان بوصفه شاعراً تقليدياً، تكلّم على الوحدة العربية، وعلى القضايا الوطنية، ودافع عن الإسلام. كما تكلّمت الباحثة على الأخطل الصغير الذي تبيّن لها أنّه حرّر الشعر من جمود الكلاسيكية، وأنّه أدخل الروح الشعبي اللبناني الى الشعر، وأنّه تأثّر بالكلاسيكية وبالرومانسية العربية القديمة، وإذ انتقلت الى الكلام على أمين نخلة، رأت أنّه لم يبلغ مستوى الأخطل، شعره منضبط متوازن، وقريب من الكمال الكلاسيكي في وصفه ابتذال وتقليد، لا حياة فيه ولا اتحاد مع الطبيعة. في شرق الأردن، تكلّمت الباحثة على وهبي التلّ شاعر الغجر الذي عشق الحرية ومجّد الكرامة الإنسانية، الا أنّ شعره مليء بالأغلاط. في فلسطين، تكلّمت الباحثة على ابراهيم طوقان الذي ارتبط شعره بالمناسبات، ودار بعضه على الحب والمرأة والوطنيات، وقد ثار على سماسرة الأراضي، وكان كثير الاهتمام بالقرآن، استخدم في شعره المفارقة والسخرية، الا أنّه انحدر الى المبتذل، وبقيت الطبيعة عنده مسطّحة.
القراءة النقدية
الكتاب تجميع، وعرض بانورامي قاصر ومتخلّف عمّا ورد في بطون الدراسات عن الشعر والنقد منذ عصر النهضة. يأخذ من كلّ شيء بطرف، يقول كلَّ شيء، عن كلّ شيء، ولا يبلّغ شيئاً، التضليل والإرباك ميزتان غالبتان عليه. في المنهج، اختارت الكاتبة المنهج التاريخي لتروي "قصّة العبقرية الشعرية في الزمن الحديث". في زمن شيوع مناهج النقد الجديد، والألسنية، والشكلية، والبنيوية، والتفكيكية، حتّى التاريخية الجديدة، ولم تستفد من أيّ واحدٍ منها، وإذا هي تروي قصّة التخلّف في الشعر والنقد.
في المنهجية. أخفقت الباحثة في توزيع دراستها، فذكرت المقدّمة ضمن الفصل الأوّل، ووزّعت الفصل الى أقسام، والقسم الى أقسام، والواحد الى واحد، وبدا توزيعها مربكاً، لا هو يستند الى مفاصل تغيّرية شعرية نقدية، ولا الى مفاصل تغيّرية خارجية. فإلامَ استندت لتضع الشعر المهجري في الفصل الثاني، وهل هو أكثر تخلّفاً ممّا ورد في الفصل الثالث؟ ولمَ فضّلت هذا التوزيع المكاني، ولمَ لم تختر التوزيع استناداً الى الاتّجاهات والحركات انطباقاً مع عنوان الكتاب؟
في الرؤية الى الشعر الحديث. لم تعيّن الباحثة مفهوم الأفق الذي تطلّ منه الى الشعر والحداثة. واذا كان هذا الوارد في الكتاب هو ضمن الشعر والنقد الحديثين، أو تأسيساً لهما، فإنّ الباحثة تكون مضلّلَةً ومضلِّلة. والى ذلك نضيف أنّها لم تكتشف حقيقة التجديد وموضع مفاصل التغيير، لأنّها اعتمدت ما قرّره سلفاً غيرُها من الباحثين، فأهملت قصيدة "المساء" لمطران مثلاً، وحكمت عليه بأنّه لم يستطع أن ينظر الى الطبيعة سوى نظرة مسطّحة، في حين يعرف "حتّى" طلاب البكالوريا أنّ تلك القصيدة هي طليعة التجديد في الشعر العربي، أمّا جبران فقد اعتبرت الباحثة أنّ عظمته تعود الى ادخاله الرومانسية، ولم تدرك أنّه هو ذلك الأديب الذي يصدر عن رؤيا، وأن حداثته تعود الى أنّه أنسن الدين والله، وارتقى، بالمقابل، بالإنسان الى الألوهة.
في القراءة الاختلافية، تصدر الباحثة من مركزيات عديدة تكشفها قراءة الغياب:
أ - المركزية الدينية والمذهبية، ثمّة مركزية النجف بوصفها مصدر إطلاق الشعراء الشيعة، فضلاً عن مرجعية الشريف الرضي وتلميذه. وثمّة مركزية الأزهر فضلاً عن مركزية التمصير، وثمّة المركزية المسيحية التي أطلقت الشعر المهجري الشمالي وسرّبت الروح المسيحي الى الأدب العربي، فضلاً عن المركزية اللبنانية - السورية.
ب - مركزية الفلسفة المثالية عموماً، والشعر العربي خصوصاً، فهي ترى أنّ للفنّ ومنه الشعر، قيماً جمالية ثابتة أقلّها الحق والخير والجمال، ورؤيتها التحديث الشعري في الحركة التطوّرية من إحياء القديم، الى الكلاسيكية المحدثة، الى الرومانسية المتحرّرة من الميوعة العاطفية، الى الواقعية المحدثة.
إنّ المركزيات المذكورة المحتجبة ضمن ذلك التوزيع المضلّل، جعلت الباحثة تقع في ارباكات وتناقضات كثيرة، وفي أحكام اطلاقية أوردناها على امتداد القراءة الوصفية، فالأزهر، "بلغ أسمى منزلة كمركز للعلم، في القرن الثامن عشر"، وجبران أعظم شخصية أدبية، والجواهري أعظم شاعر، وشوقي أعظم حدث شعري، وعبود أكثر النّقاد حدساً... والباحثة، لم تدرك أنّ الحداثة، إنما قامت على تفكيك المركزيات السلطوية والدينية والاجتماعية والأدبية على اختلافها، وهذا الشعر الذي أرّخت له، قد بقي على ثباته في شكله وبنائه ورؤيته الى العالم، أي بقي ضمن مجال التمركز الشعري الأوّل، ومركزية لم ينجز تفكيكها، انّما الحداثة قامت على تشظّي المركزيات ضد المركزية الواحدة، وعلى النسبية ضد المطلقية، وعلى التغيير ضدّ الثبات، وعلى التعدّدية ضد الوحدة، وكلّ ذلك لا يرد له ذكر، ولا أثر له في أي مفصل تغيّري من المفاصل التي اكتشفتها الباحثة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.