"الداخلية" تستضيف أسر الشهداء والمصابين لأداء مناسك حج هذا العام 1445ه    سعود بن مشعل يستقبل مدير عام المجاهدين    ليان العنزي: نفذت وصية والدي في خدمة ضيوف الرحمن    بحضور تركي آل الشيخ.. نجوم "ولاد رزق 3" يُدشنون العرض الأول للفيلم في السعودية    العنقري يُشارك في اجتماع مجموعة المشاركة للأجهزة العليا للرقابة المالية لمجموعة العشرين في بيليم بالبرازيل    مؤشرات أسواق الأسهم الأمريكية تغلق على ارتفاع    هذا سبب ارتفاع أقساط السيارات في الوقت الحالي    الرئيس المصري يغادر بعد أداء الحج    المملكة.. تهانٍ ممزوجة بالنجاحات    قائد أحب شعبه فأحبوه    في 2025.. ستصبح الشوكولاتة باهظة الثمن !    صادرات النفط السعودية تتراجع إلى 6 ملايين برميل    800 مليار دولار قروض عقارية في الربع الأول    مصادر «عكاظ»: أندية تنتظر مصير عسيري مع الأهلي    مصدر ل«عكاظ»: أبها يرغب في تمديد إعارة الصحفي من العميد    «بيلينغهام» ثالث أصغر هداف إنجليزي    48 درجة حرارة مشعر منى.. لهيب الحر برّدته رحمة السماء    جدة: منع تهريب 466 ذبيحة فاسدة    «ترجمان» فوري ل140 لغة عالمية في النيابة العامة    رسالة لم تقرأ..!    نجاح مدهش اسمه «إعلام الحج»    بعوضة في 13 دولة تهدد إجازتك الصيفية !    نظرية الحج الإدارية وحقوق الملكية الفكرية    فخر السعودية    وفود وبعثات الحج: المملكة تقود الحج باقتدار وتميز وعطاء    بديل لحقن مرضى السكري.. قطرات فموية فعّالة    5 مثبطات طبيعية للشهية وآمنة    فخ الوحدة ينافس الأمراض الخطيرة .. هل يقود إلى الموت؟    يورو 2024 .. فرنسا تهزم النمسا بهدف ومبابي يخرج مصاباً    أمطار الرحمة تهطل على مكة والمشاعر    منهج مُتوارث    فرنسا تهزم النمسا في بطولة أوروبا    مدرب رومانيا: عشت لحظات صعبة    الاتحاد الأوروبي يفتح تحقيقاً ضد صربيا    القبض على إثيوبي في عسير لتهريبه (34) كيلوجراماً من مادة الحشيش المخدر    رئيس مركز الشقيري يتقدم المصلين لأداء صلاة العيد    ولي العهد: نجدد دعوتنا للاعتراف بدولة فلسطين المستقلة    السجن والغرامة والترحيل ل6 مخالفين لأنظمة الحج    نائب أمير منطقة مكة المكرمة يستقبل مدير عام الدفاع المدني المكلف وقائد قوات أمن المنشآت    وزارة الداخلية تختتم المشاركة في المعرض المصاحب لأعمال ملتقى إعلام الحج    وزير الصحة يؤكد للحجيج أهمية الوقاية بتجنّب وقت الذروة عند الخروج لأداء ما تبقى من المناسك    د. زينب الخضيري: الشريك الأدبي فكرة أنسنت الثقافة    تصادم قطارين في الهند وسفينتين في بحر الصين    «الهدنة التكتيكية» أكذوبة إسرائيلية    2100 رأس نووي في حالة تأهب قصوى    القبض على إثيوبي في الباحة لترويجه مادة الإمفيتامين المخدر    الرئيس الأمريكي يهنئ المسلمين بعيد الأضحى    نائب أمير مكة المكرمة يطلع على خطط أيام التشريق    فيلم "ولاد رزق 3" يحطم الأرقام القياسية في السينما المصرية بأكثر من 18 مليون جنيه في يوم واحد    تراجع أسعار النفط والذهب    51.8 درجة حرارة المنطقة المركزية بالمسجد الحرام    عروض الدرعية تجذب الزوار بالعيد    "الصحة" للحجاج: تجنبوا الجمرات حتى ال4 عصراً    عيد الأضحى بمخيمات ضيوف الملك ملتقى للثقافات والأعراق والألوان الدولية    موسكو تحذّر كييف من رفض مقترحات السلام    كاليفورنيا ..حرائق تلتهم الغابات وتتسبب بعمليات إجلاء    الاحتلال الإسرائيلي يحرق صالة المسافرين بمعبر رفح البري    قتل تمساح ابتلع امرأة !    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



المثقفون والسلطة في القرن الخامس من العهد الاندلسي . فقه ابن حزم تراجع ... اما فلسفته فصمدت 2 من 2
نشر في الحياة يوم 07 - 06 - 1998

انطلقت فلسفة ابن حزم من منهجه الفقهي، واتخذ منه الدليل الحسي على ترتيب اسلوب تفكيره المنطقي في عقل الاشياء وحلها في حقل الاجتهاد. فهو يرى ان "كلام الله تعالى واجب ان يُحمل على ظاهره، ولا يحال عن ظاهره البتة الا ان يأتي نص او اجماع او ضرورة حسّ، على ان شيئاً منه ليس على ظاهره، وانه قد نقل عن ظاهره الى معنى آخر، فالانقياد واجب علينا لما أوجبه من ذلك النص او الاجماع او الضرورة" كتاب الفصل، الجزء الثاني، ص300 - 301.
فالاجتهاد عنده هو ظاهر القرآن ويقوم على ثلاثة مصادر: النص والاجماع والضرورة.
يتفق كل المجتهدين على الكتاب والسنة النص والاجماع الا ان مسألة الضرورة ويسميها احياناً "ضرورة حس" وأحياناً "برهان ضروري" فهي خاصة بفقه ابن حزم "الظاهري". فأصحاب الظاهر الظاهرية، كما يذكر الشهرستاني، وهو على المذهب الشافعي، لا يأخذون بالقياس والاجتهاد في الاحكام. وحدد مؤسس الظاهرية داود بن علي بن محمد الاصفهاني اصول الاجتهاد في الكتاب والسنة والاجماع فقط و"منع ان يكون القياس اصلاً من الاصول ... وظن ان القياس امر خارج عن مضمون الكتاب والسنة. ولم يدر انه طلب حكم الشرع من مناهج الشرع، ولم تنضبط قط شريعة من الشرائع الا باقتران الاجتهاد بها، لأن من ضرورة الانتشار في العالم الحكم بأن الاجتهاد معتبر". الملل والنحل، الجزء الأول صفحة 206.
رفض ابن حزم الأخذ بالقياس واستبدله بالحس او الضرورة كأساس في منهجه الفقهي. وتميز بذلك عن مختلف الائمة والفقهاء في اصول الاجتهاد عندهم الذي قام على أربعة اركان: الكتاب، والسنة، والاجماع، والقياس.
اعتبر الاجتهاد في الاسلام من فروض الكفايات فاذا اشتغل بتحصيله واحد سقط الفرض عن الجميع، وأجمل الشهرستاني شروطه في خمسة:
اولاً، معرفة اللغة العربية حتى يمكن التمييز بين الألفاظ.
ثانياً، معرفة القرآن وتفاسيره وما ورد من الاخبار في معاني الآيات حتى تستنبط الاحكام.
ثالثاً، معرفة الاخبار بمتونها وأسانيدها والاحاطة بأحوال النقلة والرواة.
رابعاً، معرفة مواقع اجماع الصحابة والتابعين وتابعي التابعين.
خامساً، معرفة مواضع الاقيسة وكيفية النظر والتردد فيها. الملل والنحل، الجزء الاول، صفحات 198 - 207.
وعلى رغم الضوابط الشرعية التي اتفق عليها لتحديد صفة المجتهد اختلف المجتهدون في الفروع وفي احكامهم من الحلال والحرام بسبب انقسام الأئمة الى مدرستين: اصحاب الحديث اهل الحجاز وهم اصحاب مالك بن أنس، ومحمد بن ادريس الشافعي، وسفيان الثوري، وأحمد بن حنبل، وصاحب المذهب الظاهري داود الاصفهاني. وأصحاب الرأي اهل العراق وهم اصحاب ابي حنيفة النعمان بن ثابت ومن ذهب معه.
اختلف اصحاب الحديث عن اصحاب الرأي لأنهم اعتنوا بتحصيل الاحاديث ونقل الاخبار وبناء الاحكام على النصوص من دون عودة الى القياس في حال وجدوا خبراً أو اثراً. واختلف اصحاب الرأي عن اصحاب الحديث لأنهم اعتنوا أكثر في تحصيل وجه القياس واستنباط المعاني من الاحكام وبناء الحوادث عليها، وأحياناً يقدمون القياس على آحاد الاخبار.
أدى الاختلاف بين المدرستين الى نشوء اختلافات كثيرة في الفروع شجعت على قيام محاولات توفيقية بين اصحاب الحديث وأصحاب الرأي ابرزها محاولة الامام الشافعي التي تابعها الامام الاشعري ابو الحسن بعد انشقاقه عن المعتزلة وأضاف اليها لاحقاً علم الكلام ثم جاء بعده الباقلاني والجويني استاذ الامام الغزالي ابو حامد.
وضع ابن حزم مؤلفاته الفقهية - الفلسفية قبل ان يولد الغزالي، لذلك تركز سجاله ضد الامامين ابو حنيفة والاشعري بصفتهما من اصحاب الرأي وهو من اصحاب الحديث. وانتقد اصحاب الحديث ايضاً لأنهم يأخذون بالقياس بينما هو من اصحاب داود الاصفهاني الذي يرفض التأويل القياسي ويميل الى الاجتهاد العقلاني على اساس ظاهر النص الكتاب، السنة لا باطنه. فالكتاب "هو جامع علوم الأولين والآخرين" الفصل، جزء 2، ص234. ونص في غير موضع "على اصول البراهين" جزء 2، ص236. وبالتالي فان "كل ما صح ببرهان اي شيء كان فهو في كلام الله عز وجل" جزء 2، ص238. ولا تعارض بين ما يصح بالدليل البرهاني الادلة البرهانية وآيات الكتاب، لأن "ما قامت عليه البراهين فهو في القرآن والسنة موجود نصاً، واستدلالاً ضرورياً" جزء 2، ص240.
انطلاقاً من قاعدة "البرهان الضروري" وهو عنده ضروري سمعي، او نظري مشاهد، او اقناعي خارجي، يعقد ابن حزم مصالحة بين الشريعة والحكمة ويفسر الآيات والاحاديث علمياً استناداً الى الادلة البرهانية العقلية في عصره. وكلها برأيه تؤكد ما جاء به الكتاب.
ويهاجم بعنف كل تفكير خرافي وغير برهاني وينتقد الطرق الثلاثة التي دافعت عن الشريعة "إما بألفاظ ينقلون ظاهرها ولا يعرفون معانيها ولا يهتمون بفهمها، وإما بمسائل من الاحكام لا يشتغلون بدلائلها ومنبعها ... وإما بخرافات منقولة عن كل ضعيف وكذاب وساقط، لم يهتبلوا قط بمعرفة صحيح منها من سقيم ولا مرسل من مسند ..." جزء 2، ص234.
ويطرح ابن حزم الى جانب البراهين الضرورية فكرة "تآلف الآيات" اي الأخذ بالآيات كلها كدليل على اصل او لاثبات الاشياء او نفي وجودها و"من جمعها كلها فقد آمن بجميعها" وأخذها كوحدة كلية للرد على شبهة او لتأكيد حقيقة او دحض خرافة كتلك التي اطلقتها طائفة جاهلة تقول ان "الأرض على حوت، والحوت على قرن ثور، والثور على صخرة ..." جزء 2، ص236.
ووفق منهج "تآلف الآيات" والحس العقلي والبراهين الضرورية يبدأ ابن حزم في تقديم تفسير علمي للكون، والفلك، والأرض وكرويتها، والدوران، والحركة مستخدماً الآيات وحدتها الكلية من جهة والحس العقلي البرهان الضروري من جهة اخرى كدلالات على صحة هذا الامر او خطأ ذاك. وتوصل الى نتائج عقلية فائقة الاهمية قياساً الى عصره وزمانه خصوصاً من ناحية تأكيده على كروية الأرض، وغياب الشمس وشروقها، ورفضه تحديد عمر الأرض "ومن ادعى في ذلك سبعة آلاف سنة او اكثر او اقل فقد كذب" جزء 2، ص258.
يؤمن ابن حزم بأن هناك بداية ونهاية الا انه يرفض تحديد زمن للبداية وتحديد ساعة للنهاية، فذلك يتنافى مع الكتاب والسنة ويتعارض مع الأدلة البرهانية والحس العقلي والضرورة اضافة الى المعلومات والوقائع التاريخية. كيف يكون عمر الأرض 7 آلاف سنة بينما يقول فاتح الهند محمود بن سبكتكين الغزنوي توفي 421 هجرية انه وجد في الهند مدينة يؤرخون لها بپ400 الف سنة. ويستنتج انطلاقاً من هذه المعلومة الدليل البرهاني على ان قدم الأرض ابعد من كل الفرضيات المتداولة في عصره. على رغم حذره الشديد في تفسير كل ظاهرة، تورط ابن حزم في تأويلات علمية برهانية مستخدماً في اثباتها بعض الآيات القرآنية والاحاديث النبوية كتفسير قوله تعالى "وكُل في فلك يسبحون" فذكر انها "برهان ضروري" يشاهد بالعيان على ان الشمس تدور حول الأرض "من مشرق الى مغرب، ثم من مغرب الى مشرق" جزء 2، ص244. فهو في تفسيره للآية استند على الحواس التي هي برأيه "المنافذ الموصلة" على العالم والنفوس البشرية فرأى ان الشمس تدور وليس الأرض تسبح اي تدور حول الشمس. آنذاك كانت مختلف النظريات العلمية تؤكد على مركزية الأرض وهي نظريات استخدمها ابن حزم لتقديم تفسير جديد للقرآن في ضوء علوم عصره وهو امر يعتبر بمقاييس زمانه خطوة متقدمة فتحت الطريق امام غيره من الأئمة والعلماء والفقهاء للخوض في هذه الحقول من دون تردد.
لم يتردد ابن حزم في استخدام آخر الاكتشافات العلمية في عصره كمفاتيح لاعادة تفسير الآيات والاحاديث بمنطق عقلي ومنهج برهاني. فالأدلة العلمية هي أدلة برهانية لا تتعارض مع الايمان والشريعة بل هي اثباتات ملموسة لصحة العقيدة. لذلك يستنكر الاتجاهات المضادة للعلوم والمعرفة ويمتدح فوائد تلك الكتب في حال فهمت على حقيقتها وأصولها. وبرأيه انها في الجوهر لا تتعارض مع الشريعة، فهي في معناها وثمرتها "والغرض المقصود نحوه بتعلمها، ليس هو شيئاً غير اصلاح النفس" وهي تستعمل "في دنياها الفضائل وحسن السيرة المؤدية الى سلامتها في المعاد، وحسن السياسة للمنزل والرعية"، وهذا هو نفسه "لا غيره هو الغرض في الشريعة" وهذا ما لا خلاف "فيه بين احد العلماء بالفلسفة، ولا بين احد من العلماء بالشريعة". وبرأيه كل من زعم الانتماء الى الفلسفة وأنكر الشريعة جاهل "على الحقيقة بمعاني الفلسفة" وبعيد عن "الوقوف على غرضها ومعناها" الفصل، الجزء الأول، صفحة 171.
بهذا الوضوح حدد ابن حزم لقاء الفلسفة مع الشريعة، فحدود اللقاء هي مقاصد الفلسفة وغرض الشريعة وفي معناهما محاربة الرذائل وتبيان الفضائل والبرهان على الحق وتفرقته عن الباطل يلتقيان على اكثر من صعيد وحقل. لذلك اعتبر كل من يحارب الشريعة باسم الفلسفة هو على خطأ لأنه لا يفهم الفلسفة ولا يعرف الشريعة.
لم يقصد ابن حزم في دفاعه عن الفلسفة الدفاع عن الفلاسفة بل قصد تبيان ان غرضها هو غرض الشريعة. فالتركيز على فكرة اللقاء لا تعني عنده التوفيق الى درجة التركيب والدمج بل قصده منها الغاء التعارض وتبيان درجات الاتصال بين مقاصد الفلسفة وأغراض الشريعة واستخدام الأدلة البرهانية لاثبات الحقائق الكلية التي جاءت في الكتاب والسنة باجماع الأئمة. فالحق عنده واحد لا ينقسم وطريقه لا يحتمل التعدد فهو "بموجب العقل وضرورته" لا يكون الحق "من الأقوال المختلفة والمتناقضة الا في واحد، وسائرها باطل ... اذ ما لا دليل على صحته فهو باطل" الفصل، الجزء الأول، صفحة 174.
واستناداً الى الحس والعقل والضرورة اكد ابن حزم على وحدة الحقيقة وألغى تعدد طرقها. فالحقيقة الواحدة لا بد لها من وسيلة واحدة ولا مجال عنده لتعدد الطرائق. وبرأيه لا مجال "ان تكون الشرائع كلها حقاً"، ولا مجال "ان يكون بعضها حقاً وسائرها باطلاً" فهذا "محال لا سبيل اليه" لأنه "لا شريعة منها الا وهي تكذب سائرها" كذلك "كل شريعة فهي مضادة في احكامها لغيرها" ومن المحال "ان يكون الشيء وضده حقاً معاً في وقت واحد" الفصل، الجزء الأول، صفحة 174.
بانكار ابن حزم تعدد الحق وطرائقه قام بدحض كل ما يتعارض مع الشريعة الاسلامية ما خالف القرآن فهو باطل مستخدماً منهج المقارنة بين النص القرآني والنصوص الدينية المخالفة في التوراة والانجيل وانتهى الى فرضيات عقلية تقول أن نصوص التوراة تعرضت للتزوير والتحريف وهي غير تلك النصوص الاصلية المنزلة. فالحرام هو حرام ولا يمكن تعدده او تغيره بين شريعة وأخرى كذلك الحلال وغيره من احكام. وانتقل بعدها الى مساجلة المنظومات الفقهية الاسلامية وآراء الفرق والمذاهب الاسلامية او الخارجة على الإسلام للتأكيد في النهاية على وحدة الحقيقة او الحقيقة الواحدة التي لا يجوز الجمع فيها بين الحق والباطل او بين الحلال هنا والحرام هناك. ويختلف ابن رشد عن ابن حزم في هذه المسألة فقاضي قرطبة يقول بوحدة الحقيقة لكنه يرى ان الطرق اليها متعددة.
وحتى ينسجم ابن حزم مع منظومته الفكرية حدد مصادر الحقيقة بستة أقسام ثلاثة على صواب وثلاثة على خطأ اولها "شيء ينقله اهل المشرق والمغرب عن امثالهم جيلاً جيلاً، لا يختلف فيه مؤمن ولا كافر، منصف غير معاند للمشاهدة، وهو القرآن المكتوب في المصاحف في شرق الأرض وغربها...". وثانيها "شيء نقلته الكافة عن مثلها حتى يبلغ الامر كذلك الى رسول الله صلى الله عليه وسلم". وثالثها "ما نقله الثقة عن الثقة كذلك حتى يبلغ به الى النبي صلى الله عليه وسلم" الفصل، الجزء الثاني، صفحات 219 - 221.
الى هذه الاقسام الثلاثة "التي نأخذ ديننا منها، ولا نتعداها الى غيرها" هناك ثلاثة اقسام اضافية اخذ بها غيره من الفقهاء والعلماء ورفض هو الأخذ بها وهي:
أولاً "شيء نقله اهل المشرق والمغرب او الكافة عن الواحد الثقة عن امثالهم الى ان يبلغ الى من ليس بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم الا واحد فأكثر، فسكت ذلك المبلوغ اليه عن من اخبره بتلك الشريعة...".
ثانياً "شيء نقل، كما ذكرنا، اما بنقل اهل المشرق والمغرب، او كافة عن كافة، او ثقة عن ثقة حتى يبلغ الى النبي صلى الله عليه وسلم الا ان في الطريق رجلاً مجروحاً يكذب او غفلة، او مجهول الحال...".
ثالثاً "نقلٌ نُقِلَ بأحد الوجوه التي قدمنا، اما بنقل من بين المشرق والمغرب او بالكافة، او بالثقة عن الثقة، حتى يبلغ ذلك الى صاحب او تابع، او إمام دونهما - انه قال كذا، او حكم بكذا غير مضاف ذلك الى رسول الله صلى الله عليه وسلم...". الفصل، الجزء الثاني، صفحة 222.
هناك من المسلمين من يأخذ بالاقسام الثلاثة الاخيرة ومنهم من لا يأخذ بها، وإبن حزم من الصنف الذي لا يأخذ بها. وبسبب اختلافه المنهجي قام باضافة الفرق الاسلامية الى اليهودية والمسيحية في مساجلاته ونقاشاته العقائدية فأنتج ثروة فكرية هائلة الحجم كان لها تأثيرها الكبير في جيله وعصره وتركت علامات كثيرة على المدارس الفقهية والفلسفية التي جاءت بعده. وتعدت تأثيرات ابن حزم النطاق الاسلامي فترجمت بعض اعماله الى اللغات الأوروبية واعتبرت حتى القرن الثامن عشر الميلادي من اهم المصادر الفكرية في حقل علم المقارنة بين الديانات السماوية الثلاث كذلك في توضيح اختلافات الفرق الاسلامية وتمايز افكارها ومناهجها ومنابعها.
على هذا الأساس أسس ابن حزم اختلافه عن المدارس الفقهية المنتشرة آنذاك في الاندلس خصوصاً المالكية اصحاب مالك والشافعية اصحاب الشافعي انطلاقاً من العمل "بظاهر القرآن وبظاهر السنن الثابتة". الفصل، الجزء الثاني، ص232.
وبسبب اختلاف فلسفة الفقه في منهجه اقدم على تصنيف فرق الاسلام الى خمس وهي: أهل السنة، المعتزلة، المرجئة، الشيعة، والخوارج، ثم "افترقت كل فرقة من هذه على فرق" الفصل، الجزء الثاني، ص265. وتدرجت الفرق الأربع من اقترابها او ابتعادها عن اهل السنة. واعتبر اقرب فرق المرجئة الى اهل السنة من ذهب مذهب ابي حنيفة النعمان بن ثابت والقول بأن الايمان "هو التصديق باللسان والقلب معاً، وان الاعمال انما هي شرائع الايمان وفرائضه فقط" وأبعدهم اصحاب جهم بن صفوان وأبو الحسن الاشعري. واتهم الامام الاشعري بأنه من القائلين "ان الايمان عقد بالقلب فقط، وان اظهر الكفر والتثليث بلسانه" الفصل، جزء 2، ص266. ورد الأئمة والفقهاء على ابن حزم لاحقاً واتهموه بقلة المعرفة وعدم الاطلاع على مؤلفات الاشعري.
الى الخلاف الفرقي، صنف خلافات المسلمين على مسائل عقائدية حددها بسبع وهي: التوحيد، القدر، الايمان، الوعيد، الامامة، المفاضلة، واللطائف. فقام بتوضيح كل خلاف وتحديد الفروق انطلاقاً من منهجه الفقهي. الفصل، جزء 2، ص175.
تقوم فلسفة الفقه عند ابن حزم على منظومة هرمية تبدأ بالأول وهو "الباري تعالى محرك المتحركات ومصور المتصورات" وبالتالي فالعالم والزمن والحركة كلها محدثات وليست قديمة. فالحركة والسكون مدة و"المدة زمان" و"ان الزمان محدث، فالحركة محدثة، كذلك السكون". الفصل، الجزء الثاني، ص280. وهناك حامل للكل وممسك للكل وهو "الله عز وجل" الفصل، جزء 2، ص292. وينفي الصفات ويتهم المعتزلة باختراع اللفظة وينكر على بعض الأئمة من الفقهاء من اخذ بها. فعلم الله غير مخلوق و"ان علمه تعالى بالأشياء كلها متقدم لوجودها ولكونها ضرورة" الفصل، جزء 2، صفحة 297. فالعلم لا يتبدل بل المعلوم لذلك "لا يجوز الكلام في النتيجة الا بعد اثبات المقدمات، فان ثبتت المقدمات ثبتت النتيجة، والبرهان لا يعارضه برهان ... وإن لم تصح المقدمات فالنتيجة باطلة دون تكلف دليل". الفصل، الجزء الثاني، صفحة 299.
تميز منهج ابن حزم بالقطع فهو يأخذ ظاهر القرآن والسنة وتآلف الآيات ويرفض القياس وخبر الواحد ويؤكد على العقل والحس والضرورة والبرهان والادلة كأدوات تحليل وتركيب للمقدمات والنتائج. فهو يكرر دائماً مفردات "العقل" في نصوص مختلفة عند تأييده لفكرة او نفيه لأخرى مثل "هذا لا يعقل ولا يقوم عليه دليل" او هذه "دعوى مجردة بلا دليل" او "هذا محال في العقل" وصولاً الى انتاج قاعدة نظرية عامة تقول: "من ادعى دعوى لا يأتي عليها بدليل فهي باطلة. فكيف اذا ابطلها الحس وضرورة العقل" الفصل، الجزء الثاني، صفحة 300.
انتهت فلسفة الفقه عند ابن حزم الى فشل الجانب الفقهي من مشروعه حين تجاوز الزمن امثلته، ورفض اتباع المذهب الظاهري الأخذ بالقياس لتجديد التفسير فتراجع تأثير اصحاب المذهب وتقلص انصاره وصولاً الى اضمحلاله، بينما نجح الجانب الفلسفي والسجالي من المشروع في التأثير في اجيال اندلسية لاحقة في بلد عرف بتعدده الحضاري وتنوعه الديني والمذهبي وتعرضه المستمر الى حملات من الفرنجة. كذلك اثرت نظريات الأدلة الحسية والبرهانية في من جاء بعده. فالأدلة البرهانية تحولت عند ابن رشد الى علم برهاني، وعلم المقارنة استخدمه قاضي قرطبة في عقد مقارنة بين المذاهب الفقهية الاسلامية. وشجعت جرأة ابن حزم وشخصيته الصدامية ونقده العنيف للاشاعرة وبعض الأئمة ابن رشد على التهجم على الاشعرية وقدحه لشخصية الامام الغزالي وتحريضه السلطة على مصادرة كتب الاشاعرة وحرق مؤلفات الغزالي ما أثار على قاضي قرطبة العامة والخاصة فأقدم الحاكم المنصور على مصادرة بعض كتب ابن رشد وحرق بعضها.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.