33 ألف منشأة تحت المراقبة استعدادًا للحج    أمير الرياض يرعى تخرج المعاهد والكليات التقنية    كاميرات سيارات ترصد العوائق بسرعة فائقة    الصمعاني: دعم ولي العهد مسؤولية لتحقيق التطلعات العدلية    جامعة "المؤسس" تعرض أزياء لذوات الإعاقة السمعية    "أكنان3" إبداع بالفن التشكيلي السعودي    وصول أول فوج من حجاج السودان    رياح مثيرة للأتربة والغبار في 5 مناطق وفرصة لهطول الأمطار على الجنوب ومكة    اكتمال عناصر الأخضر قبل مواجهة باكستان    الخريجي يشارك في مراسم تنصيب رئيس السلفادور    أمير تبوك يعتمد الفائزين بجائزة المزرعة النموذجية    السعودية و8 دول: تمديد تخفيضات إنتاج النفط حتى نهاية 2025    «التعليم» تتجه للتوسع في مشاركة القطاع غير الربحي    «نزاهة»: إيقاف 112 متهماً بالفساد من 7 جهات في شهر    المؤسسات تغطي كافة أسهم أرامكو المطروحة للاكتتاب    الطائرة ال51 السعودية تصل العريش لإغاثة الشعب الفلسطيني    السفير بن زقر: علاقاتنا مع اليابان استثنائية والسنوات القادمة أكثر أهمية    محمد صالح القرق.. عاشق الخيّام والمترجم الأدق لرباعياته    نتنياهو.. أكبر عُقدة تمنع سلام الشرق الأوسط    عبور سهل وميسور للحجاج من منفذي حالة عمار وجديدة عرعر    نوبة «سعال» كسرت فخذه.. والسبب «الغازيات»    في بطولة غرب آسيا لألعاب القوى بالبصرة .. 14 ميدالية للمنتخب السعودي    زلزال بقوة 5,9 درجات يضرب وسط اليابان    المملكة تستضيف بطولة العالم للراليات تحت مسمى "رالي السعودية 2025"    الكعبي.. الهداف وأفضل لاعب في" كونفرنس ليغ"    رونالدو يغري ناتشو وكاسيميرو بالانضمام للنصر    القيادة تهنئ الشيخ صباح الخالد بتعيينه ولياً للعهد في الكويت    الحجاج يشيدون بخدمات « حالة عمار»    ..و يرعى حفل تخريج متدربي ومتدربات الكليات التقنية    نقل تحيات القيادة وأشاد بالجهود الأمنية.. الأمير عبدالعزيز بن سعود يدشن مشروعات «الداخلية» في عسير    حجاج الأردن وفلسطين : سعدنا بالخدمات المميزة    حجب النتائج بين ضرر المدارس وحماس الأهالي    بدء تطبيق عقوبة مخالفي أنظمة وتعليمات الحج    سائقو الدبَّابات المخصّصة لنقل الأطعمة    ماذا نعرف عن الصين؟!    الاحتلال يدمر 50 ألف وحدة سكنية شمال غزة    مزايا جديدة لواجهة «ثريدز»    انضمام المملكة إلى المبادرة العالمية.. تحفيز ابتكارات النظم الغذائية الذكية مناخيا    هذا ما نحن عليه    هنأ رئيس مؤسسة الري.. أمير الشرقية يدشن كلية البترجي الطبية    إطلاق اسم الأمير بدر بن عبدالمحسن على أحد طرق مدينة الرياض    الصدارة والتميز    9.4 تريليونات ريال ثروة معدنية.. السعودية تقود تأمين مستقبل المعادن    توبة حَجاج العجمي !    "فعيل" يفتي الحجاج ب30 لغة في ميقات المدينة    الأزرق يليق بك يا بونو    تقرير يكشف.. ملابس وإكسسوارات «شي إن» سامة ومسرطنة    أمير نجران يشيد بالتطور الصحي    نمشي معاك    11 مليون مشاهدة و40 جهة شريكة لمبادرة أوزن حياتك    أمير الشرقية يستقبل رئيس مؤسسة الري    الهلال الاحمر بمنطقة الباحة يشارك في التجمع الصحي لمكافحة التدخين    مسبار صيني يهبط على القمر    «طريق مكة».. تقنيات إجرائية لراحة الحجيج    «إخفاء صدام حسين» يظهر في بجدة    فيصل بن مشعل يرعى حفل تكريم معالي رئيس جامعة القصيم السابق    توافد حجاج الأردن وفلسطين والعراق    مدينة الحجاج بحالة عمار تقدم خدمات جليلة ومتنوعة لضيوف الرحمن    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



خمسون عاماً على حرب 1948 : دنيا الاساطير ودنيا الواقع 1 من 9
نشر في الحياة يوم 15 - 05 - 1998

} في مثل هذا التاريخ منذ خمسين عاماً تسارعت احداث جسام لتبدّل خلال ساعات معالم مشرقنا ومصير امتنا منذئذ، ذلك انه عند منتصف ليل 14 - 15 أيار مايو 1948 انتهى عهد الانتداب البريطاني المشين على فلسطين وأعلنت "لجنة الشعب التنفيذية" الصهيونية مينهيليت هاعام في تل أبيب قيام دولة عبرية باسم "اسرائيل"، واعترف الرئيس غير المنتخب القابع الطامح في البيت الأبيض بالكيان الوليد خلال 11 دقيقة من ظهوره فحسب وتحركت وحدات من جيوش سورية شرق الأردن والعراق ومصر ولبنان نحو حدود فلسطين الدولية ممارسة لحقها المكرّس في ميثاق الأمم المتحدة في صون امنها الاقليمي واندلعت اولى الحروب النظامية بين الصهيونية والدول العربية وهي التي اصطلحنا على تسمية آثارها بپ"النكبة" ودرج المنتصِر على تسميتها بپ"حرب الاستقلال".
وعكست روايتا الطرفين لمجرى القتال وموازين القوى بينهما اساطير حاكها كل منهما توكيداً لرفعة موقعه الادبي والمعنوي تجاه الآخر شأنهما في ذلك شأن جل المتنازعين في الثورات والحروب عبر التاريخ وظهرت اساطير الصهيونية على اساطيرنا ظهور جيوشها في ساحة القتال ولفّت العالم الغربي وترسّخت في ضميره ووجدانه شاهداً رديفاً لما سبقه من شواهد على سموها الاخلاقي في نظر الغرب علينا.
وحري بنا بادئ ذي بدء ان نفصّل المراحل الزمنية الرئيسية لحرب 1948 تسهيلاً على القارئ لمتابعة ما سيلي وذلك قبل التطرق الى اساطير كلينا ذلك ان مجرى الحرب ينقسم الى مراحل خمس رئيسية:
اولاً: مرحلة القتال التي امتدت من 15 أيار مايو 1948 لغاية قيام الهدنة الأولى في 11 حزيران يونيو.
ثانياً: مرحلة الهدنة الأولى الموقتة من 11 حزيران 1948 لغاية 8 تموز يوليو 1948.
ثالثاً: مرحلة القتال الثانية التي امتدت من 8 لغاية 18 تموز 1948.
رابعاً: مرحلة الهدنة الثانية الموقتة التي تخللتها بعض اعنف فترات القتال التي شهدتها الحرب بأسرها وهي مرحلة امتدت من 18 تموز لغاية بدء اولى المفاوضات حول هدنة دائمة في 5 كانون الثاني يناير 1949 بين مصر واسرائيل التي وُقّع عليها في 25 شباط فبراير 1949.
خامساً: مرحلة سلسلة المفاوضات حول هدنة دائمة. بين سائر الاطراف العربية واسرائيل وامتدت من 5 كانون الثاني 1949 لغاية 20 تموز 1949 وشملت اتفاق الهدنة الدائمة بين لبنان واسرائيل 23 آذار/ مارس 1949 واتفاق الهدنة الدائمة بين شرق الأردن واسرائيل 3 نيسان/ ابريل 1949 واتفاق الهدنة الدائمة بين سورية واسرائيل 20 تموز 1949 علماً بأن العراق سحب جيشه من منطقة تمركزه في جبال نابلس من دون التوقيع على هدنة دائمة مع اسرائيل. وكان انسحابه قبيل عقد اتفاق الهدنة الدائمة بين شرق الأردن واسرائيل. وشاهدت هذه المرحلة الخامسة من 5 كانون الثاني 1949 - لغاية 20 تموز 1949 تقدم القوات الاسرائيلية لتحتل مساحات شاسعة من فلسطين في وسطها وشمالها وجنوبها رغماً عن استمرار مفاوضات الهدنة الدائمة مع الاطراف العربية العدة.
لنعد الآن الى الرواية الاسطورية الصهيونية ثم العربية، اما الرواية الصهيونية ففحواها انه ما كادت الدولة العبرية الرضيعة المكوّنة من 650.000 نسمة فحسب ان تفتح عينيها لتستقبل نور الحياة حتى اقتحمتها جيوش عربية جرّارة تمثل 40 مليون نسمة تابعة لخمس دول عربية مستقلة تتمتع بطاقات الدول وقدراتها المعهودة مدججة بأحدث اسلحة الجيوش النظامية وأشدها فتكاً من طائرات قاصفة ومقاتلة ودبابات ومدفعية ثقيلة تدعمها بريطانيا العظمى التي عقدت النية على خنق الدولة الجنينة في مهدها وأخذت تمد هذه الجيوش بما تحتاجه لتحقيق هذا الهدف وان الضحية المستهدفة رغم تفوق الجيوش الغازية عليها عدداً وعتاداً وأسلحة وموارد وعلاقات دولية تمكنت ليس فقط من الصمود امامها بل ومن دحرها ايضاً وما ذلك الا لكون الحق الى جانب الصهيونية وبسبب روعة مقاومة المدافعين وبطولتهم المستلهمتين من قيم المجتمع اليهودي في فلسطين الاخلاقية والأدبية الرفيعة.
وبالمقابل كانت ابرز الروايات العربية الاسطورية عن حرب 1948 وأكثرها تداولاً وتواتراً الى يومنا هذا رواية فحواها ان القوى الصهيونية كانت مجرد عصابات ارهابية اطبقت عليها الجيوش العربية في مرحلة القتال الأولى 15 أيار لغاية 11 حزيران من كل صوب فتوغلت في اعماق فلسطين ووصلت طلائع الجيش المصري الى ضواحي تل أبيب الجنوبية وطلائع الجيش العراقي الى قاب قوسين او ادنى من شاطئ البحر المتوسط غرب قلقيلية وطولكرم وطلائع الجيش العربي الأردني الى ضواحي تل أبيب الغربية ولم تبق سوى حفنة أيام معدودات تسدد الضربة القاضية فيها على العدو ويحسم الأمر ناجزاً وإذ بالضغوط الدولية تتراكم وتتصاعد وتصل حداً من التهديد والوعيد انقاذاً له لا تترك سبيلاً للحكومات العربية سوى الرضوخ لها وتُفرض الهدنة الأولى فرضاً عليها وينتزع الكيان الصهيوني النجاة من فكيّ هزيمة محتومة لا مفرّ آخر له منها.
بيد ان دنيا الاساطير شيء ودنيا الواقع المرّ شيء آخر كلياً وهو ما ادكرته في وقت مبكر في اعقاب النكبة مباشرة عصبة من مفكري العرب وعلى رأسهم قسطنطين زريق وساطع الحصري وموسى العلمي وجورج حنا في كتابات سبرت اغوار الخلل المجتمعي العربي سبراً محكماً وهو خلل انبثقت من جذوره الدفينة اسباب هزيمتنا الحقيقية ولكنها كتابات على رغم رواجها لم تتمكن من طمس اساطيرنا عما حصل في حرب 1948 ودفنها الى الأبد.
والواقع خلافاً للرواية الصهيونية ان الكيان اليهودي في فلسطين عشية 15 أيار 1948 لم يكن ذاك الوليد الرضيع الهش بل كان مجتمعاً عصرياً غربياً صناعياً متماسكاً ينبض بالحيوية مضى على تكوينه سبعة عقود منذ بدء الاستيطان الصهيوني في مطلع ثمانينات القرن التاسع عشر بفضل المنظمة الصهيونية العالمية وتجذّرت قواعده خلال ثلاثة عقود من الانتداب والحماية البريطانية منذ نهاية الحرب الكونية الأولى وكان قبل الاعلان عنه كدولة ليلة 14 - 15 ايار دولة بكل معنى الكلمة لا ينقصها سوى التسمية، لها من اسباب القوة والمناعة الاجتماعية والفكرية والاقتصادية والسياسية والعسكرية والدولية ما لم يكن لأي من الدول العربية المجاورة كما بيّنا في غير هذا الموضع، ولم تقتصر "رعيّة" الكيان اليهودي في فلسطين في يوم من الأيام على من فيه من يهود بل شملت بفضل المنظمة الصهيونية الجاليات اليهودية القادرة النشطة في سائر انحاء العالم وخصوصاً في الدول الغربية الكبرى وعلى رأسها الولايات المتحدة فكان الكيان اليهودي الفلسطيني ولا يزال بمثابة الواجهة والمصبّ لطاقات هذه الجاليات البشرية والمادية والسياسية والدعاوية وهذا ما حصل بنوع خاص عام 1948 حين تجندت الجاليات اليهودية الغربية جميعاً لمدّ الكيان اليهودي الفلسطيني بكل ما افتقر اليه ولزمه لادارة الحرب وتصعيدها علماً بأن العبرة ليست بالكمّ كما يشهد بذلك تاريخ الاستعمار الغربي المديد لدول افريقية وآسيوية تقطنها مئات الملايين من السكان، اما الكلام عن تفوّق الجيوش العربية عدداً وعتاداً وعن موقف بريطانيا المناهض لاسرائيل فسنتطرق اليه لاحقاً.
وخلافاً للرواية الاسطورية العربية لم تكن الجيوش العربية عند نهاية مرحلة القتال الاولى واعلان الهدنة الاولى 11 حزيران 1948 على وشك تسديد ضربة قاضية الى الدولة العبرية ولا هي كانت على أية مقربة من وضع كهذا، صحيح انها او بعضها القوات الاردنية والعراقية والمصرية توغلت بعيداً داخل فلسطين خلال هذه المرحلة لكن تقدمها جميعاً كان عبر مناطق عربية صرفة وليس يهودية. فالقوات المصرية تقدمت على محورين اولهما وهو المحور الرئيسي على الطريق الساحلية من العريش الى رفح الى غزة فالمجدل فاسدود حيث توقفت عند الخط الدفاعي اليهودي الرئيسي على بعد 35 كيلومتراً من ضواحي تل ابيب الجنوبية.
وثانيهما على الطريق الداخلية من سيناء الى بئر السبع فالخليل فبيت لحم فضواحي القدس الجنوبية عند الخط الدفاعي اليهودي الرئيسي. والقوات العراقية عبرت نهر الاردن وانتشرت دفاعياً في المثلث العربي الكبير اي منطقة جنين نابلس طولكرم بالاضافة الى قلقيلية ورأس العين حيث توقفت عند الخطوط الدفاعية الرئيسية اليهودية. والقوات الاردنية عبرت نهر الاردن وانتشرت دفاعياً في منطقة رام الله واللطرون وكانت الاخيرة تسيطر على باب الواد العربي المشرف على مدخل الطريق الجبلية الى القدس. والقوات السورية حاولت عبور نهر الاردن جنوب بحيرة طبريا لكنها صدّت مقابل مستعمرتي دغانيا "أ" ودغانيا "ب" فاتجهت الى شمال البحيرة ونجحت في هجوم موفق في احتلال مستعمرة مشمار هايردين قبيل اعلان الهدنة الاولى وفي اقامة رأس جسر صغير غربي النهر، والقوات اللبنانية نجحت ايضاً في الوقت نفسه في استرداد قرية المالكية العربية من اليهود على بعد 3 كيلومترات من الحدود الدولية.
وصحيح ان القوات العربية نجحت خلال هذه المرحلة الاولى من القتال في احتلال بعض المواقع اليهودية الصغيرة. فالقوات المصرية احتلت مستعمرتي نيريم وياد مردخاي القريبتين من محور تقدمها على الساحل والقوات الاردنية الجيش العربي احتلت 7 مستعمرات صغيرة يت هاعرفا ومعمل البوتاس شمال البحر الميت، ومستعمرتي عطاروت ونفي يعقوب شمال القدس ومجموعة مستعمرات كفار عطسيون الاربعة جنوب القدس بينما كان انجازهم الاهم والابعد خطراً استرداد القدس الشرقية العربية واحتلال الحي اليهودي في البلدة القديمة في القدس. والقوات السورية احتلت مستعمرتي مسادا وشعار هاغولان شرقي نهر الاردن وجنوب بحيرة طبريا قبل صدّ هجومها على "الدغانيتين" بيد ان هذا كله اضافة الى رأس الجسر عند مشمار هايردين واسترداد المالكية اي حصيلة 12 مستعمرة يهودية من اصل 300 مستعمرة من دون المساس بالمعاقل اليهودية المدينية الكبرى القدس الغربية وحيفا وتل ابيب او بأية مدينة ريفية يهودية بتح تيكفا، ريشون لزيدن، روحوبدت، ناتانيا، خضيرة والعفولة ومع بقاء المدن الفلسطينية التي كانت قد سقطت قبل 15 ايار في ايدي اليهود طبريا، يافا، عكا، صفد اضافة الى مئة قرية فلسطينية ونيف هذا لا يشكل ولا كان من الممكن ان يشكل انعطافاً استراتيجياً يوصلنا الى عتبة امكان تسديد ضربة قاضية الى الدولة العبرية.
وبعد فالعبرة في الحروب ليست في احتلال مساحات شاسعة من ارض العدو علماً بأن الاراضي التي استولينا عليها في هذه المرحلة كانت كما اسلفنا باستثنئات قليلة اراضٍ عربية يقطنها العرب فالمانيا النازية توغلت في اعماق الاتحاد السوفياتي اثناء الحرب الكونية الثانية من دون ان تهزمه انما العبرة هي في تحطيم قوى العدو المقاتلة الرئيسية او في تفتيت ارادته القتالية وهذا وذاك ما لم يحصل على الاطلاق.
بعض خصائص الوضع اليهودي
في فلسطين عام 1948
حريّ بنا، قبل البدء بسرد وقائع مراحل الحروب الخمس التي ذكرنا، ان نلقي نظرة على بعض خصائص الوضع اليهودي خلال حرب 1948.
وفي المجال السياسي لا شك في ان اهم هذه الخصائص بعد نوعية المجتمع العصري الغربي الصناعي التي اتسمّ بها الكيان اليهودي في فلسطين كانت نوعية قيادة هذا الكيان المتمثلة في شخص ديفيد بن غوريون. فبن غوريون لم يكن سياسياً عادياً بل قائداً فذاً من الطراز الاول ممن يصنعون التاريخ ومثالاً لقدرة الفرد الواحد على التأثير على مجرياته. وبلغ بن غوريون عام 1948 عامه الثاني والستين وكان في أوج نفوذه وقدرته ويفيض حيوية ونشاطاً ويتميز اكثر ما يتميز بوضوح الرؤية لهدفه تأسيس الدولة وللوسائل الموصلة اليه الوسيلة العسكرية اولاً وثانياً ولأولويات ذلك. وبطاقة على الالمام بالتفاصيل والجزئيات مع الحفاظ على الصورة الكبرى التي تحتويها وباستعداد للاستماع الى الرأي الخبير وتجنيده وبقدرة على الحسم واخذ القرار والثبات عنده وبعناد وتصميم وجرأة يُحصنها دهاء وذكاء نافذان. بكلمة كان قائد حرب تفتقده الشعوب في الملمات.
لم تدخل اسرائيل حرب 1948 النظامية يتيمة وحيدة فكانت الولايات المتحدة الى يمينها والاتحاد السوفياتي الى يسارها والامم المتحدة من خلفها بل كانت هذه الاطراف الثلاثة قوابلها عند "ولادتها". وما كادت القوات العربية تقترب من حدود فلسطين حتى هبّوا مجتمعين لاصدار القرارات بادانتها والتهديد بالعقوبات مع انه لم يرفع احد منهم حاجباً عندما كانت قوات الهاغانا ومنظمتا الارغون والشتيرن الارهابيتان تجتاح المدن والقرى الفلسطينية الواحدة تلو الاخرى في الاسابيع السابقة ل 15 ايار. واعترف الرئيس ترومان بالدولة العبرية خلال 11 دقيقة من اعلانها وتبعته غواتيمالا والسويد 16 أيار والاتحاد السوفياتي 17 أيار وبولندا وأوروغواي ونيكاراغوا 18 أيار وتشيكوسلوفاكيا ويوغوسلافيا 19 أيار وافريقيا الجنوبية 24 أيار وهنغاريا 1 حزيران وفنلندا 11 حزيران ورومانيا 12 حزيران وهكذا. واستقبل ترومان الزعيم الصهيوني حاييم وايزمان في البيت الأبيض في 25 أيار وبحثا في ما بحثاه في تقديم قرض من واشنطن إلى تل أبيب بقيمة 100 مليون دولار، وأخذ اعضاء الكونغرس الأميركي يهددون بريطانيا بقطع المعونة عنها ضمن مشروع مارشال بحجة وجود ضباط بريطانيين في الجيش العربي جيش شرق الأردن، وأرسلت الجاليات اليهودية الأميركية إلى إسرائيل خلال عام 1948 كما يخبرنا العالم الاجتماعي اليهودي الأميركي صموئيل هلبيرن 120 مليون دولار، وتأسست منظمة باسم "ماهال" Mahal غايتها تجنيد المتطوعين العسكريين الخبراء من اليهود خارج فلسطين. وتخبرنا الموسوعة الصهيونية أن متطوعي ماهال بلغوا 3000 من بريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة وافريقيا الجنوبية، وأن العديد منهم كان من ذوي الرتب العسكرية العالية خلال الحرب العالمية الثانية، وأنهم جلبوا معهم إلى إسرائيل "ثروة من الخبرة العسكرية" wealth of military skill وأنهم لعبوا دوراً مهماً في تنظيم سلاح الجو الإسرائيلي، فكان معظم قادة الطائرات المقاتلة والقاصفة الإسرائيلية وطائرات النقليات منهم. وانهم لعبوا دوراً مماثلاً في سلاح المدفعية الإسرائيلية، كذلك في البحرية الإسرائيلية، إذ كانوا قادة سفن وكان أحدهم رئيساً للأركان، وتأسست كذلك منظمة ثانية باسم "غاهال" GAHAL غايتها تجنيد الشباب الناجين من المحرقة النازية. وتخبرنا الكاتبة الإسرائيلية حنه توروك يابلونكا ان عدد المجندين من هؤلاء بلغ 22300 دخل البلاد منهم 4700 بين آذار مارس وحزيران 1948، والباقون بعد حزيران. وتضيف الكاتبة ان معظم هؤلاء أُلحقوا بالوحدات القتالية الأمامية بحجة عدم معرفتهم العبرية.
وتفتح تشيكوسلوفاكيا أبواب مصانع السلاح الشهيرة بها والمعروفة ب "سكودا" Skoda على مصاريعها بإيعاز من موسكو لتبيع موفدي بن غوريون أفتك منتوجاتها وأحدثها لقاء قطع نادر جداً في ذلك الحين من الدولارات يحصل عليها من أبناء جنسه من الولايات المتحدة، وغضت السلطات الأميركية الطرف عن عمليات تهريب السلاح من أراضيها التي كان أبرزها تهريب ثلاث طائرات كونستيلاشين أربعة محركات وعشر طائرات C-46 حربية.
ويقول تاريخ الهاغانا الرسمي إن هذه الأعمال كانت تخالف القوانين الأميركية "لكن القضاة والمحلفين تصرفوا ازاء المعتقلين بتفهم وتساهل وكانوا يحاولون التخفيف من العقوبة قدر الامكان".
وكان من أهم خصائص الدولة اليهودية السياسية وهي خاصية تلازمها حكماً منذ ولادتها وتميزها عن أخصامها العرب أن لا مجال للتناقض في إسرائيل بين منطق الدولة والعمل من أجلها لأنهما صنوان بينما ثمة تناقض محتمل دائماً بين منطق الدولة لأي حكومة عربية والعمل ضد إسرائيل.
وإذا كانت هذه بعض أهم خصائص الدولة العبرية السياسية عام 1948 فقد تميزت أيضاً بخصائص عسكرية، خلافاً للانطباع العام، أهمها ان قوات الهاغانا نجحت قبل 15 آذار في احتلال المدن الفلسطينية والقرى التي ذكرنا وتطهير مؤخرتها من الوجود الفلسطيني البشري، مما أمّن لها سلامة هذه المؤخرة ومكنّها من "تحرير" قواتها من مهمة المرابطة في هذه المدن والقرى والتجمع للمهمات القتالية دفاعية كانت أم هجومية، ومن هذه الخصائص سيطرة القوات الإسرائيلية على شواطئ فلسطين وموانئها مما عني الاتصال المباشر بالعالم الخارجي عبر البحار والقدرة على استقبال المدن المتصل منه من دون ازعاج بسبب ضعف القوات الجوية والبحرية العربية ومنها ان قوات الجيش البريطاني بقيت مرابطة بالقرب من ميناء حيفا لغاية شهر آب اغسطس 1948 حتى بعد انتهاء الانتداب البريطاني، وهي بذلك تشير إشارة واضحة إلى الجيوش العربية ألا تقترب من حيفا أهم موانئ فلسطين ومستودع البترول القادم من العراق. وبالفعل قام سرب من الطائرات المصرية بالتحليق فوق مطار بريطاني بالقرب من حيفا في نهاية أيار عام 1948، فتصدت له الطائرات البريطانية واسقطت اثنتان وعطلت اثنتين آخريين منه، ومن هذه الخصائص وجود طرقات ممتازة داخل فلسطين وقصر المسافة بين القواعد وخطوط النار في المناطق تحت السيطرة الإسرائيلية مما أعطى القوات الإسرائيلية ميزة المواصلات الداخلية inner lines of communications الأمر الذي مكّنها من التجمع والانتقال بسرعة دفاعاً أم هجوماً باتجاه الجبهة العربية التي تختارها. ومن الخصائص ان معظم المستعمرات كانت تخضع لتنظيم مركزي في الشؤون الإدارية والاقتصادية والتسويقية والسياسية والأمنية والعديد منها كان قواعد لقوات الهاغانا والبالماخ ولوحداتهما ومحصناً بالخنادق والأبراج والدشم وحقول الألغام والأسلاك الشائكة، ومن هذه الخصائص وجود صناعة حربية نشطة لدى يهود فلسطين انتجت 10404 رشاشات Sten Gun ومليونين رصاصة لها في الفترة ما بين تشرين الأول اكتوبر 1947 ونهاية أيار 1948، كما انتجت خلال هذه الفترة فقط 77000 قنبلة يدوية و31 مدفع هاون 3 بوصات و130000 قذيفة لها و31000 لغم و48 بيات مضاد للدبابات، بينما ارتفع انتاج البيات إلى 600 بيات آخر في الأشهر الأربعة التالية.
نظرة إلى الطرف العربي
ونحن إذا ما نظرنا إلى الطرف العربي لوجدنا وضعاً نقيضاً في أكثر الحالات. ففي المجال السياسي كان الخلل القاتل في فقدان القيادة الموحدة وبالتالي في فقدان الرؤية الموحدة وبالتالي في فقدان الهدف الواضح الواحد، وبالتالي في فقدان التنسيق العسكري وبالتالي في فقدان التكامل في العمليات الحربية وتفريغها من معناها وضياع اثرها.
لكن الحقيقة كانت أمّر من ذلك، ولم تكن نتيجة الصعوبة القصوى في إدارة الأحلاف. ونحن نعلم أنه إذا ما تم الاجماع الجديّ على الهدف بين أطراف حلف يفرّق بينها ما فرّق بين موسكو والدول الغربية الرأسمالية خلال الحرب العالمية الثانية، لتمكن الحلف من الوصول إلى هدفه، بيد أن بالنسبة للحكومات العربية لم يكن ثمة هدف واحد، بل أهداف على نقيض بعضها البعض. وهكذا دخل قادة العرب السياسيون الحرب متجاهلين ما قاله أبو تمام في السيف وحدّه.
وانعكس فقدان الهدف الواضح وتعدد الأهداف المتناقضة المعطلة لبعضها البعض الآخر وعدم التمييز بين الجد واللعب في الحروب انعكس في مدى الاستعداد العسكري في حجم القوات العربية التي دخلت فلسطين يوم 15 أيار 1948، فخلافاً للشائع عربياً وللاسطورة الصهيونية، لم تكن هذه القوات متفوقة على القوات اليهودية لا عدداً ولا عتاداً ولا أسلحة، كما سنبيّن في حلقة مقبلة، وانصافاً للقادة العسكريين العرب، فإنهم كانوا يدركون ذلك كل الادراك. فقد انعقد أول مؤتمر عسكري لرؤساء اركان حرب الجيوش العربية في عمان في 30 نيسان ابريل 1948، أي قبل أسبوعين فقط من نهاية الانتداب البريطاني وهذا التاريخ المتأخر لمثل هذا الاجتماع الذي وافق عليه القادة السياسيون أخيراً لهو بحد ذاته دليل صارخ على عدم الجدية، وفي هذا المؤتمر عرض أمير اللواء إسماعيل صفوت الذي كان يرأس اللجنة العسكرية التابعة للجامعة العربية والتي أشرفت على سير العمليات إلى ذلك الحين، عرض ما لديه من معلومات. وفي ضوء تلك المعلومات ناقش المجتمعون الموقف مناقشة عسكرية وأقروا بالاجماع بأن التغلب على القوات اليهودية يتطلب ما لا يقل عن 6 فرق Divisions كاملة التنظيم والتسليح و6 أسراب اي 72 طائرة من الطائرات القاصفة والمقاتلة على أن تكون جميع هذه القوات خاضعة لقيادة عربية موحدة تسيطر عليها وتحركها وفق خطة معينة.
ويروي الفريق الأول صالح صائب الجبوري رئيس أركان الجيش العراقي في حينه في مذكراته، وهو كان أحد المشاركين في المؤتمر: "اجتمعنا بعد ذلك مع السياسيين وبيّنا لهم القوات الجاهزة للعمل في كل جيش، كما ذكرها ممثلو الجيوش، وكذلك ذكرنا القوات المطلوبة للقيام بالواجب كما يتطلبه الوضع القائم... واستكثر السياسيون هذه القوات ولم ترق لهم النتائج التي توصل إليها العسكريون، وقال بعضهم إن العسكريين يعطون أهمية زائدة إلى قوة الصهاينة ويبالغون في تقدير القوات المطلوبة".
"وأوضح العسكريون بأن الموقف من الوجهة العسكرية يجعل القوات التي اتفق عليها العسكريون ضرورية إذا ما أريد تطهير فلسطين حقيقة والوصول إلى نتائج ايجابية مرضية".
"وبيّن العسكريون بأنه لا أمل في القيام بحركات سريعة وناجحة من دون وجود هذه القوات، وان الزمن ليس في جانب العرب. وان العدو يزداد قوة وشدة بمرور الزمن، وكلما عجّل العرب بانزال ضربتهم كان الأمل بالحصول على نتائج حسنة ومثمرة".
ويضيف الجبوري: "وصرح أحد المسؤولين عن السياسة العربية العامة بأن علينا أن نقاتل بضعة أيام ثم لا بد وأن تتدخل بعدها هيئة الأمم في الموضوع، وهكذا سوف لا يستمر القتال طويلاً وتحل القضية سياسياً".
"وقد رد أحد العسكريين بأن من يقدم على القتال يجب أن يحسب كافة الحسابات، وأن لا يعلّق مصير ونتائج الحركات العسكرية على الاحتمالات السياسية، وماذا تكون النتيجة لو دخلنا القتال غير متخذين له الأهمية الكافية، معتمدين على تدخّل هيئة الأمم ولم يتحقق تدخل هيئة الأمم المنتظر؟ هذا بصرف النظر عن القول إن مثل هذا التدخل قد لا يكون لصالح العرب".
"وعليه يجب أخذ أسوأ الاحتمالات بنظر الاعتبار وإشراك جميع الجيوش العربية بالقتال يوم 15 مايس" على ان الاجتماع مع السياسيين انتهى "على أساس أن تباشر قوات الجيوش العربية المتيسرة بالقتال وتستمر فيه وان هذه القوات ستزداد تدريجاً".


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.