"الثورة شعور عارم بالحب". هكذا ينظر ميشال الى صديقه "تشي" الذي ملأت صوره محله في شارع الكسليك "Amor y Libertad" أي الحب والحرية. وغيفارا الذي في شارع الكسليك مختلف عن غيفارا الذي نعرفه. انه راقص التانغو والشاب الجميل الذي تسحر نظراته الشابات المتوزعات في زوايا النادي الليلي. ويقول ميشال ان غيفارا في كل رحلاته العسكرية بين الدول والحدود كان يصطحب رفاقاً يعزفون له "التانغو" الذي لم يكن يستطيع ان يفوت يوماً من دون ان يسمعه او ان يرقص على نغماته. وهو يصر على ان "الثياب الغيفارية" التي يرتديها ليست موضة، بل هو يحبها، ويحب نفسه عندما يرتديها. و"الموضة" في عرفه هي ما نرتديه حتى لو لم يعجبنا. أما ثياب غيفارا فلم تصبح بعد "موضة"، ولكنها في طريقها لأن تصبح كذلك وعندها سيخلعها ميشال. وقد يرتدي بعدها زي كاسترو الذي يحمل له حباً وعتباً: الحب هو من بقايا حب ميشال للشعب الكوبي الذي قصده لكي يتمكن من نقل شعائره وطقوسه والوانه الى محله في الكسليك، ولنقل اصناف مأكولاته الى محله. والعتب هو في تخلي "فيديل" عن الثورة وعن فكرة غيفارا عنها. الثورة التي لا تعرف حدوداً ومنطقاً، انها حب متواصل وهي تدعو الى اللهو قدر ما نستطيع. غيفارا، بحسب ميشال "لم يحب الفقر، هو اراد ان يكون الجميع اغنياء، وعندما نفهم علاقته وعلاقة الشعب الكوبي بالتانغو، ندرك ان وراء ثورية تشي رغبة في فرح مستمر لا ينتهي، وان الثورة لم تكن نابعة من افكارٍ عامة، بل من ذلك الشعور الداخلي والفردي باطلاق حرية الجسد الى اقصى حدوده وتكسير قيوده، انها التانغو نفسه"! وغيفارا في "Amor y Libertad" في شارع الكسليك، شاب غاوٍ يتنقل في شاشات التلفزيونات التي وزعها ميشال على جدران محله الواسع، مطلقاً نظراته، حتى ليسأل المرء من أين له كل هذا الوقت لتلتقط له كل هذه الصور. وكأن كاميرا كانت تتعقبه لتصور كل لحظات حياته. وهذا ما جعل ميشال يقول ان غيفارا ليس شيوعياً، انه بطل سينمائي يجيد المرور من امام الكاميرا ويعرف كيف يقدم نفسه اليها. وحين تبدأ الفرقة الموسيقية الكوبية التي احضرها ميشال الى محله في شارع الكسليك بعزف اغنية غيفارا الحزينة، والتي تدمع لها عيون العازفين، يكون تجاوب زبائن المحل مختلفاً. ولا يكون صدى صوت الحزن الذي تطلقه آلة "الترومبيت" على موت غيفارا سبباً للتأمل في هذا الموت بمقدار ما تكون سبباً لمزيد من الحماسة الى موسيقى جديدة تعيدهم الى نفوسهم، فيشرع كل منهم في رقص داخلي أشبه بالنبض. فمعرفتهم بغيفارا معرفة غامضة ومتفاوتة، ومعنى موته وثورته بالنسبة الى كل منهم ليس ثابتاً، انهم في مرحلة "التعرف" اليه. ويقول شاب منهم: "في لبنان، كان الحزب الشيوعي في المنطقة الغربية، لذلك لم تتسن لنا معرفة غيفارا، ونحن متشوقون الى معرفة اسرار تلك الشخصية والاطلاع على الافكار التي كان يحملها". انهم يتعرفون الى غيفارا بعيداً من الحزب الشيوعي، لذلك بدا لهم جميلاً وغاوياً وسينمائياً وغير مؤمنٍ بشيء، الا بحقيقة الجسد وبحريته. اما الذين قدم اليهم الحزب الشيوعي هذه الشخصية فظهرت لهم غير مفارقة للبندقية فغيفاراهم مختلف قليلاً، وهم على رغم معرفتهم للكثير من محطات حياته لم يكونوا يعرفون بقضية التانغو هذه، ولم يشاهدوا له قبلاً صوراً وهو يرقصه. والنزوع الغيفاري في لبنان هذه الايام طاغٍ على كل ما عداه في حاجيات الشباب وأغراضهم ومثالاتهم. في شارع الكسليك ناديان ليليان كوبيان يقصدهما الشبان معتمرين قبعات غيفارا، ومنتعلين احذية طويلة كتلك التي ينتعلها فيديل كاسترو. ولا يقتصر هذا النزوع على ازدهار النوادي الليلية. فثمة متاجر لملابس "تشي" وآلة توضع فيها نقود معدنية تخرج منها أزرار صغيرة عليها شعارات غيفارا ورسمه. والاعجاب به امتد ليشمل اطرافاً سياسيين قد لا يفترض المرء صلة لهم به، كأن يقول مسؤول الطلاب العونيين في لبنان في مقابلة صحافية: "افضل للشباب ان يكون مثالهم غيفارا على ان يكون مايكل جاكسون"! وان تكتب صحيفة اخرى عن اسباب تعيين العماد ميشال عون يساريين سابقين في القيادة الطالبية لتياره. وهي خيارات تزعج اليساريين الحاليين الذين قال احدهم ان غيفارا ليس صورة توضع على حائط. وكتب آخر محتجاً على بيع شعاراته من الاغنياء ذوي الشعور الطويلة واللحى غير الثورية، واظهرهم كأنهم يدنسون صورته باستهلاكيتهم! ويقول جورج الواقف على مدخل محل اسمه "كاسترو" في شارع الكسليك: "الشعب اللبناني يتقبل كل ما هو جنون بعد الحرب، وغيفارا هو مجنوننا هذه الايام. جربنا الكثير وسمعنا خطابات وشعارات، فلنجرب غيفارا". اما ميشال فيقول: "ان غيفارا ليس فقيراً، والفقر بدوره يوفر امكان الذهاب اكثر لتجاوز حدود النفس، وحين يحقق لنا غيفارا هذا الامر نكون اصبحنا اغنياء، ونعود لنبحث عن ثورة جديدة". ولكن عن اية ثورة يبحث هؤلاء؟ سؤال له اجوبة كثيرة ومتشعبة اليوم في بيروت.