"لولا تأثير تشايكوفسكي عليه، لكان من الصعب لاحد ان يتذكر آرنسكي". هذا الحكم القاطع نجده وارداً من العديد من الكتابات التي تؤرخ لحياة واعمال الموسيقي الروسي انطوني آرنسكي، بحيث بات أشبه بالمسلمات، وأدى الى اعتباره واحداً من المؤلفين الثانويين في تاريخ الموسيقى الكلاسيكية. غير ان سنوات الستين شهدت، بعد نصف قرن من رحيل الرجل، اعادة اعتبار له، ولا سيما عن طريق نقاد ومؤرخين راحوا يدرسون أعماله بهدوء ودقة ليستخلصوا من دراساتهم استنتاجات تقول بان آرنسكي كانت له أصالته التي لا يمكن نكرانها، اما تأثره بتشايكوفسكي، فانه كان حالة عارضة في حياته، هو الذي يمكن ان نفترض بشكل اكثر دقة بانه كان مكملاً لرمسكي كورساكوف استاذه، اكثر منه مؤلفاً يقع تحت تأثير تشايكوفسكي. وهكذا بعد قطيعة زمنية طويلة عاد آرنسكي ليعتبر، الى جانب بورودين وسكريا بين وتشايكوفسكي ورمسكي كورساكوف واحداً من الذين طبعوا الموسيقى الروسية بطابعهم خلال الربع الاخير من القرن الفائت والاعوام الاولى من هذا القرن. ولد آنطوني آرنسكي، العام 1861 في مدينة نوفغورود، وتلقى دراسته الموسيقية في كونسرفاتوار سانت بطرسبوغ "حيث كان رمسكي كورساكوف استاذه الاساسي. وهو كان في الرابعة والعشرين من عمره حين عهد اليه بقيادة كورس واوركسترا البلاط الامبريالي في العاصمة الروسية، وهو موقع أتاح له من المكانة والراحة ما مكنه من ان يبدأ بوضع الالحان والقطع التي كان يحلم بان يمكنه الوقت من وضعها، خلال السنوات الاولى من شبابه. وبالتوازي مع ذلك المنصب عيّن آرنسكي كذلك استاذاً للهارمونيا في كونسرفاتوار موسكو، وهناك كان من بين انجب تلاميذه شبان سوف يصبحون لاحقاً، اعمدة الحياة الموسيقية في العاصمة الروسية ولا سيما منهم الكسندر سكريا بين، وسيرغي رخمانينوف وراينهولد غليار. اذا كان آرنسكي قد بدأ حياته التأليفية بكتابة العديد من القطع القصيرة للبيانو، وهي تلك القطع التي سيجد الباحثون قرابة كبيرة بينها وبين اعمال تشايكوفسكي ولا سيما بعض اجمل فقرات الكونشرتو الاول للبيانو والاوركسترا، فان كان في الحادية والثلاثين من العمر، في العام 1892 حين كتب موسيقى الأوبرا التي ستحقق له شهرة محلية وعالمية "حلم على نهر الفولغا" وهو اتبعها لاحقاً بفيلمين أوبراليين لن يقلا عنها شهرة "رافائيل" 1894 و"نال وداميانتي" 1899. وعلى هذا النحو كان في وسع آرنسكي ان يطل عل ى القرن العشرين باعتباره واحداً من أبرز الموسيقيين الروس. صحيح ان القدر لم يمهله كثيراً بعد ذلك، اذ انه رحل عن عالمنا شاباً في الخامسة والاربعين من عمره يوم 25 شباط فبراير 1906، لكن حياته القصيرة أتاحت له، مع ذلك، ان يكتب، الى الاوبرات الثلاث التي ذكرناها والتي تعتبر عماد شهرته الاساسية، واضافة الى قطع البيانو المبكرة، عدداً من الاعمال البارزة ومن اهمها سيمفونيتان، ورباعيتان، وكونشرتو للبيانو، وانترميتزو، و"ثلاثي للبيانو من مقام صغير"، وعمل للبيانو والاوركسترا بدا فيه بدوره متأثراً بتشايكوفسكي بشكل فاضح هو "فانتازيا انطلاقاً من اغنيات روسية شعبية"، و"خماسي للبيانو". واضافة الى هذا كله كتب آرنسكي موسيقى باليه مقتبس من بوشكين بعنوان "ليال مصرية" بدا فيه هذه المرة متأثراً باستاذه الكبير رمسكي كورساكوف، بحيث ان ثمة مقاطع في "ليال مصرية" تحيل مباشرة الى "شهرزاد" و"عنتر" اللتين تعتبران من اجمل القصائد السيمفونية التي ابدعتها الموسيقى في ذلك الحين. تميزت موسيقى آرنسكي على الدوام بطابعها الغنائي. غير ان اقترابه من تشايكوفسكي ورمسكي كورساكوف، لم يمنع موسيقاه من ان تكون اكثر انتقائية وتجريبية، بحيث اننا نجده، في نهاية الامر، أقل وطنية وانغماساً في الفولكلور والموسيقى المحلية من استاذيه. طوال سنوات عدة ظلت اعمال آرنسكي، مع هذا، غير معروفة على نطاق واسع خارج روسيا. اما العملان اللذان حققا له اكبر قدر من الشهرة العالمية، واحياناً دون ان يحفظ احد اسم صاحبهما بالكامل، فكانا "فالس مأخوذ من المتتابعة رقم 1 لآلتي بيانو" و"تنويعات على موضوعة مستقاة من تشايكوفسكي".