الولايات المتحدة الامريكية تقدم التعازي في وفاة الرئيس الإيراني    مركز التطوع بوزارة الصحة يكرّم صحة عسير ممثلةً في إدارة التطوع الصحي    مصر.. القبض على فنان شهير بتهمة دهس امرأتين    خالد بن سطام يدشن معرض الصناعة في عسير    أمطار متوسطة إلى غزيرة بالجنوب وخفيفة على 4 مناطق    رسميًا.. الاتحاد يعلن رحيل رومارينهو وغروهي    مطار الرياض يفوز بجائزة أفضل مطار بالمملكة    أجهزة كمبيوتر من "مايكروسوفت" مزودة بالذكاء    الهلال يعلن جاهزية سالم الدوسري لمواجهة الطائي    6.7 مليار دولار مساعدات سعودية ل 99 دولة    أمير منطقة تبوك ونائبه يواسيان النبهاني في وفاة والدته    الاتحاد بطلاً لهوكي الغربية    «الموارد»: دعم أكثر من 12 ألف مواطن ومواطنة بالشرقية    القوات المسلحة تواصل تمرين «الأسد المتأهب 2024»    عودة الصور المحذوفة تصدم مستخدمي «آيفون» !    6.41 مليون برميل صادرات السعودية من النفط    أمير الجوف يعزّي أسرة الحموان    استقبال حافل ل «علماء المستقبل».. أبطال «ISEF»    5 فوائد للمشي اليومي    وزير الشؤون البلدية والقروية والإسكان يكرم البواني لرعايتها منتدى المشاريع المستقبلية    أسرة بن مخاشن تستقبل المواسين في مريم    معابر مغلقة ومجازر متواصلة    القيادة تعزي في وفاة رئيس إيران ومرافقيه    الراجحي يصدر قراراً بتعديل تنظيم العمل المرن    طموحنا عنان السماء    8 مواجهات في الجولة قبل الأخيرة لدوري" يلو".. " الخلود والعروبة والعربي والعدالة" للمحافظة على آمال الصعود    أنديتنا وبرنامج الاستقطاب    في الرياضة.. انتظار الحقائق والتطوير    اجتماع اللجنة الأمنية والعسكرية المنبثقة عن مجلس التنسيق السعودي - القطري    تعزيز العلاقات مع "تحالف الحضارات"    فراق زارعة الفرح    أمير القصيم يكرم «براعم» القرآن الكريم    10522 خريجًا وخريجة في مختلف التخصصات.. نائب أمير مكة المكرمة يشرف حفل التخرج بجامعة جدة    الذكاء الاصطناعي ومستقبل الوظائف    مكعّب روبيك.. الطفل العبقري    المسألةُ اليهوديةُ مجدداً    إحباط تهريب 200 كلغ من القات المخدر    خادم الحرمين الشريفين يخضع لبرنامج علاجي    واتساب يختبر ميزة تلوين فقاعات الدردشة    إجازة لمكافحة التعاسة    ابحث عن قيمتك الحقيقية    لجين تتألق شعراً    مواجهة الظلام    مبادرة الأديب العطوي    نائب أمير جازان يكرم متفوقي التعليم    ما الذي علينا فعله تجاه أنفسنا ؟!    زلة الحبيب    وقتك من ذهب    لا عذر لخائن    تسهيل وصول أمتعة الحجاج لمقار سكنهم    العجب    رحلة نحو الريادة في السياحة العلاجية    علاقة معقدة بين ارتفاع ضغط الدم والصحة النفسية    الحامل و الركود الصفراوي    أخصائية تغذية: وصايا لتجنب التسمم الغذائي في الحج    خرج من «البحر» وهو أصغر بعشر سنوات    أمير الرياض يرعى حفل تخرج طلبة الجامعة السعودية الإلكترونية    القيادة تعزّي دولة رئيس السلطة التنفيذية بالإنابة السيد محمد مخبر في وفاة الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي ومرافقيه    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



آفاق التعاون الاقتصادي الاسرائيلي - الفلسطيني
نشر في الحياة يوم 01 - 11 - 1998

عقب احتلال الضفة الغربية وقطاع غزة في عام 1967، نشأ اتحاد جمركي بين الأراضي المحتلة واسرائيل أسفر عن زيادة مستويات التعريفات المطبقة فعلياً في الأرض الفلسطينية بما يقارب أربعة امثالها. وأدت هذه الزيادة الكبيرة، الى جانب مجموعة من الحواجز غير التعريفية، الى تحويل مجرى التجارة بعيداً عن البلدان العربية المجاورة وبقية انحاء العالم في اتجاه التركيز على السوق الاسرائيلية. ورفع ذلك تكاليف السلع الرأسمالية والوسيطة بالنسبة للمنتجين الفلسطينيين وقضى عملياً على ميزتهم التنافسية في الاسواق الاجنبية. وفي غضون ذلك، لم يسمح للمنتجات الفلسطينية التي تحتوي على مكونات من صنع اسرائيل بدخول الأسواق العربية بسبب المقاطعة التي فرضتها الجامعة العربية على المكونات الاسرائيلية المستخدمة في الصناعة الفلسطينية. وأصبح شريك واحد يهيمن على التجارة الفلسطينية، في حين اصبحت الروابط التجارية مع الأسواق الاخرى هامشية بصورة متزايدة. وكان الاتحاد الجمركي غير الرسمي بين الاقتصادين الاسرائيلي والفلسطيني احادي الجانب، فقد كانت المنتجات الاسرائيلية تدخل الأسواق الفلسطينية بحرية، من دون معاملة بالمثل بالنسبة للمنتجات الفلسطينية. وضاق نطاق الصادرات الفلسطينية، وشهدت تجارة السلع عجزاً متزايداً، قابله تصدير خدمات اليد العاملة الى اسرائيل.
ودخلت العلاقات بين الاقتصادين مرحلة جديدة مع قيام ترتيبات الحكم الذاتي الفلسطيني في الضفة الغربية وقطاع غزة. وإذ حددت الاتفاقات الاسرائيلية - الفلسطينية فترة انتقالية مدتها خمس سنوات بدأت في أيار/ مايو 1994، الى ان يتم خلال المفاوضات الجارية بين الطرفين التوصل الى اتفاق في شأن "قضايا الوضع النهائي"، التي لم يتم حلها في الاتفاق الموقت. ووردت تفاصيل الشروط والقواعد التي تنطبق على العلاقات الاقتصادية بين الجانبين خلال الفترة الانتقالية في "بروتوكول العلاقات الاقتصادية"، الموقع في 29 نيسان ابريل 1994. ومن الاهداف الصريحة لهذا البرتوكول وضع أسس "تعزيز القاعدة الاقتصادية للجانب الفلسطيني وممارسة حقه في اتخاذ القرارات الاقتصادية وفقاً لخططه وأولوياته التنموية".
ويتضمن البروتوكول تصوراً لمسار تنمية الاقتصاد الفلسطيني خلال الفترة الانتقالية وما بعدها، ويشدد على تطوير العلاقات الاقتصادية مع اسرائيل، وقدر اكبر من الانفتاح في مجال تدفقات التجارة المتبادلة، والبدء في التعاون والتنسيق في المشاريع التنموية. ويعتمد البروتوكول اطاراً للتنمية مبنياً على ربط الاقتصاد الفلسطيني بالاقتصاد الاسرائيلي على اسس اكثر انصافاً مما كان عليه الامر في الماضي. لكن تنفيذ البروتوكول لم يحقق النجاح الكامل. فمنذ عام 1996 بدأ الاقتصادان يتحولان نحو الانفصال اكثر من التكامل، ويعود ذلك، الى حد كبير، الى الاعتبارات السياسية والأمنية. وبالتالي فإن الصعوبات التي تواجه الاقتصاد الفلسطيني اليوم ناشئة جزئياً عن اطار للتكامل مشوب بالقصور، خصوصاً انه لم يضمن الانفتاح على بقية العالم كما وعدت به الاتفاقات.
وسنتناول في ما يلي ملخصاً عن اهم احكام البروتوكول وكيفية تطور العلاقات الاقتصادية بين الجانبين منذ بدايتها. وسنستعرض بعض التدابير الاقتصادية التي يمكن ان تطبق في سياق التعديلات التي يسمح بها البروتوكول بهدف التخفيف من حدة مشاكل معينة، والسماح للفترة الانتقالية بالاستمرار ما دون انقطاع وصولاً الى اعادة البناء والتنمية. ويتبع ذلك استكشاف للعلاقات الاقتصادية في المستقبل والظروف التي يمكن ان تقوم في ظلها على اساس الترابط المتبادل. انطلاقاً من كون هذه العلاقات غير قابلة للانجاز الا اذا كانت جزءاً من ترتيبات اقليمية مستقرة تقوم على اساس السلام العادل والدائم.
العلاقات الاقتصادية الاسرائيلية - الفلسطينية الراهنة
في سياق اتحاد جمركي وحيد الجانب، كانت التجارة بين الاقتصادين خلال الفترة السابقة لعام 1994 تتألف اساساً من مجرد مبادلة خدمات اليد العاملة الفلسطينية بالسلع الاسرائيلية. وكان متوقعاً ان تحقق الفترة الانتقالية 1994 - 1999 تغييراً منتظماً في هذه العلاقة بالسماح للاقتصاد الفلسطيني ان يستعيض بصورة تدريجية عن تصدير خدمات اليد العاملة بالسلع. وكان الأمل كبيراً ان تتيح البيئة الجديدة للفترة الانتقالية للسلطة الفلسطينية فرصة اعتماد سياسة اقتصادية تركز على النمو في الانتاج الزراعي والصناعي، وتوجه نحو زيادة العمالة المحلية اضافة الى التوسع في الصادرات وتقييد الواردات. وكان يرجى تحقيق هذا النمو في ضوء ثلاثة عوامل مهمة.
أولاً: ان يتاح في البيئة الجديدة للقطاعين العام والخاص التمتع بالمزيد من الحرية في انشطتهما الاقتصادية ومواجهة اقل عدد من التشوهات، وأن تستخدم سلطة الحكم الذاتي في الفترة الانتقالية بعض الادوات المهمة للسياسة الاقتصادية الكلية والجزئية على حد سواء. ويشمل ذلك السيطرة التامة على الضرائب المباشرة، والسيطرة المحدودة على الضرائب غير المباشرة، والحق في الترخيص للمؤسسات المالية والمشاريع التجارية والاشراف عليها وتقديم الحوافز لجذب الاستثمارات المحلية والاجنبية على حد سواء، وأن يتم تشجيع انشطة القطاع الخاص الى حد كبير بإزالة بعض القيود واللوائح التي كانت نافذة قبل عام 1994، وأن يشمل ذلك اقامة هيئات وساطة مالية لحفز الادخار وتوجيهه نحو الاستثمار الانتاجي، وتغيير نمط الاتحاد الجمركي من خلال ازالة بعض القيود المفروضة على الصادرات الفلسطينية الى اسرائيل، والسماح بالمزيد من الانفتاح التجاري على الأردن ومصر والأسواق الجديدة في اماكن اخرى.
ثانياً: كان من المفروض ان يتم تعزيز البيئة الجديدة بالتزام من جانب المجتمع الدولي تقديم معونات مالية، اذ تم التعهد تقديم 2.5 بليون دولار للمساعدة في تمويل جهود اعادة البناء والتنمية الفلسطينية. واعتبر ذلك امراً اساسياً في توطيد اسس التغييرات القانونية والمؤسساتية المذكورة آنفاً مع تحسين البنى الأساسية المادية والاجتماعية.
ثالثاً: وافق الجانبان في البروتوكول على الابقاء على الحركة الطبيعية لليد العاملة بينهما. وكان القصد من ذلك تمكين الاقتصاد الفلسطيني من الاعتماد على تصدير دائم، وإن كان مخفضاً لخدمات اليد العاملة الى اسرائيل، كوسيلة مساعدة لتعزيز الدخل الى ان تفضي عملية اعادة بناء الاقتصاد الى توليد فرص العمل الكافية لاستيعاب اليد العاملة المتزايدة بسرعة.
وبالتالي كان يفترض بصورة عامة ان تكون الفترة الانتقالية فترة توسع ونمو ينجمان عن زيادة الانتاج، وتعزيز التجارة نتيجة لاتاحة فرص تسويقية جديدة، واستمرار توليد الدخل الوطني الناشئ عن العمل في اسرائيل. ومن ثم فإن احد الافتراضات الرئيسية في البيئة الجديدة هو وجود حدود مفتوحة نسبياً بين اسرائيل والأرض الفلسطينية من اجل تحرك السلع واليد العاملة. وعلى الرغم من ان البروتوكول لا ينص على اي التزام رسمي في ما يتعلق بعدد العمال الفلسطينيين المسموح لهم بالعمل في اسرائيل، فقد كان من المفترض ضمنياً ان يكون عددهم اقل مما كان قبل عام 1993، اي ما بين 75.000 و100.000 عامل. وعليه اعتمد واضعو البروتوكول على ان قرابة ربع مجموع قوة العمل الفلسطينية ستعمل في اسرائيل خلال الفترة الانتقالية. وكان يتوقع الا يحدث اي انقطاع الا بصورة موقتة وفي ظروف استثنائية فحسب.
ومما يدعو الى الأسف ان الوعود التي انطوى عليها البروتوكول لم تتحقق الى حد كبير. فقد جعلت العوامل السياسية والأمنية انقطاع تدفق اليد العاملة والسلع قاعدة وليس استثناء. ثم ان عدد الفلسطينيين العاملين في اسرائيل لم يعد الى مستويات ما قبل عام 1993، بل انكمش بصورة مستمرة من معدل بلغ 83.000 عامل في عام 1993 الى 25.000 بحلول عام 1996، وهو ادنى مستوى شهدته السنوات الپ25 الماضية. وبالمثل فان اغلاق الحدود لم يسمح بزيادة التبادل التجاري الاسرائيلي - الفلسطيني. كما ان الصادرات من الضفة الغربية وقطاع غزة الى اسرائيل تراجعت في الأشهر التسعة الأولى من عام 1996 بنحو 50 في المئة مقارنة مع مستواها في عام 1995. وازدادت الصادرات الاسرائيلية الى الأرض الفلسطينية بصورة طفيفة، مما يعكس اختلافاً في تأثير اغلاق الحدود على حركة السلع بين الأرض الفلسطينية واسرائيل. كما تأثرت التجارة الفلسطينية مع الأردن ومصر بطريقة مماثلة، وذلك بسبب سيطرة اسرائيل على الحدود والأمن في الفترة الانتقالية.
ومن الطبيعي ان يكون الأثر المشترك المترتب على حدوث انخفاض مستمر في الدخل من جراء تخفيض او تعليق صادرات اليد العاملة والسلع لفترات مطولة اثراً سلبياً اصاب الاقتصاد كله. وقد عطل ايضاً برنامج اعادة البناء نتيجة لتأخير وصول الكثير من السلع الرأسمالية حيث الحاجة ماسة لها. وتخصيص الموارد لغير مشاريع الاستثمار الطويلة الأمد من اجل تمويل برامج الاغاثة الطارئة. ويقدر احد المصادر ان الاغلاق ادى الى معدل انخفاض سنوي قدره 20 في المئة من الناتج المحلي الاجمالي الفلسطيني بين عامي 1993 و1996. ومن الواضح ان مفهوم الحدود المفتوحة نسبياً، الذي يستند اليه الاطار الاقتصادي الذي نص عليه البروتوكول لم يطبق على النحو الذي كان مرجواً، مما قوض دعائم الفرضيات والوعود التي انطوى عليها الاطار في شكل عام.
وهكذا فإن اسرائيل والسلطة الفلسطينية تواجهان على ما يبدو خيارين رئيسيين: اولهما التصميم على فصل حركة اليد العاملة والسلع عن الاعتبارات الامنية والسياسية، وبالتالي حماية مفهوم الحدود المفتوحة وإتاحة ادائه للدور المنشود في البروتوكول. وكبديل عن ذلك، يمكن للطرفين ان يتفقا على الاعتراف بأن تطبيق مفهوم الحدود المفتوحة غير ممكن في الظروف الحالية. وبالتالي وضع اتفاق لاعادة توجيه احكام البروتوكول حسب واقع الحدود المغلقة نسبياً خلال ما تبقى من الفترة الانتقالية بحيث يكون الهدف من ذلك تحقيق انفتاح اوسع للاقتصاد الفلسطيني على اسواق اخرى غير تلك التي نص عليها البروتوكول.
وربما اعتبر كلا الخيارين غير مقبول لدى هذا الجانب او ذاك، وذلك بسبب قلة جدواه السياسية او لأنه يعتبر مساساً بمفاوضات التسوية النهائية. ومع ذلك فمن الصعب تصور طريق للخروج من المأزق الحالي ما لم يتم اعتماد خيار ما يضم عناصر من كلا الخيارين ومتابعته بعزم. غير ان بروز موقف مشترك يتطلب التصميم على حل المسائل المختلف عليها حلاً سريعاً وعلى أساس حسن النية السياسية المقترنة بالمرونة. ويمكن استخدام بعض عناصر الخيارين بطريقة تكاملية، ومعالجة لجانبين مهمين من جوانب الحواجز الحالية امام تنمية التدفقات التجارية.
فبادئ ذي بدء، ينبغي ان لا تبقى حركة السلع واليد العاملة مرهونة لعواقب حوادث العنف والتدابير الامنية الشاملة. وفي حين ان مفاوضات الوضع النهائي قد تعالج هذه القضية، فإن تصحيح الوضع الحالي مطلوب لما تبقى من الفترة الانتقالية. ومن الطرق العملية ان يتم تحديد "ممرات آمنة" بين اسرائيل والأرض الفلسطينية، حيث يمكن لهذه الممرات ان توفر للجانبين التسهيلات اللازمة لرصد حركة السلع مع الترتيب لتوفير تسهيلات منفصلة لا سيما التعامل مع تدفقات اليد العاملة. وفي حين ان الاشكال الأساسية لهذه الترتيبات موجودة فعلاً بين قطاع غزة واسرائيل، فإن تجارة الضفة الغربية مع اسرائيل ما زالت تحتاج الى قنوات اكثر فعالية. ويمكن لهذه الترتيبات، اذا ما اقترنت بتبسيط اشكال وضوابط العبور، ان تلبي المتطلبات الامنية من دون المساس بنتيجة مفاوضات الوضع النهائي. وينبغي ان يقترن فتح هذه الممرات الآمنة للتجارة مع اسرائيل او عبرها بترتيبات نقل آمن بين الضفة الغربية وقطاع غزة، وهذه قضية من قضايا الترتيبات الانتقالية كانت لا تزال موضع مفاوضات في منتصف عام 1998.
ثانياً، ثمة عملية تجري منذ منتصف الثمانينات للفصل في سوق العمل بين الاقتصادين. وقد استمر التحرك نحو تكامل السوقين حتى عام 1985. واتسم بكون الزيادة في عدد الفلسطينيين العاملين في اسرائيل قد تجاوزت الزيادة في عدد المستخدمين محلياً، وبتضييق الفوارق في الاجور بين السوقين. ثم بدأ هذان الاتجاهان ينعكسان بعد عام 1987، وأصبح يطلب من الفلسطينيين منذ عام 1987، وخصوصاً بعد حرب الخليج في عام 1991، الحصول على تراخيص للعمل في اسرائيل يتم اصدارها وفقاً للاعتبارات الأمنية لا الاقتصادية.
وكيفت اسرائيل اقتصادها مع هذه التغييرات من خلال السماح بدخول العمال الاجانب. ويقدر ان هناك نحو 100.000 عامل اجنبي كانوا يعملون في اسرائيل في عام 1996 بموجب تراخيص رسمية، وان 100.000 عامل اجنبي آخرين كانوا يعملون في اسرائيل في عامي 1995 و1996 من دون تراخيص. لذلك فان الاقتصاد الفلسطيني بحاجة الى اتخاذ تدابير مناسبة للتكيف مع هذه العملية. فالدخل المتناقص الذي يكسبه الفلسطينيون العاملون في اسرائيل لم يعد يكفي لتكملة اجمالي الناتج المحلي من اجل تغطية ارتفاع تكلفة الواردات من اسرائيل وعبرها. ويمكن الحصول على واردات ارخص ثمناً من البلدان العربية، لكن هذا يتطلب تخفيف القيود في شكل كبير على العبور الى الأردن ومصر والتجارة معهما. ولا بد في هذا الصدد من العثور على طريقة لاستبدال اجراءات النقل التي تنقصها الكفاءة التي تنفذ على الحدود وتعرف باسم عمليات النقل "من ظهر الى ظهر".
ومن شأن هذين التدبيرين، اقامة ممرات تخضع للمراقبة من اجل رصد حركة السلع واليد العاملة مع اسرائيل وعبرها، وتخفيف حدة القيود المفروضة على حركة السلع مع مصر والأردن، أن يساعدا على عزل الاطار الاقتصادي في الفترة الانتقالية عن الأثر الناجم عن المقتضيات السياسية والأمنية والذي يضعف هذا الاطار. وبالاضافة الى ذلك فانه يمكن تناول هذين التدبيرين من خلال الآلية التي نص عليها البروتوكول، فهما ليسا بحاجة لاطار جديد ولا يتطلب وضعهما والاتفاق عليهما والبدء بتطبيقهما من ناحية جوانبهما التقنية، اكثر من بضعة اشهر. ويمكن لأي اتفاق على هذه القضايا العملية ان يشكل الأساس لقيام ترتيبات اطول امداً في مجالي النقل والتجارة.
وثمة قضية وثيقة الصلة بذلك يتعين تناولها ضمن اطار البروتوكول بغية تحسين الوضع الاقتصادي في الفترة الانتقالية وهي مشكلة التسرب الضريبي التي تقوض دعائم ايرادات السلطة الفلسطينية وتساهم في عجز موازنتها. وتنجم هذه التسربات عن عدم وجود ترتيبات لتقاسم الايرادات على نحو منصف في ما يتعلق بتحصيل التعريفات والرسوم الجمركية وضرائب المشتريات. وطبقاً لأحكام البروتوكول، فان اسرائيل لا تحول الى السلطة الفلسطينية الرسوم الجمركية التي تحصلها على الواردات الا اذا كانت الشحنة تحمل بطاقة تعريف تشير الى انها مرسلة الى الضفة الغربية او قطاع غزة، وبما ان معظم الواردات الفلسطينية تأتي عبر وسطاء اسرائيليين كجزء من الشحنات المرسلة الى الشركات الاسرائيلية، فإن الرسوم الجمركية المسددة عليها لا تحول الى السلطة الفلسطينية.
وطبقاً لاحدى الدراسات، بلغت الايرادات المستحقة على الواردات عبر الوسطاء الاسرائيليين ما يترواح بين 88 و195 مليون دولار في عام 1992. وإذا ما استخدمت الاجراءات التي تسفر عن أدنى التقديرات، فان ما فقد من الايرادات في عام 1995 يبلغ 126 مليون دولار او 3.7 في المئة من اجمالي الناتج المحلي. والحل العملي لهذه المشكلة قد يتمثل في اتفاق الطرفين على صيغة لتقاسم الايرادات تقوم على اساس التدفقات التجارية الاجمالية. وقد استخدم هذا الاسلوب بنجاح من جانب الاتحاد الجمركي لأفريقيا الجنوبية. وبالنظر الى عدم وجود آلية متفق عليها للتصدي لهذا التسرب الضريبي، فقد اضطرت لحمل السلطة الفلسطينية الى اصدار التراخيص للسماح للتجار الفلسطينيين بالاستيراد من الخارج. ولا بد من تعيين وكلاء محليين بالنسبة لكافة الواردات عبر اسرائيل في محاولة لتطويق دور الوكلاء التجاريين الاسرائيليين. وبالاضافة الى العوائق التي تخلقها هذه التدابير التدخلية، فان هذا الاسلوب لا يوفر سوى حل جزئي من حيث انه لا يشمل المحتوى غير الاسرائيلي للواردات المباشرة من اسرائيل. والى جانب هذا كله، فان الخطوات المتخذة من طرف واحد لا تبشر بالخير في ما يتعلق بالعلاقات الاقتصادية بين الطرفين في المستقبل.
آفاق العلاقات الاقتصادية الاسرائيلية الفلسطينية في المستقبل
على الرغم من الصعوبات الراهنة، ينبغي ان تهدف المفاوضات في شأن قضايا الوضع النهائي، حال الشروع بها، الى التوصل الى اقامة علاقة اسرائيلية - فلسطينية جديدة متوازنة مبنية على اساس المعاملة بالمثل والتعاون. كما ان المزج بين التنسيق والفصل الذي يتميز به السبيل الى تحسين العلاقات الاقتصادية بين السلطة الفلسطينية واسرائيل يمكن ان يفضي الى نهج آخر لصياغة تفاصيل العلاقة بين الطرفين بعد الفترة الانتقالية. ولا تعود صلاحية هذا الاسلوب فقط الى كونه ملازماً لعملية تطوير الادارة الاقتصادية الفلسطينية المستقلة. بل انه يعد صالحاً بالقدر نفسه لاقتصاد ضعيف صغير الحجم يسعى الى الاستفادة الى اقصى حد ممكن من علاقاته مع اقتصاد مجاور كبير ومتقدم.
ويعتقد بصورة عامة ان ديناميات علاقة من هذا القبيل تولد قوتين متناقضتين تؤثران بصورة غير مناسبة على الاقتصاد الاصغر حجماً وتحددان تنميته. ويتمثل احد الآثار الايجابية في زيادة الطلب على منتجات الاقتصاد الصغير، ونشر التكنولوجيا والدراية الفنية، اضافة الى ما يعرف بالآثار غير المباشرة او الانتشارية، الناجمة عن القرب الجغرافي من سوق كبيرة وعن الفرص المتاحة في مجالات التعاقد من الباطن والمشاريع المشتركة والتنسيق في مجال السياحة وغيرها من الخدمات. وتنشأ الآثار غير المواتية عن عدم استدامة العديد من الصناعات في الاقتصاد الصغير، والاقتصار على انتاج السلع التي تتطلب مستويات مهارات متدنية، وهجرة قسم كبير من اليد العاملة الى الاقتصاد المجاور والبلدان القريبة الاخرى. وتعرف هذه الآثار بصورة عامة بآثار "الاجتراف" او "الاستقطاب"، وتنشأ عن قدرة الصناعات الكبيرة الحجم المتسمة بالكفاءة في الاقتصاد المتقدم على التفوق على الصناعات الصغيرة الحجم التي تنقصها الكفاءة في الاقتصاد الأقل تقدماً، وعلى اجتذاب اليد العاملة ورؤوس الأموال منها.
وبالتالي تنشأ من منظور الاقتصاد الصغير مشكلة بالغة الأهمية هي مشكلة توازن الآثار الدينامية التي يوجدها الاقتصاد الاكثر تقدماً. فالى اي حد تساعد هذه الآثار على تعزيز تنمية الاقتصاد الاصغر، وعلى النقيض من ذلك، الى اي حد يمكن لها ان تعيق هذه التنمية؟
من بين العوامل التي تحدد القوة النسبية لهذين الاتجاهين درجة التكامل بين الجانبين. فعلى سبيل المثال، تؤدي ازالة التعريفات وغيرها من الحواجز التجارية بين الاقتصادين الى زيادة صادرات الاقتصاد الصغير الى جاره، اذ ان التبادل التجاري بينهما يتخذ نمطاً يقوم على الميزة النسبية. غير انه لا يمكن الابقاء على هذا المستوى من الصادرات اذا اقترنت التجارة الحرة بتعريفة خارجية مشتركة اتحاد جمركي. ففي هذا النوع من الاتحاد، يتم تحديد التعريفات عموماً انطلاقاً من مصالح حماية صناعات الاقتصاد المتقدم، حتى في سياق تحرير التجارة التدريجي. وترفع هذه الحماية اسعار السلع الرأسمالية والوسيطة المستوردة من جانب الاقتصاد الصغير، وبالتالي تزيد من تكاليف الانتاج. ويمكن لهذه الدينامية ان تعرض الميزة النسبية للخطر، ما لم يتم استثناء الواردات المعنية على وجه التحديد. ومن شأن زيادة التكامل بين الاقتصادين في ظل ظروف كهذه، بما في ذلك حرية تنقل اليد العاملة ورأس المال، ان تقلل من صادرات السلع من الاقتصاد الصغير الى الكبير لصالح تصدير خدمات اليد العاملة.
وبعبارة اخرى، فان التجارة الحرة وحرية تحرك عوامل الانتاج تؤديان بصورة تدريجية الى استبعاد التجارة القائمة على الميزة النسبية وحصرها في التجارة القائمة على الميزة المطلقة مما يؤدي الى تصدير الاقتصاد الصغير لسلع تتطلب مهارات محدودة واستيراد السلع التي تتطلب مهارات رفيعة، وبالتالي يتراجع الاقتصاد الصغير الى وضع المنطقة المتخلفة في بلد متقدم، مثل جنوب ايطاليا وأبلاتشيا الوسطى في الولايات المتحدة.
ويمكن القول بناء على هذه الاعتبارات ان اي اتحاد جمركي مع اسرائيل ليس بالضرورة في صالح الفلسطينيين، سواء في الحاضر او في المستقبل المنظور. وأظهرت الدراسات التي اجريت اخيراً ان التعريفات الخارجية المشتركة التي فرضتها اسرائيل في فترة قبل عام 1994 اسفرت عن زيادة كبيرة في تكاليف الانتاج الفلسطيني وخسارة ملحوظة في وضعه التنافسي. فعلى سبيل المثال، تبلغ تكلفة انتاج الثياب في الضفة الغربية بصورة عامة اكثر من تكلفتها في الأردن. ويعود جزء مهم من الفرق الى ان المنتجين الفلسطينيين يدفعون ضعف السعر في ما يستوردونه من الاقمشة التركية، بالمقارنة مع الاقمشة الافضل نوعية التي يستوردها المنتجون الأردنيون من شرقي آسيا. ولا يستطيع الفلسطينيون تحمل تكاليف استيراد الانسجة الآسيوية بسبب التعريفات المرتفعة التي تحمي صناعة الملابس الاسرائيلية. وبسبب وجود فوارق مشابهة في اسعار المدخلات المستوردة، فان تكلفة المنتجات الزراعية والمواد الصيدلانية والاحذية في الأردن هي اقل من مثيلتها في الأرض الفلسطينية.
والسبب الآخر لارتفاع تكلفة الانتاج الفلسطيني في كل من قطاعي الزراعة والصناعة معدل الاجور المرتفع نسبياً. وتعكس هذه الاجور المرتفعة التشوهات في سوق العمل الناجمة عن عمل الفلسطينيين في اسرائيل. اذ يؤثر تصدير خدمات اليد العاملة الى اسرائيل على الاقتصاد بطريقتين تعزز الواحدة منهما الاخرى. ففي جانب العرض، تؤدي الاجور الاعلى المستحثة في الاقتصاد المحلي والتي لا تمثل مكاسب في الانتاجية المحلية، الى تثبيط الانتاج الزراعي والصناعي. ويعود ذلك الى ارتفاع تكاليف الانتاج، وتدهور مستوى الربحية، وفقدان القدرة التنافسية في الاسواق الاجنبية. وفي جانب الطلب، تؤدي زيادة الدخل الناشئة عن العمل في اسرائيل الى زيادة الطلب الكلي في الاقتصاد المحلي من دون حدوث زيادة موازية في الانتاج. وعليه فان زيادة الطلب على السلع المتداولة تقابلها زيادة في الواردات، وزيادة الطلب على السلع غير المتداولة تقابلها زيادة في الاسعار. وهذا التغير الذي يسمى "المرض الهولندي" في الأسعار النسبية يسبب انكماشاً في السلع المتداولة، ويحفز انتاج السلع التقليدية غير المتداولة.
وبالتالي فان تكامل الاقتصاد الفلسطيني مع الاقتصاد الاسرائيلي في شكل اتحاد جمركي وتشغيل العمال الفلسطينيين في اسرائيل، يمكن ان يؤدي الى وضع تؤثر فيه آثار "الاستقطاب" تأثيراً سلبياً على امكانات التنمية الفلسطينية. ولذلك قد يكون في صالح الاقتصاد الفلسطيني على الأمد الطويل ان يعيد النظر في موضوع الاتحاد الجمركي بهدف اعادة توجيه نظامه التجاري بصورة مستقلة عن السياسات الحمائية للاقتصاد الاسرائيلي التي لا تناسب الهياكل الاقتصادية الفلسطينية.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.