انعقاد القمة الخليجية الأمريكية في الرياض    ولي العهد والرئيس الأمريكي والرئيس السوري يعقدون لقاءً حول مستقبل الأوضاع في سوريا    أمير منطقة الجوف يتسلّم التقرير السنوي لجهود فرع وزارة البيئة والمياه والزراعة بالمنطقة    ولي العهد: شراكة خليجية-أمريكية من أجل السلام والازدهار.. وفلسطين في صدارة الأولويات    رئيس البرلمان العربي يرحب بقرار الرئيس الأمريكي رفع العقوبات على سوريا ويثمن دور المملكة    زلزال بقوة 6 درجات يضرب ولاية موغلا غربي تركيا    شراكة استراتيجية بين مجموعة stc وأوراكل تدعم التحول الرقمي في المملكة باتفاقية سحابية بقيمة 2 مليار ريال سعودي    "البريك" تهنئ أمير جازان ونائبه على الثقة الملكية    ويندام ولو بارك كونكورد تطلقان مشروع فندق100 "سوبر 8" في المملكة ضمن شراكة تمتد لعقد كامل    السعودية للكهرباء تسجل نمواً قوياً في الإيرادات بنسبة 23% لتصل 19.5 مليار ريال في الربع الأول من عام 2025    بلدية صبيا والجمعيات الأهلية تثري فعاليات مهرجان المانجو بمشاركة مجتمعية مميزة    ترامب وعد وأوفى وستبقى السعودية الوجهة الأولى    سيادة الرئيس ترامب.. أهلاً بك رئيساً لأمريكا العظيمة في السعودية العظيمة    ترامب يحل ضيفًا على رؤيتنا.. والرياض تحتفي به    السعودية للشحن الناقل اللوجستي الرسمي لمنتدى الأعمال السعودي الصيني 2025    الأمير عبدالعزيز بن سعد يرعى تخريج أكثر من (8400) طالب وطالبة بجامعة حائل    انخفاض أسعار الذهب    وسام المواطن الأول.. بمرتبة الشَّرف الأولى    أكد أنه رفع العقوبات عن سوريا بناء على طلبه.. ترمب: محمد بن سلمان رجل عظيم والأقوى من بين حلفائنا    السعودية موطن موثوق وقبلة للسلام العالمي    بداية إعادة رسم الخريطة الأمنية.. طرابلس تحت النار.. تفكيك مراكز النفوذ    مجلس الأعمال السعودي الأمريكي: زيارة الرئيس ترمب محطة مهمة في الشراكة الإستراتيجية    الاتحاد يسعى لحسم لقب"روشن" في بريدة    فناربخشة يعرض مبادلة النصيري ب» ميتروفيتش»    رائد التحدي سيعود من جديد    المعلّم والتربية الشعبية    "إهمال المظهر" يثير التنمر في مدارس بريطانيا    ضبط 3 وافدين لارتكابهم عمليات نصب لحملات الحج    سمو ولي العهد يصطحب الرئيس الأمريكي في جولة بحي الطريف التاريخي في الدرعية    "واحة الإعلام" تختتم يومها الأول بتفاعل واسع وحضور دولي لافت    حسين نجار.. صوت إذاعي من الزمن الجميل    الكوادر النسائية السعودية.. كفاءات في خدمة ضيوف الرحمن    أمير الشرقية يطلع على إنجازات وزارة الموارد في المنطقة    بمشاركة دولية واسعة من خبراء ومتخصصين في القطاع الصحي.. السعودية رائد عالمي في الطب الاتصالي والرعاية الافتراضية    "مؤتمر علمي" لترسيخ الابتكار في السعودية الاثنين المقبل    رفع كسوة الكعبة المشرفة استعدادًا لموسم حج (1446ه)    «مبادرة طريق مكة».. تأصيل لخدمة ضيوف الرحمن    الجوازات تكثف جهودها لاستقبال الحجاج    أمير الرياض يستقبل سفير موريتانيا ومدير السجون    الصندوق الكشفي العالمي يثمّن دعم المملكة    حرس الحدود بمنطقة مكة المكرمة ينقذ (4) أشخاص بعد جنوح واسطتهم البحرية    المرأة السعودية.. جهود حثيثة لخدمة ضيوف الرحمن    أمير نجران يستعرض تقرير نتائج دراسة الميز التنافسية    تخريج 3128 خريجاً من الجامعة الإسلامية برعاية أمير المدينة    الأمير فهد بن سعد يرعى اليوم حفل جائزة «سعد العثمان» السنوية للتفوق العلمي في الدرعية    مجموعة الدكتور سليمان الحبيب الطبية تُدشّن أول نظام روبوتي مختبري من نوعه «AuxQ»    برشلونة أمام فرصتين لحسم لقب ال «لاليغا»    بندر بن مقرن يشكر القيادة بمناسبة تعيينه مستشارًا بالديوان الملكي بالمرتبة الممتازة    النصر يعادل الرقم القياسي في لقاء الأخدود    الأمير حسام بن سعود يرعى حفل تخريج 4700 طالب وطالبة من جامعة الباحة    الجمعية الخيرية لرعاية الأيتام بنجران في زيارة لمدير عام التعليم بمنطقة نجران    إنفانتينو: السعودية ستنظم نسخة تاريخية من كأس العالم 2034    ملك البحرين يصل إلى الرياض وفي مقدمة مستقبليه نائب أمير المنطقة    رئيس جمعية الكشافة يكرِّم شركة دواجن الوطنية لدعمها معسكرات الخدمة العامة    قطاع ومستشفى المجاردة الصحي يُنظّم فعالية "اليوم العالمي لنظافة الأيدي" و "الصحة المهنية"    انطلاق منافسات "آيسف 2025" في أمريكا بمشاركة 40 طالبًا من السعودية    أطفالنا.. لسان الحال وحال اللسان    100 مبادرة إثرائية توعوية بالمسجد النبوي.. 5 مسارات ذكية لتعزيز التجربة الرقمية لضيوف الرحمن    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الصاعقة من ملفات المخابرات العامة . أجهزة المخابرات سربت معلومات كاذبة عن ضعف قدرات الجيش العسكرية
نشر في الحياة يوم 21 - 10 - 1998

استمر إدوارد في دفع هشام محجوب، مستغلاً احتياجه المادي، نحو جمع معلومات بسيطة في البداية عن أسعار الأراضي، وإمكان الحصول على مقر للشركة البلجيكية للجرارات في مصر. وعند عودة هشام إلى لندن كان يتوق إلى توقيع اتفاق بالعمل مع الشركة، فأنبأه إدوارد بأن حلمه على وشك أن يتحقق وأن رئيس الشركة البلجيكية وصل إلى لندن، وسوف يلقاه في فندق ستراند، ولما ذهب إلى هناك أخبره إدوارد أنه غيّر مقر إقامته إلى شقة في بالاس غرين، وعند اصطحابه إلى هذا المكان، انقض عليه حراس أربعة لتفتيشه ذاتياً ثم قال له إدوارد بغلظة يا عزيزي أنت - الآن - في السفارة الإسرائيلية.
المبنى رقم 2 في شارع بالاس غرين، هو مقر السفارة الإسرائيلية في لندن منذ نشأة الدولة عام 1948، وقبل مئة عام، كان يقطن هذا البيت ذا الواجهة المكونة من الطوب الأحمر، وأطر النوافذ البيضاء مؤلف يهودي مشهور اسمه موزاريت مونتفريو.
المكان شكله موج غامض، وباعث على محاولة التقصي، والاكتشاف.
لا يمكن لأحد أن يتصور طبيعة ما يجري داخل هذا المبنى - الآن - من أحداث، بطلها هشام محجوب، الذي كان - من دون أن يدري - قد بدأ انزلاقة في هذا الطريق منذ مدة طويلة، ربما من اللحظة التي قابل فيها رأفت مدير الرويال لانكستر.
إن عشرات الصور تمر أمام عينيه - الآن - وعشرات الجمل يقوم باستدعائها إلى ذاكراته، وجميعها تكتسب في هذه اللحظة معاني مغايرة، لما حاول أن يخدع نفسه به من قبل، أو ينفض تأثيره من دماغه ببساطة. لقد حاول أن يتجاهل ويرفض، الحقيقة، التي تفرض نفسها - عليه - بقسوة في هذه اللحظات.
كان السنجاب حبيساً في دار السفارة الإسرائيلية في لندن!. وكان ذهاب هشام مع إدوارد إلى دار السفارة، مثيراً للاهتمام والدهشة في آن واحد من رجال المتابعة.
إذ أنه من غير الطبيعي أو المنطقي، أن تصطحب العميل، إلى دار السفارة، وإن حدث هذا فلا بد أن يكون بسبب غير عادي، أو استثنائي.
وفي ما بعد ومن خلال أوراق التحقيقات انفكت طلاسم هذا العمل غير المفهوم، عن حقيقة مذهلة، حيث كان الصلف، والغرور وتعالي الموساد، هو السبب في تجاهل هذا الإجراء التأميني الأولي والبدائي. إذ كان الجميع في الموساد يظنون أن جهاز المخابرات المصري لا يمكن أن يكون متابعاً للقصة منذ بدايتها على هذا النحو، كما تصور بعض أفراد الموساد، أن اللجوء لتصرف غير طبيعي على هذا النحو، يحقق - في ذاته التأمين الكامل، لأن أحداً لن يتصوره.
أما في القاهرة فقد كان دخول هشام محجوب إلى دار السفارة الإسرائيلية في لندن، يمثل لفريق إدارة العملية، ضوءاً أحمر، يؤكد أن العملية دخلت بهذه الزيارة، حيز التكليفات الحقيقية المباشرة لهشام. وبدأت تحركات مضادة، تقوم على فتح قنوات اتصال، بحذر، مع بعض المحيطين بهشام في العمل، وفي القاهرة، وكذلك في لندن، حتى تكون حركته وأهدافه مكشوفة من لحظة التكليف.
على أية حال، أدخل الفأر نفسه في المصيدة، وابتلع الطعم حتى آخره، وجلس مذهولاً في الغرفة الضيقة المغلقة بين أربعة جدران، ووحيداً لمدة ساعة كاملة، حتى فاجأه إدوارد بأنه داخل السفارة الإسرائيلية، وأنه قد أصبح عميلاً لهم سواء قبل أو لم يقبل!
ولما لم يجد إلا الصمت والذهول على وجه هشام أكمل إدوارد، ولكن بنبرة ناعمة وحنون: "أنت الآن صديقنا" ونحن نمد يدنا إليك وعليك أن تقبل صداقتنا.
وفيما كان هشام يجلس على مقعده بلا حراك، كان إدوارد يدور حوله، وهو يتلوى كحية ويضرب برفق على راحة يده، مستخدما فتاحة أظرف فضية.
كان ينتظر رد فعل من هشام يفيد الموافقة. يسعى لمناقشة أي شيء. ولكن هشام كان قد توقف عن التفكير، وفقد - ولو مؤقتا - قدرته على النطق. وعاد إدوارد يفصح عن شراسة متوحشة، وهو يردد بنبرات هامسة، ولكنها ضاغطة على كل خلية من أعصاب هشام.
"لدينا إيصالات بتوقيعك، بلا تواريخ وصورة لك معنا والأوراق التي سبق وسلمتها لنا بخط يدك. ونستطيع أن نضع عليها تواريخ قديمة، تؤكد تعاملك معنا منذ سنوات طويلة، بل إننا سوف نقوم بكتابة تقارير عسكرية وسياسية واقتصادية نقلد فيها خطك، ونرسلها إلى المخابرات المصرية، إذا لم تتعاون معنا وتصبح طوع إشارة من أصبع يدي الصغير. وإذا حاولت ابلاغ السلطات المصرية، سنرسل كل هذا أيضا إلى المخابرات المصرية، لكي يعرفوا أنك رجلنا منذ سنوات".
أسقط في يد هشام، وأدرك ساعتها أنه قد أصبح، بالفعل، سواء أراد أو لم يرد، عميلاً لإسرائيل.
كل ما فعله هو أن هز رأسه، ثم أطرق غارقاً في الصمت الرهيب.
وعندما أدرك إدوارد أن السيطرة على العميل قد تمت على أحسن وجه، عاد مرة ثانية إلى الحديث إليه بلهجة ناعمة، وحاول إخراجه من الإحساس القاتم الذي سقط فيه، مطمئناً إياه، أن أحداً لن يستطيع اكتشاف العلاقة أبداً، وأنه يعمل مع أقوى جهاز مخابرات في العالم الموساد، وأن هذه العلاقة ستمنحه مالاً ووضعاً لا يحلم بهما. وبدأ إدوارد يحصل منه على معلومات أكثر تفصيلاً عن كل من يعرفهم في القوات المسلحة من أقارب وأصدقاء وفترة خدمته وتجنيده بالقوات المسلحة المصرية وقام بتلقينه بتعليمات الأمن اللازمة وحدد له موعداً في اليوم التالي.
وفي اليوم التالى، كان لقاء آخر بين إدوارد وهشام في فندق ستراند، مستغلين مداخله ومخارجه العجيبة في التمويه، وتأمين اللقاء، والعجيب أنه لجأ للتمويه في مقابلات فندق ستراند، بينما كان لقاء التجنيد الحقيقي قد تم في دار السفارة، ومن دون أية سواتر.
جلس إدوارد إلى ضحيته الذي بدأ يفقد توتره وغضبه بخاصة أن إدوارد أعطاه مظروفا مليئا بأوراق مالية عند اللقاء في الفندق.
واتفق الطرفان، على أن يخرج كل منهما من أحد أبواب فندق ستراند، ويستقل سيارة تاكسي، تتجه إلى عنوان معين كتبه له إدوارد.
وحين وصلت سيارة الأجرة إلى هذا العنوان في ميدان سلون أحد أرقى أحياء العاصمة تبادل إدوارد وهشام النظرات، ثم دلف كل منهما منفرداً الى باب البناية، التي تعلو محطة سلون سكوير لمترو الأنفاق.
وعندما وصلا إلى عتبة الشقة 83 في الدور الثامن، كان إدوارد يتلفت، حتى يتأكد أن أحداً لم يتبعهما.
رن الجرس بسرعة، ففتح شخص، ليطل برأسه أولا، ثم يدعوهما للدخول. قام إدوارد بتعريف هشام، بهذا الشخص، وقال إن إسمه جورج. وبدأت في هذه الشقة، أولى وقائع تدريب الجاسوس هشام علي محجوب، على استخدام الحبر السري في الكتابة، في مراسلته لهم وتحديد عنوان للتراسل. وأسلوب استقباله للتعليمات الصادرة له منهم بواسطة الراديو.
وقد ساعدت دراسة هشام في معهد اللاسلكي على هذا كثيرا، ولم يكتف جورج وإدوارد بهذا، بل أشارا إلى بعض ملاحظات، يمكن إذا درسها هشام ومع بعض التدريب أن يجيد اسلوب اجادة العلاقات مع الآخرين وكيفية استخدام وسائل الاخفاء.
على أية حال لقد بدأت تكليفات الموساد لهشام، بالحصول على معلومات متنوعة في المجال العسكري أو المدني وكان رجال المخابرات المصرية يتوقعون أن يتقدم هشام إليهم من تلقاء نفسه بعد هذه المرحلة للابلاغ عما حدث ولكنه فضل التعامل مع المخابرات الإسرائيلية.
وكانت فترات إقامة هشام في لندن، أو في القاهرة تتجدد بنوع التكليفات، كانت كيمياء هشام تتغير من الداخل. نسي الصدمة والدهشة، والغضب والخدعة. وغرق إلى آخر مدى في تلبية إحتياجات جورج، بل وأصبح - أحيانا - يبادر، من دون أن يطلب أحد منه الإبلاغ عن أحوال بعينها. وإستمرت متابعة هشام مع إحكام السيطرة على جميع تحركاته ومراسلاته السرية بالإضافة إلى دفع بعض الضباط من أصدقائه لمده بالمعلومات التي يرغب الحصول عليها لدسها عليه من دون علمه بما يخدم المصلحة القومية للبلاد واستغلال ذلك في التحضير لخطة الخداع الاستراتيجي لحرب أكتوبر 1973.
أثناء وجود هشام في لندن كان دائم التردد على حانة في منطقة نوتينغ هيل غيت، بجوار بنك باركليز، اسمها "البجعة" وكان يحاول اجتذاب بعض الأفراد المصريين العاملين في مؤسسات مختلفة لمعرفة أي أخبار منهم بدعوتهم إلى مشروب فيها، والثرثرة معهم عن كل شيء.
وقد كان مكان هشام المفضل هو الجلوس على البار في آخر مقعد على الشمال، حتى يستطيع أن يرى في المرآة المواجهة له، ما إذا كان هناك من يراقبه خلف ظهره. وكان موقع هذه الحانة قريبا من رويال لانكستر، أو الفندق الذي كانت بعض مجموعات مصر للطيران تنزل فيه، وكان هشام بوصفه زميلا لهم، يحاول أن يستدرج بعضهم إلى معرفة معلومات عن من الذي كان يجيء على طائرات مصر للطيران، وبالذات من المسؤولين، وكان ذلك في كثير من الأحيان - وقتها - سراً لا يعلمه أحد، كما كان موقع هذه الحانة قريباً من مدخل شارع بالاس غرين، الذي يخترق حديقة كينزنغتون الملكية، وهو الموقع الذي توجد فيه السفارة الإسرائيلية، تلك التي ارتبطت في ذهن هشام بذكرى لا تنسى.
نعم كانت كيمياء هشام تتغير!.
كان يسأل الطيارين بطرق غير مباشرة وأساليب لا تثير الشكوك عما اذا كانوا قد لاحظوا تغييرات معينة في القواعد العسكرية، التي تمر طائراتهم إلى جوارها، وكان يسألهم عما إذا كانوا ما زالوا يلتقون بزملائهم الطيارين العسكريين، الذين تزامل بعضهم معهم في الكلية الجوية وقت الدراسة، ويسأل عن أنواع الأسلحة الجديدة، والروح المعنوية داخل الجيش، وقدرات سلاح الطيران. ثم إنه كان يسأل عن بعض قواعد القوات الجوية بالذات. وكان رجال المخابرات المصرية الذين يتابعون العملية في القاهرة ولندن، يلاحظون أن "السنجاب" نشيط جدا، في جمع ثمار البندق والكستناء، وأن الجاسوس قد نشط في جمع الأخبار والمعلومات. وبدأت مرحلة معقدة جداً من متابعتهم للعملية، إذ عمدوا الى تسريب البيانات والأخبار المضللة إلى هشام.
وإستمر استخدام عناصر من العاملين في مصر للطيران، والمؤسسات المصرية في لندن وبعض أصدقاء شقيقه في القوات المسلحة لتسريب معلومات تسبب - من دون أن يدري - في إرباك القرار العسكري الإسرائيلي.
كان العمود الفقري لهذه المعلومات هو الحديث عن أن جزءاً كبيراً من طائرات سلاح الجو المصري السوفياتية الصنع، سوف تصبح خردة في ظرف شهور، إذا استمر تباطؤ موسكو في إمداد مصر بقطع الغيار وأن النسبة الغالبة من المعدات الخاصة الموجودة في قاعدة كوم أوشيم، لا تستطيع الصمود في معركة يزيد طولها عن 48 ساعة، لعدم توافر خطوط ذخيرة، أو قطع غيار.
وأن بعض القادة والضباط قد بدأوا بالفعل تنفيذ، ما نشرته بعض صحف القاهرة، من الحصول على إجازات لأداء العمرة !.
وفوق هذا مجموعة من التصريحات المكذوبة، والمنسوبة إلى القادة تؤكد أن احتمال الحرب هو احتمال مستحيل، وأن التصريحات السياسية التي تؤكد مثل هذه المسألة هي محض أقوال للاستهلاك المحلي.
وإمعاناً في زيادة مصداقية هذه المعلومات الكاذبة، لدى العدو، فقد كان رجال المخابرات المصرية يزودونه هنا - عن طريق وسطاء طبعاً - بتفاصيل فنية تزيد من أرجحية وثقل المعلومات التي سينقلها إلى إسرائيل وإلى الموساد.
من ضمنها مثلاً أن خراطيم الوقود في الطائرات المصرية، السوفياتية الصنع، في شح شديد، وأن هذا العيب في ذاته كفيل بتعطيل جزء غير بسيط من طاقة وقدرة سلاح الجو في مصر، وأن أجهزة التنشين الليلي لم تصل إلى القاهرة، ومن ثم لم يتم تركيبها على بعض المعدات بما يضعف قدرة هذه المعدات على القتال في جميع الأجواء.
وأخيراً فقد كان هشام - القناة التي عملها - ينقل معلومات خاطئة إضافية لإسرائيل، عن نيات مصرية بتسريح دفعات كبيرة من قواتها المسلحة، وأن المناورات التي تقوم بها هذه القوات، هي مجرد محاولات فاشلة، لرفع الروح المعنوية لأفراد القوات المسلحة حتى لا يتمردوا ولخداع الشعب حتى لا يثور.
لقد تم استخدام هشام في فصول خطة الخداع الاستراتيجي لحرب أكتوبر 1973، حتى ساهمت المعلومات التي نقلها في إقناع قادة إسرائيل بأن مصر لن تحارب ولو بعد مئة عام. أما هشام نفسه، فقد بدأ يتصرف كجاسوس محترف.
وكان ينوع مداخله، وطرق وصوله إلى كل من شقة جورج في سلون سكوير، أو إلى دار السفارة الإسرائيلية في بالاس غرين. فمرة يدخل إلى بالاس غرين من ناحية نوتينغ هيل غيت، بعد أن يكون قد احتسى مشروباً في حانة سوان، أو جلس يعتصر بعض المعلومات من شخصية يختارها بدقة. ومرة يدخل إلى نفس الشارع من بالاس غيت، وشارع كينزنغتون غروف العريض الشهير، الذي تربض فيه قاعة الموسيقى العظيمة "رويال ألبرت هول"، كإحدى علاماته التي لا تغيب عن البال.
أما شقة جورج فقد كان يصل إليها أحيانا بتاكسي، أو يجلس على مقهى بالم تحتها، ثم يتمشى إلى بوابة بنايتها، أو يركب مترو الإنفاق، ويركب المصعد من النفق مباشرة، من دون حاجة إلى أن يظهر على سطح الأرض.
وبدا هشام منهمكاً في عمليات جمع المعلومات، وتسليمها باليد، أو إرسالها بالشيفرة وبالحبر السري، على عناوين بعينها في أوروبا، وفي إنكلترا نفسها تم تلقينها له، كما بدا منهمكاً في الحصول على المال، بل وبدأ يدخل في عمليات مساومة حول زيادة سعر المادة التي يأتي بها.
بعبارة أخرى بدأ يعرف قيمة البضاعة التي يبيعها. البضاعة التي لم تكن تعني - من زاوية أخرى غير تلك التي ينظر منها - سوى الوطن وشعب هذا الوطن. الآباء، والأشقاء، والأبناء، والأصدقاء.
وكذلك بدا هشام أثناء وجوده في لندن منهمكاً في أن يعيش فصول حياته الجديدة، حيث يذهب إلى كازينو البلاي بوي وحده، وإلى المطاعم الفاخرة، وبدأ يتعلم مصادقة البنات، والإنفاق عليهن.. بل وبدأ يحجم عن إمداد أبيه بكل المصروفات اللازمة لعلاجه، مفضلاً أن ينفق ماله على هذا اللون من الإنفاق الجديد... واللذيذ. كما أصبح المكتب الذي استأجره في مصر، يسبغ وجاهة شديدة على شاغله.
وبالطبع عرف هشام أنه لا توجد شركة بلجيكية للجرارات ولا يحزنون، وأصبحت صفة هذا المكتب استيراد بعض الأجهزة الكهربائية الكمالية التي لا تصنعها مصر، وطرحها في المعارض التي تزخر بها الأسواق.
وفي يوم السبت السادس من أكتوبر، وفي الساعة الثانية والنصف، كان هشام يتسكع في شوارع القاهرة، باحثاً عن قميص ظريف، وربطة عنق، يرتديهما في سهرة صاخبة كان قد خطط لها.
وفجأة تسمر في مكانه، إذ طرقت أذنه بعنف عبارة، أطلقها رجل جواره، وهو يخاطب آخر: "الحرب قامت. ومصر وسورية هاجمتا إسرائيل".
لم يكن هشام يدري - بالضبط - ما نوع هذا الشعور العفوي التلقائي الذي بدر منه عندما سمع الجملة. كان شعوراً فاقد الهوية، يتأرجح بين الفرح والغضب والخوف، إلى أن إستقر، بتأثير العوامل الواقعية، التي تشكل حدود ملعبه الحالي، إلى أن يصبح شعوراً بالخوف، والرغبة في أن تنهزم مصر وتنهزم سورية.
عاد هشام بسرعة إلى منزله وبدأ في أرسال خطابات للموساد على العناوين المحددة له ولكنها لا تصل حيث كانت المخابرات المصرية تحصل عليها قبل وصولها الى العدو. وكانت الساعات التالية تحمل أنباء الاكتساح الهادر الذي حققته القوات المصرية لخطوط إسرائيل. وبدأ هشام يشعر أنه أصبح مسكوناً بالخوف، واستمر يحاول الاتصال بإدوارد وجورج من خلال الخطابات.
نزل هشام إلى الشارع يحاول إلهاء نفسه بأي شيء. لم يكن يفكر سوى في نفسه. لم يتذكر حتى أمه، أو أخيه الذي لا بد أنه - في تلك اللحظات - كان يشارك في القتال المستمر الذي يدور خندقاً بخندق، وموقعاً بموقع. وانطلقت المسيرات في مصر تؤيد القوات المسلحة وتزغرد من أجل العبور.
هذا المشهد العظيم في أكتوبر 1973، جعل هشام على يقين بأن طريقه، هو في إتجاه واحد، إلى إسرائيل.
وبعد أن إنتهت الحرب التي أعادت الكرامة لكل العرب، وحطمت غرور إسرائيل وأذاقتها الذل، دخل هشام علي محجوب مرحلة جديدة في علاقته بإسرائيل، إذ كان يود أن يؤكد للموساد إخلاصه، وأن المعلومات التي ينقلها إليهم صحيحة، وأنه لا يعرف كيف إستطاعت مصر أن تحارب، على الرغم من كل المعلومات التي توافرت لديه قبل ذلك، ونقلها جميعا إلى إسرائيل.
ومن جهة أخرى فقد كان الموساد يشك - بقوة - في هشام بعدما إعتمدت قيادات لقطاعات كثيرة من الجيش الإسرائيلي، على المعلومات المضللة التي كان يمدها بها، واتخذت من القرارات قبيل القتال، وأثناءه، ما نجمت عنه هزيمة إسرائيل الكاسحة.
إنغمس هشام - أكثر - في وحل الهوان والخذلان -، بذهابه إلى إسرائيل بجواز سفر باسم آخر، من مطار أورلي في فرنسا.
وفي تل أبيب قام رجال الموساد - بحضور إدوارد الذي كان يقول دائما: "معي الكتالوغ الخاص بهذا الولد" - باستجواب هشام، وذلك للتأكد من أنه ليس كاذبا. ثم رأى الموساد أن يعاد تدريب هشام من جديد، على استخدام جهاز لاسلكي حديث، ثم عاد إلى فرنسا ومعه جهاز لاسلكي عبارة عن بار خشبي للتمويه.
كل هذا وعيون مصر الساهرة تتابعه في كل خطوة، حتى داخل إسرائيل نفسها. وبعد عودة هشام للقاهرة، دخل رجالنا إلى مقر إقامة هشام، وعطلوا جهاز اللاسلكي.
وكانت هذه رسالة أزعجت الموساد جدا، إذ أن تعطيل الجهاز بهذا الشكل كان يعني أن هشام تحت الرقابة، إلا أن الكفاءة الفنية المذهلة لرجالنا، جعلت من عملية تعطيل الجهاز تبدو، وكأنها عملية طبيعية وليست وليدة تخريب حيث سبق التعرف على إمكانات هذا الجهاز من عمليات سابقة في المخابرات المصرية.
ومرة أخرى سافر هشام إلى تل أبيب - عبر فرنسا - حيث تم تدريبه على جهاز لاسلكي آخر جديد ووضع في وسيلة إخفاء مختلفه ثلاجة صغيرة.
وعند ذلك صدر قرار جهاز المخابرات العامة في مصر، بإغلاق ملف عملية السنجاب، بعد أن أدت دورها وحققت أغراضها لمصلحة الأمن القومي المصري.
وصدرت التعليمات إلى عناصر الأمن المصرية من كلمة واحدة متفق عليها وهي الصاعقة ليتم القبض على هشام بالتنسيق مع نيابة أمن الدولة.
هل تريدون أن تعرفوا آخر ورقة في ملف هذه القصة التي تمتزج فيها البطولة والنصر، بالخزي والخذلان، والصعود بالسقوط، بطولة رجالنا الذين يسهرون على سلامة الوطن وسلامة المواطن وخزي وخذلان من باعوا الأوطان بأرخص الأثمان؟!.
في القاهرة جرى التحقيق معه، بمعرفة رجال نيابة أمن الدولة، وقدم للمحاكمة، وأمام المحكمة اعترف تفصيليا بخيانته وعاره.
وكان الحكم الرادع هو الإعدام.
ولكنه لم يصل إلى منصة الإعدام، فقد مات في السجن قبل التنفيذ، وهو - في الحقيقة - كان قد مات قبل ذلك بوقت طويل... طويل... منذ أول لقاءاته مع العدو بقلب ميت وضمير ميت.
* رئيس تحرير "الأهرام"


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.