وزير الخارجية يلتقي السيناتور الأمريكي بيتر ويلش والسيناتور كريس كونز    "كريستيانو رونالدو": السعودية بلد رائع وآمن    السومة يهدف الحزم التفوق على نيوم في كأس الملك    وزارة الداخلية بالشراكة مع هيئة تطوير بوابة الدرعية تشارك في احتفالات اليوم السعودي ال(95)    الطبيب السعودي في عصر النهضة    القيادة تعزّي حاكم الشارقة في وفاة الشيخ سلطان بن خالد بن محمد القاسمي    رئيس أمن الدولة يرفع التهنئة للقيادة بمناسبة اليوم الوطني ال95    ضمن فعاليات اليوم الوطني ال95 صحة جازان تطلق مبادرة "نفق الحياة" بالكورنيش الشمالي    سمو أمير منطقة جازان يرفع التهنئة للقيادة الرشيدة بمناسبة اليوم الوطني للمملكة ال 95    مجلس شؤون الأسرة يرأس وفد المملكة في المؤتمر العالمي الرابع للمرأة بنيويورك    خادم الحرمين: نحمد الله على ما تحقق من إنجازات في بلادنا الغالية    الذهب يقفز فوق 3800 دولار مع ترقب كلمة رئيس "الفيدرالي"    مسؤولو مركز الملك سلمان للإغاثة يلتقون وزير الصحة السوري    حكام إمارات الشارقة وعجمان والفجيرة وأم القيوين ورأس الخيمة وأولياء العهود ونوابهم يهنئون خادم الحرمين وولي العهد باليوم الوطني ال"95" للمملكة    "وِرث" تنفذ مبادرة لتعزيز الهوية الثقافية السعودية للمسافرين    ولي العهد يؤدي صلاة الميت على المفتي عبدالعزيز آل الشيخ    اطلاق النسخة الخامسة من مبادرة عطاء القطاع الصحي الخاص "وَليد"    القيادة تتلقى التهاني بمناسبة اليوم الوطني للمملكة    عزّنا بطبعنا.. والجواهر من مناجمها    الأغاني الوطنية تشعل مسرح عبادي الجوهر أرينا في اليوم الوطني 95    الهلال الأحمر بالقصيم يكمل جاهزيته للاحتفال باليوم الوطني ال95 ومبادرة غرسة وطن وزيارة المصابين    الأحساء تشهد نجاح أول عملية بالمملكة لاستئصال ورم كلوي باستخدام جراحة الروبوت    أمير جازان ونائبه يزوران معرض نموذج الرعاية الصحية السعودي    الخارجية الفلسطينية ترحب باعتراف بلجيكا ولوكسمبورغ ومالطا وموناكو وأندورا بدولة فلسطين    في بيان مشترك.. الدول الأعضاء في منظمة التعاون الرقمي تؤكد التزامها بالتعاون الرقمي    الجفالي للسيارات ترعى مبادرات اجتماعية بمناسبة اليوم الوطني 95    أمين منطقة القصيم في اليوم الوطني 95 يكتب فصلاً جديداً من المجد بقيادة حكيمة ورؤية طموحة    المشي المنتظم يقلل خطر الإصابة بآلام الظهر المزمنة    مركز التنمية الاجتماعية بوادي الدواسر يحتفي باليوم الوطني ال95 للمملكة    وفاة مفتي عام السعودية عبدالعزيز آل الشيخ    فضيلة المستشار الشرعي بجازان: " قيادة وشعبًا متماسكين في وطنٍ عظيم "    أهمية اتفاق الدفاع الاستراتيجي المشترك بين السعودية والباكستان    إضراب عام يشل الحياة في إيطاليا تضامنا مع غزة    100 شاب يبدؤون رحلتهم نحو الإقلاع عن التدخين في كلاسيكو جدة    الأمن يحبط تهريب 145.7 كجم مخدرات    قاطرة قوية ومعدلات تاريخية.. 56 % من الناتج المحلي غير نفطي    تعزيز التنافسية السعودية عالمياً.. توطين التقنيات والصناعات الذكية    تقديم تجربة تنقل حضرية متكاملة.. قطار سريع يربط القدية بمطار الملك سلمان    جروهي يقود الشباب لثمن نهائي كأس الملك    «كلهم بيحبوا» ياسر جلال في رمضان    ساره السلطان تفوز بمسابقة «كأس العالم للرسم»    في نهائي كأس إنتركونتنتال للقارات.. الأهلي بطل آسيا في مواجهة بيراميدز المصري بطل أفريقيا    الفرنسي ديمبلي يتوج بجائزة الكرة الذهبية لعام 2025    دبلوماسية تبني الاستقرار.. السعودية.. وسيط الثقة وصوت السلام الدولي    اليوم الوطني.. وحدة وبناء    إسرائيل تحذر من عملية برية واسعة في لبنان    اسكتلندا: إسرائيل ترتكب إبادة في غزة    مجد يعانق العلياء    حفاظاً على جودة الحياة.. «البلديات»: 200 ألف ريال غرامة تقسيم الوحدات السكنية    يومنا الوطني المجيد    الأحوال المدنية تشارك في فعالية وزارة الداخلية "عز الوطن" احتفاءً باليوم الوطني ال (95) للمملكة    غارات ونسف مبانٍ وشهداء ودمار في غزة    الوطن واحة الأمان    محمد.. هل تنام في الليل؟    "عزنا بطبعنا" وثبات القيم    العلا وجدة والجندل في صدارة "يلو" بالعلامة الكاملة    القوات الأمنية تستعرض عرضًا دراميًا يحاكي الجاهزية الميدانية بعنوان (حنّا لها)    عزنا بطبعنا.. المبادئ السعودية ركيزة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



قصة - رجل مجهول
نشر في الحياة يوم 21 - 06 - 2011

كلنا قرأنا تشيخوف، وأعجبنا بأقاصيصه القصيرة، وبمسرحياته. لكنني أعتقد أن قصته الطويلة «قصة رجل مجهول»، التي يصعب تصنيفها ضمن أي نوع أدبي، هي أروع كتاباته. إنها من بين الأعمال الأدبية التي قرأتها مرات، وفي كل مرة يتجدد إعجابي بها. عنوانها بحد ذاته يثير الفضول، وله قصة، سأعود إليها بعد أن أتحدث عن موضوعها الجميل والفريد من نوعه.
كان الاغتيال قد أصبح ظاهرة في الحياة السياسية في روسيا في النصف الثاني من القرن التاسع عشر. وأصبح شاغل الأدب أيضاً، بمقدار ما تسمح به الرقابة. وهنا يمكن ذكر رواية «الآباء والبنون» لتورغنيف مثلاً. لكن تشيخوف تصدى لهذا الموضوع على طريقته الخاصة. فهو يستهل قصته بهذه الكلمات المثيرة للفضول: «لأسباب ليس من المناسب الآن بحثها بالتفصيل، كان لزاماً عليّ أن أصبح خادماً عند موظف معين في سان بطرسبورغ يدعى أورلوف». وبعد ذلك بقليل يقول: «دخلت في خدمة هذا الأورلوف من أجل أبيه، رجل الدولة الشهير، الذي أعتبره عدواً خطيراً للقضية التي أؤمن بها». وسنرى كيف استقر تشيخوف على العنوان الأخير للقصة، وكيف اعتُمد العنوان في النص الأصلي، وفي الترجمات. فالعنوان، كما نعلم، مهم، ويشغل بال الكتاب كثيراً.
في أيلول (سبتمبر) 1891 كتب تشيخوف الى محرر مجلة «رسول الشمال»: «لدي قصة قصيرة جاهزة تقريباً لك: انها لا تزال مسوّدة، وفي حاجة الى المراجعة ووضعها في الصيغة النهائية (...) سميتها «قصة أحد مرضاي». بيد أن هاجس الرقابة يؤرقني كثيراً: هل سيسمح بها المسؤولون عن الرقابة؟». ثم كتب في 1893 الى محرر مجلة «الفكر الروسي»: «فكرت في أن أكتب توضيحاً من عندي، لأبين كيف أن مخطوطة تعود الى رجل مجهول أصبحت في حوزتي...». وتخلى عن العنوان «الطبي» الذي لم يجده ملائماً. لكن أي عنوان يختار لهذا العمل؟ فالقصة أصبحت جاهزة للنشر، وهي لا تزال بلا عنوان. لكنه أعمل فكره، وسجل سبعة عناوين، رُفض بعضها بلا نقاش، مثل «بلا عنوان»، و «قصة بلا إسم»، و «قصة أحد معارفي»، و «الخادم»... إلخ. الشيء الوحيد الذي يبدو مقبولاً هو ما له علاقة بكلمة «مجهول». وهذا ما استقر عليه تشيخوف أخيراً. لكن عنوان النسخة الإنكليزية التي لديّ هو «قصة لا أحد». وأنا فضلت عنوان الترجمة العربية التي صدرت في 1948 عن دار الكاتب المصري، وهو «قصة رجل مجهول».
هناك ثلاثة أبطال رئيسيين في هذا العمل القصصي، هم: الراوي وهو الخادم المفتعل ستيبان، وأورلوف إبن رجل الدولة المستهدف، وزينايدا فيدوروفنا حبيبة أورلوف. وهناك أبطال ثانويون، هم: الخادمة بوليا، وثلاثة أصدقاء لأورلوف. أما رجل الدولة المستهدف فلا يظهر سوى في مشهد واحد عندما يزور إبنه في منزله، ولا يجده بل يجد الخادم ستيبان، الذي يفكر في أن الفرصة أصبحت سانحة لتحقيق غرضه. لكن ستيبان لم ينفذ غرضه. لقد غيّر رأيه بعد أن لاحظ لطف الرجل وتأثير الشيخوخة فيه. ولم يبق مبرر لانتحاله دور الخادم. لكننا قبل الانتقال الى المرحلة الثانية من القصة، نرى أن نشير الى حدث آخر مهم في حياة أورلوف، هو أن حبيبته المتزوجة زينايدا فيودوروفنا تترك زوجها، وتباغت أورلوف بالانتقال الى بيته. لكن أورلوف تحمّل هذا «الإنزال» على مضض، وصار يدعي السفر أياماً، لكنه كان يقيم عند أحد أصدقائه، وزينايدا لا تعلم بكذبه.
هنا تبدأ المرحلة الثانية من القصة. سنجد أنفسنا أمام أبطال ثلاثة كلهم من صنف البطل المضاد، السلبي، الى هذا الحد أو ذاك. هؤلاء الأبطال الثلاثة هم: أورلوف، وحبيبته زينايدا فيودوروفنا، وستيبان (الخادم) الذي سيعلن عن حقيقته ويذكر اسمه الحقيقي فلاديمير إيفانوفتش. لكن أورلوف سيخرج من المسرح، ولن يعود الى الظهور إلا في ختام القصة. فهل تقلص هذا النص القصصي من عالم الرواية الذي كان عليه في النصف الأول من القصة الى عالم القصة القصيرة، الذي لم يغرب عن بال تشيخوف، لأنه بقي متردداً بين الإطالة وإنهاء القصة بالسرعة الممكنة. وصار يميل الى الحل الأخير، لأن القصة اقتصرت في الأخير على شخصين فقط، وستكون مملة إذا استطالت. تلك هي حساسية تشيخوف الفنية، مع ان القارئ (أنا مثلاً) كان يود لو أن المؤلف لم يتعجل في إنهائها، لأن العلاقة بين إيفانوفتش (الناشط السياسي المتراجع عن مهمته) وزينايدا بدأت تصبح مثيرة للاهتمام. لكن ينبغي ان نعود الى القصة.
بعد أن غير الخادم (ستيبان) رأيه في اغتيال والد أورلوف، رأى أن يكشف النقاب عن حقيقته ويترك عمله كخادم. لكنه رأى في الوقت نفسه أن يفضح زيف أورلوف وكذبه على زينايدا، لكي لا تبقى هزأة في نظر الجميع بمن فيهم الخادمة بوليا التي لم تكن مخلصة لها. وقبل أن يفعل ذلك رأى أن يصفّي حسابه مع أورلوف، فحرر له رسالة طويلة يذكر له فيها تخليه عن العمل في خدمته بعد أن تراجع عن تنفيذ مهمته في اغتيال والده، ويكشف عن حقيقته كرجل لا يختلف عنه في انتمائه الطبقي. ثم يذكر له رأيه فيه، هو أورلوف، ويقول: «أنا مريض، وضعيف، ويائس المعنويات (...) في البدء كانت لدي رغبة قوية في إهانتك والحط من شأنك، لكنني أشعر الآن انني لا أملك الحق في أن افعل ذلك. أنت وأنا سقطنا سوية، ولن ينهض أي منا من عثرته...»، ثم يقول له: «وسخريتك؟ هل تتصور انني لا أعرف خلفياتها!... أنت تحمي نفسك بموقف هازئ من الحياة (...) لكنك لا تختلف عن الهارب من الخدمة العسكرية الذي يفر من المعركة بجبن، لكنه لكي يخفي عاره، يهزأ بالحرب والبطولة...». ويقول له: «نكات باردة وسخيفة، وضحك أشبه بالنهيق، وكل نظرياتك حول الجوهر، وحول رأيك الغامض في الزواج... وإشاراتك الخالدة الى منطق، ونفاق، وضعف الأنثى، إلخ، ألا يعرب ذلك عن رغبة لإذلال النساء والحط من شأنهن، لكنك أنت وهن سواسية في القذر الذي تلصقه بهن. أنت ضعيف، وشقي، ورجل يفتقر الى الجاذبية».
بعد أن وضع رسالته على طاولة أورلوف في غرفة المطالعة، انتقل الى غرفة الجلوس ليواجه زينايدا. ففاجأها بمثوله أمامها. لكنه أخبرها بأن أورلوف كذب عليها، فهو ليس في سفر بل متهرب منها. فصعقها هذا الكلام من الخادم الوغد. لكنه كشف لها عن حقيقته، وذكر إسمه الحقيقي، وأنه لا يختلف عنها وعن أورلوف شأناً وطبقة. فصدقته، وصعقت أيضاً بقصته. ولم يبق الآن من خيار لها وله سوى مغادرة هذا المنزل.
وهنا تبدأ صفحة جديدة من القصة. فلاديمير إيفانوفتش مسلول، وزينايدا في ضياع تام، لا تستطيع العودة الى زوجها، ولا الى عشيقها. وصار يهمنا الآن مصير هذين الكائنين والعلاقة بينهما. لكن هل أراد تشيخوف أن يعقّد الوضع بفرض مرض السل على فلاديمير إيفانوفتش؟ يخيل إليّ انه أراد ألا يكرر قصص تورغنيف، الذي تكرر ذكره في النص، ومواقفه من الزواج. فمهد الجو لخلق وضع معقد بين البطلين: إيفان يحب الحياة وبدأ يحب زينايدا، وزينايدا محبطة ولم يعد الحب شاغلها، وأصبحت تمقت الحياة. لكن إيفان، هو الآخر، فاقد الثقة في المستقبل، بسبب إصابته بمرض السل. سنجد أنفسنا أمام بطلين مضادين.
«ماذا ينتظرني الآن؟» قالت زينايدا فيودوروفنا بصوت أجش من البرد والرطوبة، «الى أين أذهب، وماذا سأفعل؟ قال غروزين: إذهبي الى دير الراهبات. سأذهب! سأغير ملابسي، ووجهي، وإسمي، وأفكاري، كل شيء، كل شيء، وأخفي نفسي الى الأبد. لكنني لن أُقبل في الراهبات لأنني حامل».
فقال فلاديمير: «سنذهب سوية الى خارج البلد».
«هذا غير ممكن، لأن زوجي لن يسمح لي بالحصول على جواز».
«سأدبر خروجك بلا جواز».
كان يمكن أن ينهي تشيخوف القصة هنا، وتكون النهاية سعيدة، وربما مبررة. لكن تشيخوف أراد شيئاً آخر. وعلى أية حال، ليس بغير مبرر أن يُخلي تشيخوف المسرح لفلاديمير وزينايدا. فهما البطلان الحقيقيان لهذه القصة. لكن تشيخوف بدأ منذ الآن يجعل من زينايدا شخصية أخرى، حتى على خلاف ما كان يتوقعه منها القارئ. لقد أصبحت منذ الآن تخيب ظن القارئ، وتثير استغرابه. كما كان تناقض موقف فلاديمير مثيراً للاستغراب أيضاً. سيذهبان الى البندقية، ثم الى فلورنسا، وأخيراً الى نيس. لكن أي إحساس بالحميمية لم يسد بينهما. والسبب هو زينايدا. لقد أراد تشيخوف لها أن تصبح بطلة مضادة، طبعاً بعد فشلها في حبها. اعترفت هي بأنها كانت تريد أن تنهي حياتها في بطرسبورغ عندما علمت بإهمالها من جانب عشيقها أورلوف. ولامت فلاديمير لأنه زيّن لها السفر الى الخارج. وظلت سلبية من الحياة ومن فلاديمير طوال صحبتهما. لماذا، يمكن أن يتساءل القارئ، تعذب نفسها، وتعذب المسكين فلاديمير، الذي كان مخلصاً لها ومحباً، ولم يجرؤ طوال كل علاقته معها سوى على تقبيل يدها مرة؟ أنا صرت أتعامل معها كبطلة عصرية عبثية النزعة، وأتقبل بحزن إنهاء حياتها بالسم، مباشرة بعد ولادتها. لكنني لم أرَ مبرراً لموقفها السلبي من فلاديمير الذي ظل حريصاً على إسعادها طوال الوقت.
هذه القصة تميزت بشيئين، في رأيي، أولهما «تسفيه» تشيخوف لنزعة الاغتيال في العمل السياسي، وثانيهما هو خلق بطلة مضادة تفرض احترامها على القارئ على رغم عدم قناعته بموقفها السلبي من الحياة، بعد أن كانت محبة للحياة في شكل طفولي.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.