موقف استئناف الهلال بشأن عقوبات الانسحاب من كأس السوبر السعودي    دعم المملكة مثّل حوالي 60% من جملة الدعم المقدم للسودان    رئيس البرلمان العربي يرحب بإعلان رئيس وزراء أستراليا عزم بلاده الاعتراف بالدولة الفلسطينية    نونيز ينسجم سريعًا مع «الزعيم»    حرس الحدود بمنطقة المدينة المنورة ينقذ طفلة من الغرق    أوروبا تطالب بمشاركة أوكرانيا في لقاء بوتين وترمب    الجنيه الإسترليني ينخفض مقابل الدولار الأمريكي ويرتفع مقابل اليورو    دمشق تتعهد بمحاسبة المسؤولين عن عملية مستشفى السويداء    نتنياهو يصف مأساة غزة بحملة أكاذيب وأستراليا تدعم الدولة الفلسطينية    اكتشافات أثرية جديدة القرينة    ولي العهد يتلقى اتصالًا هاتفيًا من رئيس أوكرانيا    في منافسات بطولة الماسترز للسنوكر.. أرقام استثنائية وإشادات عالمية بتنظيم المملكة    لجنة التحكيم بمسابقة الملك عبدالعزيز تستمع لتلاوات 18 متسابقًا    كأس العالم للرياضات الإلكترونية 2025| الهولندي ManuBachoore يحرز لقب EA SportFC 25    وزير البيئة يتفقد مشاريع المنظومة بتبوك ويلتقي بالمستثمرين    340 طالبا وطالبة مستفيدون من برنامج الحقيبة المدرسية بالمزاحمية    إنقاذ مقيمة عشرينية باستئصال ورم نادر من فكها بالخرج    نائب وزير الخارجية يستقبل سفير جمهورية الصومال لدى المملكة    فريق طبي سعودي يجري أول زراعة لغرسة قوقعة صناعية ذكية    "انطلاق دورة صقل وترفيع حكام التايكوندو بجدة"    "المزاد الدولي لمزارع إنتاج الصقور" منصة عالمية للشراكات الإستراتيجية    نائب أمير الرياض يستقبل سفير إندونيسيا لدى المملكة    ملتقى أقرأ الإثرائي يستعرض أدوات الذكاء الاصطناعي وفن المناظرة    أخصائي نفسي: نكد الزوجة يدفع الزوج لزيادة ساعات العمل 15%    وزير الشؤون الإسلامية يوجّه بتخصيص خطبة الجمعة القادمة عن بر الوالدين ووجوب الإحسان إليهما    الدمام تستعد لزراعة 100 ألف شجرة باستخدام المياه المعالجة ثلاثياً بالربع الأخير من 2025    البركة الخيرية تواصل دعم الهجر وتوزع السلال الغذائية والأجهزة في هجرة الوسيع    جامعة جازان تطلق برنامجًا تدريبيًا في الذكاء الاصطناعي    بدء استقبال الترشيحات لجائزة مكة للتميز في دورتها السابعة عشرة    أحداث تاريخية في جيزان.. معركة قاع الثور    أمير تبوك يستقبل المواطن ناصر البلوي الذي تنازل عن قاتل ابنه لوجه الله تعالى    النيابة العامة: رقابة وتفتيش على السجون ودور التوقيف    «منارة العلا» ترصد عجائب الفضاء    منى العجمي.. ثاني امرأة في منصب المتحدث باسم التعليم    تشغيل مركز الأطراف الصناعية في سيؤون.. مركز الملك سلمان يوزع سلالاً غذائية في درعا والبقاع    أخبار وأرقام    أمير القصيم أكد أهميته الإستراتيجية.. طريق التمور الدولي.. من السعودية إلى أسواق العالم    شدد الإجراءات الأمنية وسط توترات سياسية.. الجيش اللبناني يغلق مداخل الضاحية    أكدت أن النووي «حق أصيل».. إيران: التفاوض مع واشنطن ليس تراجعاً    النصر يسعى لضم لاعب إنتر ميلان    عبر 4 فرق من المرحلتين المتوسطة والثانوية.. طلاب السعودية ينافسون 40 فريقاً بأولمبياد المواصفات    رانيا منصور تصور مشاهدها في «وتر حساس 2»    كشف قواعد ترشيح السعودية لجائزة الأوسكار لأفضل فيلم    مقتل واعتقال قيادات إرهابية بارزة في الصومال    سعود بن بندر يستقبل مدير فرع رئاسة الإفتاء في الشرقية    إطلاق مبادرة نقل المتوفين من وإلى بريدة مجاناً    ثمن جهود المملكة في تعزيز قيم الوسطية.. البدير: القرآن الكريم سبيل النجاة للأمة    حسام بن سعود يطلع على برامج جامعة الباحة    ارتفاع الرقم القياسي للإنتاج الصناعي 7.9 %    الإفراط في استخدام الشاشات .. تهديد لقلوب الأطفال والمراهقين    ضمادة ذكية تسرع التئام جروح مرضى السكري    185% نموا بجمعيات الملاك    مجمع الملك عبدالله الطبي ينجح في استئصال ورم نادر عالي الخطورة أسفل قلب مريض بجدة    نائب أمير جازان يزور نادي منسوبي وزارة الداخلية في المنطقة    جمعية "نبض العطاء بجليل" تطلق مبادرة أداء مناسك العمرة    القيادة تعزّي رئيس غانا في وفاة وزير الدفاع ووزير البيئة ومسؤولين إثر حادث تحطم مروحية عسكرية    بمشاركة نخبة الرياضيين وحضور أمير عسير ومساعد وزير الرياضة:"حكايا الشباب"يختتم فعالياته في أبها    أمير جازان ونائبه يلتقيان مشايخ وأعيان الدرب    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



العراق: سعياً الى طرد «راديكالية» متأصلة في التجارب... وتوسيعاً لاحتمالات التعايش
نشر في الحياة يوم 16 - 06 - 2009

هذا المقال يسعى الى أن يكون تتويجاً لجهود يبذلها عدد من المثقفين والناشطين في العراق يعملون لتشكيل تيارٍ يكون بمثابة مساحة مختلفة عما وفرته تجربة ما بعد سقوط نظام صدام حسين في العام 2003، وما قبلها طبعاً، وإذا كان كاتبه فرداً، فإن ما تضمنه من أفكار واستنتاجات، هو خلاصة نقاشات دارت وتدور في أوساط حلقة من المهتمين يسعون بدورهم الى توسيعها، في عراق ما بعد صدام.
تاريخ العراق منذ ما يربو على نصف قرن هو تاريخ هيمنة أو صراع تيارات وقوى راديكالية مختلفة المناشئ والانتماءات، متنوعة الأدوات والأساليب، متباينة الغايات والأهداف، لكن قاسماً مشتركاً يوحدها جميعاً: الرفض المطلق للآخر والنزعة الاقتلاعية حيال الخصم الفكري والسياسي، والسعي لفرض الرؤى الذاتية على المجتمع بالقسر المادي (القتل، السجن، التهجير، الحرمان من الوظيفة) أو المعنوي (التكفير، التخوين، التسقيط).
ومن دون الخوض في ماهية الراديكالية وتمظهراتها، او تقديم عرض تاريخي لنشأتها وصيرورتها وتحولاتها، لا بد من الإقرار بأنها، على اختلاف أنماطها، من أهم معوقات الانعتاق من مخلفات عقود الاستبداد، بل لعلها من اكبر وأشد الأخطار المحدقة بالتجربة الديموقراطية الوليدة التي تواجه تهديدات عديدة يتمثل أفدحها في الراديكاليات ذات المنحى الإرهابي والعنفي، الهادفة اما إلى تعطيل وشل العملية السياسية، أو حتى إلى الارتداد بالبلد إلى ما قبل 2003. هذا إلى جانب توجهات فكرية أو دينية أو عنصرية قد لا تمارس عنفاً سافراً لكنها تشكل كابحاً خطيراً للحراك الاجتماعي الديموقراطي، وفي حال تسلطها وهيمنتها يسهل أن تنتقل من أساليب القمع الفكري إلى التصفيات الجسدية.
إن العراق ليس حالة منعزلة وفريدة في العالم المعاصر، وظاهرة الراديكالية، السياسية منها والأيديولوجية والدينية والثقافية وغيرها، كانت من سمات القرن العشرين وتكرست بعد الحرب العالمية الثانية على نطاق كوني على شكل صراع بقاء بين النظامين الاشتراكي المؤمن بأنه الخيار الأفضل للبشرية والساعي إلى فرض وتوسيع وجوده في قارات العالم وإحراز «النصر النهائي»، والنظام الرأسمالي الطامح إلى تكريس وتأبيد سطوته ومنع منافسه من توسيع رقعة نفوذه وانتشاره.
وفي انعكاسه على البلدان النامية اكتسب هذا الصراع طابعاً دموياً شرساً تمثل تارة بالثورة الماحقة لأعدائها وطوراً بالثورة المضادة المغرِقة لخصومها بالدماء. وصار مفهوم «الشرعية الثورية» البديل الراديكالي من الشرعية الدستورية التي عمل عدد من الساسة والمفكرين في العالم الثالث، وفي العراق تحديداً منذ الثلاثينات ثم في مطلع الخمسينات، على إشاعتها.
ولا بد من الإقرار بوجود استعصاءات تاريخية تصعب معالجتها من دون حل جذري (راديكالي) خصوصاً حينما تغلق أبواب العمل السياسي وتسد منافذ التفكير الحر وتوصد أبواب التحول السلمي. فمهما جمح الخيال يتعسر تصور انتقال سلس للسلطة من صدام حسين (أو ورثته) إلى ممثلي الشعب أو حتى إلى قطب مناوئ داخل السلطة. أي إن الحلول غير الراديكالية قد لا تكون متاحة في معالجة وضع راديكالي مستعص ومتجذر.
ان اشكالية الاختيار بين التحول الطفراتي (الثورة) revolution والنمو الارتقائي،evolution ليست معضلة فلسفية نظرية، بل انها واقع سياسي تواجهه الشعوب في مراحل عديدة من التاريخ. ولقد وقف العراق ازاء هذه المعضلة مرات عديدة وغالباً ما كانت المفاضلة تحسم لمصلحة الخيار الأول اما بفعل غلبة الإرث التاريخي المتراكم أو لديناميكية وسرعة تحرك القوى الراديكالية. وكما اسلفنا فإن هذه الإشكالية، في ظل حكم مثل حكم صدام حسين وعائلته، كان يمكن، افتراضياً، أن تحسم داخلياً لمصلحة الخيار الأول، الراديكالي، بانقلاب أو تحرك جماهيري، لولا التدخل الأجنبي الذي كان بدوره راديكالياً وتمثل في نقلة قسرية نوعية خارجية.
وفي مرحلة سابقة كان النمو الارتقائي خياراً متاحاً أمام العراق من خلال الانتقال بالنظام الملكي إلى الارتخاء الليبرالي والانفتاح التدريجي السياسي والاقتصادي، لولا ان ثورة تموز (يوليو) عام 1958 وما رافقها وأعقبها من مظاهر عنفية وضعت البلد في مرحلة هزات راديكالية، باتجاهات متضادة ومتضاربة، عززت في المجتمع تدريجاً النزعات الاستئثارية والاقصائية التي تجسدت في ممارسات راديكالية مثل «سحل الخونة» او التصفيات المتبادلة للخصوم السياسيين، ثم بلغت تلك النزعات إحدى اكثر ذراها دموية في انقلاب شباط (فبراير) 1963 ووصلت إلى حدها الأقصى وشكلها الأبشع في أواخر السبعينات.
وغدت العقود الثلاثة الأخيرة التي سبقت سقوط نظام صدام حسين مرحلة «راديكالية مؤسساتية» رغم كل ما بين هاتين المفردتين من تناقض. فالراديكالية، بالتعريف، نافية للمأسسة، لكنها بمعناها الاقصائي وبادعائها الامتلاك المطلق لمفاتيح الحقيقة، قد أخذت في عراق السبعينات والثمانينات طابعاً تأسيسياً في كل الميادين: في مؤسسات ودوائر الدولة بما فيها القوات المسلحة والأجهزة الأمنية، وفي السياسة والإعلام والحياة الثقافية والمناهج التربوية والعلاقات الدولية وحتى في العمارة والغناء. وهي كانت تنتقل من حال راديكالية ذي صبغة مؤسساتية إلى ضدها، وفق الحاجة الظرفية أو الأهواء والنزوات الشخصية، (من العلمانية ذات النَفس العدواني، مثلاً، إلى «الحملة الإيمانية»).
تجفيف منابع... الرأي المغاير
لقد سعت هذه «المأسسة الراديكالية» إلى تجفيف منابع الرأي المغاير واقتلاع بذور الاختلاف قبل نثرها، وبذلك فإنها عززت لدى معارضي النظام نزعة راديكالية مضادة لها ما يفسر بواعثها ويبرر بعضاً من اندفاعها وحدتها.
ورغم إن سقوط النظام لم يترافق مع تصفيات دموية واسعة إلا إن النزعات الاقصائية كانت حاضرة في السياسة والدوائر الحكومية والمجالات الثقافية والإعلامية وغيرها. وقد أدى ذلك إلى ردات فعل من طرف «المغبونين الجدد» تمثلت في حدها الأدنى بالإحجام عن موالاة ومؤازرة النظام الجديد وفي حدها الأقصى بالمشاركة في عمليات مسلحة ضده، الأمر الذي أعاق الانتقال التدريجي من الراديكالية إلى نقيضها الارتقائي. وتفاقم الوضع بفعل اتخاذ الحاكم الأميركي سلسلة من الإجراءات ذات الطابع الراديكالي غير المدروسة وغير المحسوبة النتائج مثل حل الجيش والتصفية الكاملة لكل الأجهزة الخاصة، والتطبيق المتعسف لقانون اجتثاث البعث (مفردة الاجتثاث واحدة من اسطع تجليات النَفَس الراديكالي ولربما إنها ألغت، أو عتمت على عدد من البنود المهمة في القانون المذكور).
وبدلاً من أن يصبح إلغاء راديكالية الحزب الواحد فاتحة وتمهيداً للانتقال نحو مجتمع الانفتاح والتعايش الفكري والصراع السياسي السلمي، فرّخت الواحدية الراديكالية نزعات راديكالية متعددة ومتقاطعة، دخلت منذ الأيام الأولى صراعاً إلغائياً متبادلاً وسافراً اتخذ مظاهر كثيرة لعل أبرزها الصراع الطائفي الذي زاد من استفحاله واتساع رقعته دخول راديكاليات أجنبية ك «القاعدة» وغيرها إلى حلبة الصراع، وإدارته في شكل لا تحده حتى المحددات العشائرية أو المناطقية أو الطائفية التي كانت الراديكالية الصدّامية تضطر أحياناً إلى مراعاتها.
وإذا كانت الراديكاليات الأيديولوجية المعروفة، النافية لأنظمة سياسية اقتصادية معينة والعاملة على إلغائها تطرح بدائل، نظرية أو عملية، لها فإن انهيار الدولة الصدّامية في العراق لم يترافق مع تصورات واضحة عن بناء الدولة البديلة، وتداخلت الرؤى الأميركية والبريطانية، مع تصورات عراقية هلامية عرضت أفكاراً مشوشة من دون انساق فكرية أو مؤسساتية أو تنظيمية، وغالباً ما كان يطغى على تلك الطروح طابع راديكالي، سياسي أو ديني - مذهبي غائم المعالم مفتقد الأدوات. وعوضاً عن السجالات الفكرية في شأن مستقبل البلد وآفاق بناء الدولة، اشتبك الفرقاء الراديكاليون في صراعات تناحرية أُسقطت إبانها احتمالات المساومات والحلول الوسط، وقادت الأطراف المرتبطة بأجندات تكفيرية تخوينية والمدعومة من قنوات خارجية، حرب إبادة سافرة من دون أهداف سياسية واقعية معلنة. وحتى مع خفوت حدة التقاتل بين الأطراف الأقل راديكالية فإن الانتقال من الاستخدام السافر للسلاح إلى إخفائه والادعاء بالتحول إلى العمل السلمي لم يكن، في أحوال كثيرة، نابعاً من إيمان فعلي بفكرة التعايش والقبول بالآخر، بل هو نتيجة قناعة بعدم القدرة على إلغاء الآخر. وبالتالي فإن غلاة الراديكاليين خبأوا الخنجر تحت العباءة موقتاً ريثما تتهيأ لهم فرصة جديدة لانتضائه والانقضاض على الخصم. بيد إن ثمة قوى وجماهير متزايدة العدد أحست تلقائياً وغريزياً، أو أدركت عن وعي واستبصار بالتجربة، إن الغلاة الذين يحرّضون على إهلاك الآخر إنما يدفعونها هي نحو الهلاك.
هذا الوعي أدى إلى ظهور وانتشار النزعات الرافضة للغلو في المجتمع العراقي، بيد إنها ظلت من دون تأسيس لفكر رافض للراديكالية كعقيدة ومنهج، ومن غير إطار سياسي يمكن أن يحوّل هذه النزعات المتشظية الى تيار واسع يضم أطرافاً ذات مناشئ فكرية مختلفة لكنها تلتقي عند الإقرار بأن الراديكالية، على اختلاف تمظهراتها، هي من أهم اسباب الأزمات التي مرَ بها العراق، وأن الخروج من هذه الدوامة يقتضي الاجتماع على فكر ومنهج ذات طابع ارتقائي منفتح على الآخر، قابل للتعايش ورافض للإلغاء، مستبعد للإقصاء والاستئثار والتهميش، مرحب بالمشاركة المتكافئة، مؤمن بأن الابتعاد عن الراديكاليات وتحجيم رقعتها هو واحد من السدود المنيعة التي ينبغي إقامتها للحيلولة دون الارتداد عن الديموقراطية.
إن نشوء مثل هذا الفكر على أساس نفي الراديكاليات السياسية والأيديولوجية والاقتصادية والدينية والثقافية وغيرها يمكن أن يؤسس لتيار عريض مستوعب لأفراد وقوى متباينة المناشئ من إسلاميين وليبيراليين وقوميين ويساريين وعلمانيين وغيرهم. ولا يعني قيام مثل هذا التيار طمس أو شطب التمايز الفكري والمنهجي بين اطرافه، بل انه يتيح لها إمكانات السجال والمفاضلة واختيار ما يبدو الأحسن من دون إهمال أو نبذ ما سواه. أي أن الاتفاق على الأنسب لا يتم بالقسر والإكراه بل بالإقناع والاحتكام إلى الشعب والتجربة، مع الاحتفاظ بالخيارات الأخرى كبدائل محتملة التحقق لاحقاً.
الانعزال الطائفي والاستعلاء الشوفيني
ان التيار الرافض للراديكالية هو، بالتعريف، نابذ للانعزال الطائفي والاستعلاء الشوفيني والتقوقع القومي، ومناوئ للواحدية الأيديولوجية والقسر الفكري، ومناهض للهيمنة الحزبية والفردية، منفتح على الآخر مؤمن بحوار الأفكار كسبيل لصوغ (وتحوير وتبديل وتطوير) المشروع النهضوي للعراق، في ظل رفض مطلق لاستخدام القوة او التهديد بها. ومع الإيمان الكامل بحرية التديّن وإقامة الشعائر والتبشير بالمعتقد الديني، فإن هذا التيار ينكر ويستنكر التكفير والاستعلاء المذهبي ويدعو الى صون الدين من تطاولات السلطة التي سعت على امتداد قرون لاستخدامه كواجهة لإدامة وتأبيد هيمنتها. وفي السياق ذاته لا بد من رفض اي جور قومي وضمان الحريات الكاملة والمتكافئة للأديان والقوميات والإثنيات المختلفة. وباختصار فإن هذا التيار يؤسس لابتعاث هوية وطنية موحدة بتنوع عناصرها واتجاهاتها الفكرية والسياسية والثقافية والقومية والدينية.
وبديهي ان هذا التيار الذي يضم مكونات ليست متطابقة، بل حتى متنافرة، فكرياً لن يصبح كياناً سياسياً دائماً، لكنه يصلح معبراً للابتعاد عن احتمالات الحلول الراديكالية والرفض المطلق لها منهجياً وعملياً. وفي اطار هذا التيار يمكن ان تتلاقح وتلتقي نظريات ومدارس فكرية متعارضة في الأصل لتستقي من بعضها افكاراً مشتركة قد تغدو اساساً لنشوء عدد من الحركات والأحزاب التوليفية التي لا تعتمد منهجيات الإرغام.
وفي مرحلة اعادة بناء الاقتصاد وصياغة استراتيجية تنمية حديثة، لا بد من تحاشي المعالجات الراديكالية المحتملة التي غالباً ما تحدث اعوجاجات يتعذر تعديلها. فمن الخطورة بمكان ان يأخذ العراق بالتجارب الليبيرالية الراديكالية في الخصخصة كما حدث، مثلاً، في روسيا وعدد من البلدان الاشتراكية السابقة. كما لا جدوى من التمسك بالراديكاليات الاشتراكية التقليدية الداعية الى التأميم الواسع والتشبث بالقطاع العام كأساس وحيد للاقتصاد، بل الأجدى البحث عن معادلات توفيقية لا تنطلق من عموميات ايديولوجية بل من الاحتياجات والإمكانات الواقعية والاستقراء الموضوعي للمستقبل.
ولم يعد مقبولاً الإنكار الراديكالي للفكر الآخر ورفض القيمة الثقافية لمنتج ينتمي، سياسياً، الى جناح مغاير، الأمر الذي غيّب في الماضي ويغيب حالياً اسماء مهمة ويسقطها من التداول حارماً الثقافة الوطنية من روافد غزيرة، وملغياً حقوقاً ابداعية فردية، بيد ان ذلك لا يعني انكار امكانية المحاسبة القضائية أو الأخلاقية عن اقترافات أو انتهاكات.
ان قيام هذا التيار يأتي في سياق الإقرار العالمي بانسداد الآفاق التاريخية أمام الحركات الراديكالية الآخذة في الانحسار. فعلى مدى زمني وجغرافي واسع برهنت التجارب ان الحركات الراديكالية، أياً كان سمو اهدافها المعلنة، ومهما ابدى المؤمنون بها من نكران ذات وتضحية في سبيل الغير، غالباً ما تؤول الى نقيضها وخبو رومانسيتها عند الاحتكاك بالواقع، أو، وهو الأسوأ، تغدو صنواً لنقيضها المُزاح، أي استبداداً بلون ايديولوجي مغاير.
ان الراديكالية التي كانت آفة من آفات القرن المنصرم بدأ انحسارها على نطاق كوني بانهيار الأنظمة الشمولية في عدد كبير من البلدان الاشتراكية السابقة وإدخال معتنقي الماركسية تعديلات جوهرية على برامجهم باتجاه الابتعاد عن «الحسم الثوري» والدعوة الى ديموقراطية تعددية تكفل لهم التبشير باشتراكية ديموقراطية كاوتسكية المنحى كانوا ينعتونها سابقاً ب «التحريفية». وفي المقابل سقطت نظريات الراديكالية المبشرة ب «نهاية التاريخ» وحلول العصر الذهبي الأبدي للرأسمالية الليبيرالية، تلا ذلك انهيارات مساعي المحافظين الجدد لبث الحياة في الرأسمالية «الخالصة» وقهر مناوئيها بالقوة العسكرية والإجبار الأيديولوجي والخيار الراديكالي: «من لم يكن معنا فهو مع العدو».
حتى أميركا اللاتينية المتمسكة بالخيار اليساري تخلت عن الراديكالية الكاستروية الشمولية والراديكالية الجيفارية الرومانسية لمصلحة الانتخابات اللاعنفية والديموقراطية التداولية.
لكن الأفول الراديكالي لا يتحقق بانسيابية كونية شاملة، انما يمر عبر نكوص وارتدادات، بل اننا نشاهد «انفجارات» راديكالية في بقاع مختلفة من العالم ومنها الشرق الأوسط وعدد من مناطق العالم النامي التي ما برحت توفر حواضن للحركات الراديكالية وبخاصة «الجهادية» التي كلفت شعوب المنطقة، ومنها العراق، ويلات وخسائر بشرية ومادية وحكمت عليها بالعزلة الحضارية وتعطيل المسيرة التحديثية والديمقراطية.
ان الخلاص من هذا البلاء لا يمكن ان يتم عبر «حملة اقتلاعية» تنكفئ بأساليبها الى الدوامة الراديكالية ذاتها، بل يجب ان تبذل في سبيله جهود على مستوى المجتمعات والدول تبدأ من «تنظيف» برامج وأساليب التربية والتعليم وتمر عبر العمل على اشاعة روح التسامح الديني ومفاهيم المساواة واحترام حقوق الإنسان والإقرار بالاختلاف في ظل تغليب الحوار الحضاري على الرفض المسبق للرأي الآخر، وتكريس مبادئ التداول...الخ
وفي العراق الذي انهكته عقود من التطاحن والحروب والقهر الفكري والصراعات الطائفية والقومية، لم تعد الدعوة الى التخلص من الآفة الراديكالية ترفاً فكرياً بل صارت حاجة ملحة، ومن الغريب ان انتباه المجتمع الى هذه الحاجة وتجاوبه معها كان اسرع من تفاعل النخب التي ما برحت تتحارب في الدوائر الأولى أو تمتنع عن الانزياح منها.
لذا بات مطلوباً ظهور تيار لاراديكالي واسع يتجاوب مع التطلعات المجتمعية ويعمل على بلورتها وتطويرها وإيجاد حلول غير عنفية للخلافات الفعلية أو المفتعلة. وينبغي ان تترافق، في اطار هذا التيار، الدعوة الى نبذ العنف مع العمل على ابتعاث هوية وطنية جامعة لكنها ليست نافية أو لاغية او طامسة للهويات الفرعية (القومية والدينية والمذهبية والأيديولوجية وسواها)، بل انها ترسخ وتجسد تنوع الوطن الواحد ووحدة أفرعه.
ومن المحال ان يغدو هذا التيار فاعلاً، بل ان يتشكل اصلاً، ما لم يبدأ كل من اطرافه، افراداً وجماعات، من اعتصار الثُمالة الراديكالية من دواخلهم، قطرة اثر قطرة، وإجراء مراجعات جريئة وصريحة للماضي تمهيداً لبلوغ اليقين الكامل والمطلق بأن وجود الذات يشترط وجود الآخر.
ان الاعتقاد بأن ولادة هذا التيار قد تكون يسيرة وسريعة انما هو ضرب من وهم ذي «اصول» راديكالية، إذ أن توحيد اللاراديكاليين المنتمين أو الموالين لأحزاب وحركات وتيارات اعتمدت طوال عقود ايديولوجيات وممارسات راديكالية، هو عملية تفكيكية - تركيبية في آن، ولا بد ان يترافق التفكيك مع معاناة ومكابدة ومجابهة من القوى المنبنية في اصولها الراديكالية والرافضة مفارقتها.
* كاتب عراقي.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.