لماذا هذا الغضب العارم الذي انتاب الساحة السياسية العربية، تجاه قرار الرئيس الأميركي دونالد ترامب الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل؟ ولماذا يحاول البعض ممن يتصدرون الساحة الإعلامية العربية، وضعنا أمام وهم تخبط الإدارة الأميركية التي يقودها ترامب؟ وهل يعني قرار ترامب أن الصورة الأميركية تغيّرت، أم أن قواعد اللعبة هي التي تغيّرت؟ ثم، وهذا هو الأهم، إلى أين تمضي القضية الفلسطينية، أو «قضية العرب المركزية»، بحسب التعبير الذي تسيّد ساحة الفكر والإعلام العربيين لعقود طويلة؟ تساؤلات تطرح نفسها، بقوة، في إطار المستقبل الذي ترتسم ملامحه في الراهن؛ المستقبل الذي تؤشر إليه تحركات القوى الدولية والإقليمية عموماً، والأميركية خصوصاً، على ساحة المنطقة العربية، وما تُلمح إليه من أن شيئاً ما يحصل في كواليس المنطقة، يتعلق بالقضية الفلسطينية، أو تحديداً ب «تسوية» عربية واسعة مع إسرائيل، بما يُمكن التعبير عنه ب «الصفقة الكبرى». علينا أن نعترف بأحد مظاهر الخلل، الذي يشير إليه هذا الغضب الرسمي؛ ولا نقول الشعبي؛ وهو ذلك المتمثل باعتبار قرار ترامب «مُفاجئاً»، إذ، على مدى سنوات طوال لم تقدم الولاياتالمتحدة شيئاً ذا جدوى للعرب، أو قضيتهم المركزية. أيضاً، علينا ألا نقع في وهم أن الرئيس الأميركي يتخبط في قراراته، فالقرار «الترامبي» جاء، في ما يبدو، بعد تمهيد مدروس إعلامياً وسياسياً، بل مُترافقاً ومتوافقاً مع ضغوط مادية مؤثرة على الحالة الفلسطينية «الرسمية»، ومتواكباً، في الوقت ذاته، مع إنجاز حكومة نتانياهو سلسلة من الإجراءات، مسّت الوجود الفلسطيني في مدينة القدس، في شكل يؤكد الاحتلال الكامل للمدينة، بشطريها الغربي والشرقي. من جانب آخر، فإذا كان ترامب اعترف بالقدس عاصمة لإسرائيل، فإن القمة الإسلامية الطارئة في إسطنبول أعلنت «القدسالشرقية عاصمة لدولة فلسطين»؛ بل اعتبرت أنه «لم يعد من الممكن أن تكون الولاياتالمتحدة الأميركية وسيطاً بين إسرائيل وفلسطين». ثم، إذا كانت الولاياتالمتحدة قوة دولية كبرى، فإن روسيا أعلنت على لسان الرئيس فلاديمير بوتين اعترافها بالقدسالشرقية عاصمة لفلسطين، وبالقدس الغربية عاصمة لإسرائيل. فلماذا هذا الغضب والاحتجاج تجاه قرار ترامب؟ «الاعتراف» لا يُلزم سوى المعترفين، ولا يمكن أن يُلزم أحداً غيرهم على بناء سياسات بخصوص مضمون هذا الاعتراف. هذه بدهية في العلاقات الدولية. فأن يعترف ترامب بالقدس عاصمة لإسرائيل، لا يمكن أن يُلزم إلا الولاياتالمتحدة الأميركية، بشرط أن يضع صانع القرار العربي هذه القاعدة البسيطة في اعتباره. ثم، لنا أن نلاحظ أن كل ما فعله الرئيس الأميركي هو الانتقال من «الحياد الظاهري»، الذي كانت تمارسه الإدارات السابقة عليه، إلى «الانحياز الظاهر» الذي تنوي إدارته اتخاذه نهجاً في التعامل مع العرب وقضيتهم المركزية. يعني هذا، في ما يعني، أن الرئيس الأميركي عندما يتحدث عن تمسكه بعملية السلام في الشرق الأوسط، فهو يؤكد ضرورة الالتزام الفلسطيني، وربما «العربي»، بمحددات السلام الأميركي من دون قيد أو شرط. إذ إنه اختار خطوة تُصادر على أي محاولة لمناقشة قضية القدس في أي مفاوضات قادمة، وتجعلها خارج التفاوض. ويعني هذا، أيضاً، أن ترامب لم يُبال باعتبار الأممالمتحدةالقدس مدينة محتلة، ولم يُبال، أيضاً، ب «اتفاق أوسلو» الذي تم التوقيع عليه برعاية أميركية في حديقة البيت الأبيض، ناهيك بكونه قضى على «مبادرة السلام العربية» التي تعتبر القدسالشرقية عاصمة لفلسطين. وبالتالي، فقد اختار ترامب خطوة تقفز، منذ البداية، على ملفات القدس والاستيطان والنازحين واللاجئين، وتحيلها على مفاوضات في «غيبيات المستقبل». وبالقياس التاريخي، خلال مئة عام، فإن خطوة ترامب هي الثالثة على مسار تفكيك، ولن نقول تصفية القضية الفلسطينية، من وعد بلفور، مروراً بإعلان «الدولة الإسرائيلية»، وصولاً إلى قرار ترامب. وبالتالي، فإن الأهم من الانفعال بالقرار الأميركي، هو تلمّس ما تُريد الإدارة الأميركية من مثل هذا القرار. ومن ثم، يكون التساؤل المطروح: ماذا يتبقى، إذاً، من القضية الفلسطينية في رؤية الإدارة الأميركية؟ في اعتقادنا، لا يتبقى سوى مساحات الأراضي التي سيوجد عليها الفلسطينيون، في المشروع الذي يبدو أن الإدارة الأميركية الحالية تتبناه، في شأن تسوية الصراع. وهنا، لنا أن نتصور أن الصفقة الكبرى التي ينوي ترامب إنجازها، لن تُعطي الفلسطينيين أكثر من إقليم أو «كيان فلسطيني» وليس دولة. ولأن إسرائيل لا توافق على تفكيك المستوطنات، وتُصر على استمرار سيطرتها على مساحات كبيرة من الضفة الغربية، فإن المُفترض أن تكون أرض الكيان الفلسطيني بالأساس في غزة، إضافة إلى جزء لن يتجاوز، في أحسن الأحوال، «الثلث» من أراضي الضفة الغربية. وبالطبع، فإن تنفيذ ذلك لا بد أن يحتاج إلى ضغوط وإغراءات كبرى للفلسطينيين، قمعية ومالية، لكي يحشروا أنفسهم في هذا «الجزء» من مساحة الضفة، أو أن يهاجروا إلى «غزة». ومن حيث أن قطاع غزة لا يحتمل سكانه الأصليين، حيث يضيق بهم، لذا، لا بد من «توسيع غزة» عبر جزء من أراضي سيناء المصرية، وفي المقابل تحصل مصر على جزء من أراضي جنوب غربي صحراء النقب (منطقة وادي فيرن) وهو مُقترح موجود في أطروحات بعض الباحثين الإسرائيليين. في هذا السياق، تبدو ملامح الصفقة الكبرى، حيث الإصرار الأميركي على المشاركة الفعالة لمصر والأردن، في صوغ حل إقليمي متعدد الأطراف. فمصر في مثل هذا التصور، تقوم بمبادلة الأرض في مقابل الأرض، وتستعيد سيادتها الكاملة على معظم أراضي سيناء، فضلاً عن إمكان مساعدتها في مشكلة المياه المتوقعة بعد بناء سد النهضة الإثيوبي. أما الأردن فيمكن أن يتم دفعه إلى التفاوض حول إقامة كونفيدرالية مع فلسطينيي الضفة، وفي الوقت نفسه، تتكفل المفاوضات ببحث وضع هضبة الجولان. ولا عجب، في هكذا تصور، إذا صحّت ملامحه، أن يتم تفكيك القضية الفلسطينية، وتنفتح كل حدود المنطقة على بعضها البعض، وتكون إسرائيل هي القوة العظمى إقليمياً في أهم مناطق العالم الذي نعاصره. ولا يتبقى سوى القول إن الأكثر فاعلية من الانفعال، هو معرفة كيفية إسقاط صفقة ترامب، أو صفقة القرن التي يتحدث الكثيرون عنها. * كاتب مصري