التظاهرات التي هزت كراسي سلطات عربية، فتحت الباب أمام ثقافة عربية جديدة، هي بمثابة القطيعة مع الثقافة الغاربة في البلدان العربية. وعلينا أن نبحث عن هذا المكون الجديد بين المنتفضين، حتى في البلدان التي خضعت لتخريب متواتر ومنظم منذ عقود، كما الحال في العراق واليمن وليبيا. ولكن تبقى للعراق خصوصيته: فقد أنجز الاحتلال تحرير العراق من الطاغية، ولكنه تركه بين مخالب الجماعات التي هي أكثر تخلفاً من الطاغية نفسه. ولعلها معادلة غفلنا عنها نحن الذين وجدنا أنفسنا في غمرة الحماسة للتغيير، نقبل بالاحتلال كمن يتقي الرمضاء بالنار. درس العراق قابل للتكرار والعرب على أعتاب ديموقراطيات جديدة، ديموقراطيات يطلق العنان فيها لانحباسات دامت عقوداً، لم يعرف الناس فيها حق الاختيار، بعد أن حاروا بأبسط حقوق عيشهم. في المؤتمر الصحافي الذي ظهر فيه نوري المالكي بعد تظاهرة بغداد والمدن العراقية، حضر مصور من قناة تلفزيونية تعرّض وجهه للتشويه، بعد أن ركلته الشرطة برشاشاتها وأحذيتها، وانتزعت كاميرته وكسرتها. عرض المصور مظلمته على المالكي فاعتذر منه وأمر بمكرمة تعوضه ثمن الكاميرا. لم يحضر صحافيون آخرون هذا اللقاء، على رغم ان آثار التشويه من الساعات أو الليالي التي قضوها مع أجهزة الأمن كانت كل ما تبقى لهم من تلك المغامرة التي خاضوها مع الديموقراطية. حسام السراي شاعر وكاتب وناشط ثقافي، علي السومري كاتب وشاعر، هادي المهدي مخرج مسرحي، وعلي عبد السادة قاص وصحافي: شبان لم يتجاوز أكبرهم الثلاثين، ولكنهم نشطوا عبر «الفايسبوك» في الدعوة إلى التظاهر، ونشطوا من خلال التظاهرة في الحد من أعمال العنف التي يرتكبها الجمهور. ذهبوا إلى مطعم بعد انتهاء التظاهرة، فلم يجدوا أنفسهم إلا في ورطة الديموقراطية الجديدة، حيث انقضّت عليهم الشرطة امام الناس بأخمص بنادقها وبركلاتها، ووُضعوا في صناديق سياراتها واقتيدوا إلى مراكز التحقيق. ليلة قضوها مع تعذيب الحكومة الجديدة، فخرجوا منها بكدمات وآثار على الجسد والروح لا تمحى. والحق ان ما دفع المتظاهرين إلى الشوارع في البلدان العربية، لا يرقى إلى الضيم الذي يستشعره العراقيون من ارتكابات السلطة التي انتخبها الناس. فهناك ما يشبه الكارثة المتكاملة المعاني والوجوه، كارثة في كل الميادين، وانهيار كامل وإذلال للناس قلّ نظيره حتى في عهد صدام. حيتان الإسلام السياسي في العراق تمضي باسم الدين في تخريب كل شيء مستعينة بالقاعدة والبعث في اتفاق قلّ نظيره بين الحكومة وخصومها الدمويين. فالإمعان في قتل الناس على نحو يومي عبر العمليات الانتحارية والمفخخات، استطاع تأجيج مشاعر الخوف القصوى، وهذه المشاعر تضيق كل يوم بنفسها وتحتمي من الموت بالخرافات والطقوس الممعنة بغلوائها، ولن تجد في الطائفة إلا ملاذها الاخير. أين موقع الثقافة والمثقفين من كل هذا؟ هناك حرية في الكلام، مقابل عجز عن الفعل، وهناك خلط في الأوراق لا مثيل له بين الطائفة والحكومة. فالكثير من المثقفين وجدوا أنفسهم منحازين إلى فكرة الإسلامي المعتدل، والإسلامي المعتدل مصطلح يكنّى به المالكي، بعد أن ضرب ميليشيات الصدر التي كانت تحكم البصرة ومدن الجنوب بقوة الرعاع وبقدر من التشابه، بل التطابق، مع فكر القاعدة. لكن الإسلام المعتدل الذي مثّله المالكي أسفر عن حقيقة اعتداله في كل خطواته السياسية، بما فيها موقفه من الفساد الذي هو جزء منه. فقد استجوب وزير أمام البرلمان وقدمت الأدلة على فساده، ولكن المالكي حوّل القضية الى محكمة في مدينته الطرفية، كي يضمن حكماً مخففاً. وفعلاً خرج الوزير الفاسد بعد فترة، لأنه ببساطة من حزب الدعوة - تنظيم العراق. هذه حادثة واحدة من حوادث كثيرة تدل على تعامل الواثق من ان لا سلطة تتفوق على سلطة حاكم يحكم باسم السماء. أما حكومة كردستان فهي تؤوي حازم الشعلان المتهم علناً من الناس بتهريب أموال خيالية بعد ان تولى وزارة الدفاع إبان عهد إياد علاوي. ولعل حكاية اخراج وزير الكهرباء في حكومة علاوي أيضاً، أيهم السامرائي، من السجن، وهو المتهم باختلاسات فادحة، لعل هذه الحكاية وحدها تشير في رمزيتها الفاقعة إلى الطريقة التي تولى بها الاحتلال شرعنة الفساد. فقد حضرت قوة منهم الى السجن ونقلت السامرائي «العضو في حزب بوش»، كما يصرح هو، ونقلته بطائراتها إلى بلده الثاني معززاً مكرماً. دمعت عينا بريمر وهو يلقي خطابه الأخير في العراق، حيث اختفت معه ثمانية بلايين من أموال هذا البلد المنكوب، لم تحقق فيها الحكومة الأميركية إلى اليوم. كانت تقف وراء بريمر وهو يلقي الخطاب، وزيرة معروفة وقتذاك، اختفت هي الأخرى في زواريب أميركا، والمثقفون الأكراد لا غيرهم، يتحدثون عن الأموال الطائلة التي جنتها من وزارتها وأودعتها بنوك العم سام. رعب السلطة الحالية الأكبر تبدى في أيام انتظار التظاهرة، فخرجت إلى الناس بنصائح تطلب منهم تأجيلها، كما فعل الصدر والسيستاني، وتحذرهم وتنذرهم من موت محقق على يد البعثيين والقاعدة، كما فعل المالكي وحاشيته. مع هذا قدم إلى ساحة التحرير من قدم، فبدأت تنفيذ خطواتها الفعلية: الضرب بيد من حديد، ثم الاعتذار عن الأفعال. والالتباس الأكبر حصل عندما أعلن رئيس الشرطة البحث عن المشاركين في التعذيب وتقديمهم إلى المحاكمة. لعلها ثقافة جديدة في العراق، تجعل فكرة الديموقراطية حكاية من حكايات هذا الزمن العراقي الغرائبي. فالمالكي يقول بالنص ان كل أعداد المتظاهرين لا ترقى الى ربع ما أتيت به من صناديق الاقتراع. هو في هذ القول يختصر الطريق أمام العراقيين في انتخابات مقبلة. لكنْ لن تمهد لهم الطريق إليها، سوى تظاهرات الشباب المقبلة، حيث تكون السلطة أمام امتحانها العسير، ويكون العراق في مفترق طريق المستقبل: اما القبول والاستكانة لسلطة الأحزاب التي قادته الى الكارثة، او المناداة بالتغيير. ولا عزاء لمن يعتقد بثبات الزمن، سواء الناس عندما ينتخبون الوجوه نفسها، أو الحكومة التي لن تغير ما في نفسها إلا بعد أن تقتلع أسباب التحايل والنهب وحكم الجهل والتخلف باسم الديموقراطية الجديدة. ولن تختار هذا الخيار بالطبع، إذ إن وجودها مبني على توازناته.