الالتحاق بكلية الشرطة حلم شبابي في تاريخ مصر الحديث. بذلة الشرطة لم تكن مجرد زي رسمي، ولم تكن مجرد دلالة على عمل وطني مهم، بل ارتبطت في تاريخ مصر الحديث بسلطة مفرطة، وهيبة ترتكز على الترهيب. كنت إذا سألت طفلاً عن ماهية العمل الذي يود أن يقوم به عندما يكبر فإن الرد كثيراً ما يكون «ضابط شرطة». وأسباب اختيار الأطفال للشرطة غالباً بريئة، فقد يكون إعجاباً بالبدلة الرسمية، أو انبهاراً بدور الشرطي في ضبط الامن. لكنّ رغبات الشباب الأكبر سناً مختلفة على الأرجح. «قيمة، سلطة، مستقبل مضمون وبرستيج. ماذا أريد أكثر من ذلك؟... هم أصحاب البلد. وليس عيباً أن ألتحق بهم... كفاية حين أتوجه لخطبة فتاة سأكون فخوراً بنفسي وأن أقدم نفسي لأسرتها كضابط شرطة، فحتى لو كان راتبي ضعيفاً، لكن الهيبة الاجتماعية والعلاقات والقدرة على إنجاز المصالح تعوض كل ذلك». وهناك بالطبع من كان يود الالتحاق بكلية الشرطة لخدمة الوطن وحفظ الأمن وتحقيق الأمان، لكن تظل هالة السلطة تحلق في هذه الآمال والأحلام. ويكفي أن أقاويل لا أول لها أو آخر كانت تثار على مدى السنوات الماضية حول الرشاوى التي تحولت إلى منظومة للالتحاق بالشرطة. ثمة من يؤكد أن التسعيرة 40 ألف جنيه، فيما يجزم آخر بأنها 55 ألفاً، ويقسم ثالث أن شقيقه دفع لابنه 65 ألفاً، ويصل المبلغ في أقوال أخرى إلى مئة ألف. أما الالتحاق بالكلية الحربية، فقد كان حلماً مخلتفاً تماماً للشباب. فالعسكرية ظلت رمزاً من رموز العمل الجاد الذي لا يحتمل رشاوى، أو تقمص سلطة مموهة، أو حتى استغلال نفوذ كاذب. وعلى رغم ذلك، كانت كفة الرغبة في الالتحاق بكلية الشرطة هي الرابحة. إلا أن ثورة 25 كانون ثاني (يناير) قد تعيد ترتيب الأولويات والأحلام، وذلك بعد الهزة العنيفة التي أصابت صورة الشرطة والعاملين في جهازها، لدرجة أن أفرادها الذين عادوا للانتشار في الشوارع والميادين يتعرضون للكثير من الانتقاد الحاد من قبل المواطنين في الشارع. سيف الله محمد (17 سنة) طالب في الصف الثالث الثانوي. لم يشارك فعلاً في أحداث الثورة، لكنه كان يتابع كل ما يحدث. يقول: «كان حلمي أن ألتحق بكلية الشرطة، ولكني أعيد النظر جدياً في هذا الاتجاه في ضوء ما لحق بصورة رجل الشرطة. فالشعور العام لدى المصريين الآن هو أن رجال الشرطة تخلوا عن دورهم في حماية المواطنين، وسواء تم ذلك بإيعاز من رؤسائهم أم لشعورهم بالخوف على أنفسهم، فإن صورتهم اهتزت في شكل كبير، وهو ما لا أرضاه لنفسي». ويؤكد محمد أنه يفكر جدياً في مسألة تحويل دفته في اتجاه الالتحاق بالكلية الحربية، وهو لا ينكر أن حياة العسكرية أكثر شدة والتزاماً، لكن الصورة المشرفة لضابط الجيش لدى جموع المصريين لدورهم المشرف في الأحداث تشجعه على ذلك. الصورة المشرفة لضابط الجيش ليست وليدة توابع ثورة 25 كانون ثاني (يناير)، لكنها محفورة في أذهان المصريين منذ عقود طويلة هي عمر القوات المسلحة المصرية، لكنها زادت اقتراباً واحتكاكاً بالشارع في ظل الأحداث. مصطفى فاضل (18 سنة) طالب أيضاً في الصف الثالث الثانوي. يقول: «كنت أشارك في اللجان الشعبية التي كونها الشباب في ظل الغياب الأمني الشرطي، وبعد انتشار الجيش في الشوارع، أتيحت لي فرصة الحديث عن قرب مع أفراد منهم. والحقيقة أنني ذهلت من كم الرجولة والشجاعة والانضباط والثقة في النفس والالتزام الذي يتحدثون به. ويكفي أنهم كانوا يتحدثون مع الشباب بلهجة الأخ وليس باللهجة الفوقية المتعالية التي اعتدناها من الشرطة. والنتيجة هي أن حلمي بعد حصولي على الثانوية العامة هو الالتحاق بالكلية الحربية». والمثير أن هذا الاتجاه لا يقتصر فقط على الشباب من الذكور الذين حول بعضهم حلمهم من بدلة الشرطة إلى بدلة الجيش، بل امتد إلى الفتيات. وإذا كان معروفاً عن البدلة «الميري» منذ قديم الأزل أن لها مفعول السحر لدى الفتيات، فإن مفعول السحر هو الآخر تأثر بمجريات الثورة. سها (19 سنة) تقول انها مثل فتيات كثيرات تشعر بنوع من الانجذاب للبدلة «الميري»، سواء كانت لضابط شرطة أم جيش، لكنها وجدت نفسها مع الأحداث لا تطيق النظر إلى ضباط الشرطة حتى بعدما عادوا إلى عملهم. تقول: «أعرف تماماً أن مسألة الانجذاب لضابط هذه لها علاقة بالسن، وأنها سرعان ما ستزول بمرور السنوات، لكني وجدت نفسي أشعر بنوع من النفور من ضباط الشرطة لا سيما بعد ما عشت ساعات من الرعب في بيتي ومع أخوتي ونحن نشعر بأن البلطجية قد يهجمون علينا بين لحظة وأخرى في ظل غياب الشرطة». الأكيد أن غياب الشرطة وما تبعه من آثار نفسية واجتماعية تتعلق بهم أو بالمحيطين بهم وبالمواطنين ستهدأ بمرور الوقت، والأكيد أيضاً أن الوعود التي أدلى بها المسؤولون عن عودة الاحترام الحقيقي إلى الشرطة سينعكس أيضاً على صورة ضابط الشرطة في المستقبل، سواء الصورة الفعلية أم الذهنية. فعلياً، لو تحققت فإن ضابط الشرطة سيستعيد شعور المواطنين بالاحترام تجاهه، لكن هذا يعني أن هالة السلطة والسطوة والسيطرة ستنقشع. كما أن صورة ضابط الجيش باتت أكثر قرباً وأعمق أثراً لدى الجميع، فمن يكسب في أحلام الشباب؟