64% شراء السلع والمنتجات عبر الإنترنت    الاتحاد يعاود تدريباته استعداداً لمواجهة الهلال في نصف النهائي بكأس الملك    النصر يتغلب على الخليج بهدف في دوري روشن    بايدن يشغل الساحة.. والمحاكمة تشغل ترمب    روسيا وأوكرانيا تتبادلان قصف المنشآت النفطية    اقتصاد الذكاء الاصطناعي    «الطيران» لا يُفارق سماء غزة    رئيس وزراء ماليزيا يصل الرياض    الكتاب كنزنا المذخور    المسلسل    هندوراس تعفي السعوديين من تأشيرة الدخول    إخلاء مواطن ومواطنة حالتهما حرجة من القاهرة    روسيا تجدد هجماتها على قطاع الطاقة الأوكراني    النفط يستقر مرتفعاً في إغلاق تداولات الأسبوع وسط مخاوف العرض    "أوتر إيدج" يستشرف مستقبل الويب 3 والذكاء الاصطناعي    صلاة الميت على الأمير منصور بن بدر بن سعود    ليفركوزن يسجل هدفا في اللحظات الأخيرة ليتعادل مع شتوتجارت ويحافظ على سجله الخالي من الهزائم    أمير الرياض يوجه بسرعة رفع نتائج حالات التسمم    30 يونيو موعد القبول بجامعات الرياض    تخصيص 418 مليون دولار لتمويل مشاريع تنموية دولية    البنيان: الجامعات تتصدى للتوجهات والأفكار المنحرفة    وفاة الأديب عبدالرحمن بن فيصل بن معمر    بيت سعودي لتعريف زوار منتدى الاقتصاد برحلة التحول    رأسية لابورت تمنح النصر نقاط مضيفه الخليج    ضبط 19050 مخالفاً للإقامة والعمل وأمن الحدود    ملتقى مرض الباركنسون يستكشف أحدث تطورات العلاج    مستشفى الدكتور سليمان الحبيب بالتخصصي يُجري جراحة معقدة لعلاج جنف مضاعف بدرجة "120"    رئيس الشورى اليمني يشيد بجهود السعودية لإحلال السلام في اليمن    الأعاصير تسوي المنازل بالأرض في نبراسكا وأيوا    حرس الحدود: القبض على (9) إثيوبيين بجازان لتهريبهم (180) كجم "قات"    كلوب يستبعد تعثر أرسنال وسيتي بالجولات الأخيرة    تركي بن طلال يلتقي أهالي عسير ويشيد بالإنجازات التعليمية في المنطقة    القصاص من مواطن أنهى حياة آخر بإطلاق النار عليه بسبب خلاف بينهما    أمير عسير‬⁩ يشكر القيادة على ما توليه من اهتمام بالتعليم ومنسوبيه    إطلاق برنامج للإرشاد السياحي البيئي بمحميتين ملكيتين    مدرب توتنهام: لا يهمني تعطيل آرسنال نحو التتويج    "911" يتلقى أكثر من 30 مليون مكالمة خلال عام 2023    الحقيل يبدأ زيارة رسمية إلى الصين الأسبوع المقبل    إبداعات 62 طالبًا تتنافس في "أولمبياد البحث العلمي والابتكار"غدا    قطاع صحي خميس مشيط يُنفّذ فعالية "النشاط البدني"    المكتب التنفيذي لجمعية الكشافة يعقد اجتماعه الأول الاثنين القادم    ترقية الكميت للمرتبة الحادية عشر في جامعة جازان    ابن البناء المراكشي.. سلطان الرياضيات وامبراطور الحساب في العصر الإسلامي    عهدية السيد تنال جائزة «نساء يصنعن التغيير» من «صوت المرأة»    فرصة مهيأة لهطول أمطار رعدية على معظم مناطق المملكة    فريق طبي سعودي يتأهل لبرنامج "حضانة هارفرد"    الأهلي والترجي إلى نهائي دوري أبطال أفريقيا    كبار العلماء: من يحج دون تصريح "آثم"    "طفرة" جديدة للوقاية من "السكري"    الصحة: تماثل 6 حالات للتعافي ويتم طبياً متابعة 35 حالة منومة منها 28 حالة في العناية المركزة    نائب أمير منطقة جازان يرفع التهنئة للقيادة بما حققته رؤية المملكة 2030 من إنجازات ومستهدفات خلال 8 أعوام    الأمر بالمعروف في الباحة تفعِّل حملة "اعتناء" في الشوارع والميادين العامة    رؤية الأجيال    الرئيس العام لهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: أصبحت مستهدفات الرؤية واقعًا ملموسًا يراه الجميع في شتى المجالات    «كبار العلماء» تؤكد ضرورة الإلتزام باستخراج تصاريح الحج    خادم الحرمين يوافق على ترميم قصر الملك فيصل وتحويله ل"متحف الفيصل"    مستشار خادم الحرمين الشريفين أمير منطقة مكة المكرمة صاحب السمو الملكي الامير خالد الفيصل يهنئ القيادة نظير ماتحقق من مستهدفات رؤية 2030    مقال «مقري عليه» !    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



منفى لا تغيب عنه الشمس
نشر في الحياة يوم 18 - 07 - 2017

لم يخطر في بال عليا (أم عبدالله) يوماً أنها ستعيش في تلك البلاد. ولم يخطر في بالي يوماً (على رغم سفري الكثير الذي أتاحه لي عيشي في أوروبا) أنني سأذهب إلى بلاد لا تغيب عنها الشمس.
ذهبت إلى هناك للقاء بعض السوريين من الأهل والأقارب. لم أصدق تلك العبارة (لا تغيب عنها الشمس)، ولم آخذها على محمل الجد. بل كانت بالنسبة لي مجرد صورة مبالغ بها، إلى أن وجدتني في تلك البقعة البعيدة عن العالم، في منفى يشبه العقاب، أنام وأفيق، والشمس في عيني.
كنت في زيارة مهنية إلى كوبنهاغن، ومنها قررت الذهاب إلى السويد المجاورة. حتى أنني شعرت بالندم لأنني حجزت على متن طائرة تقلّني من كوبنهاغن إلى غوتنبورغ، إذ وجدتني قبالة قطار يمر من محطة القطارات وسط كوبنهاغن ويتجه مباشرة إلى غوتنبورغ. وحسبت الجهد والوقت الذي سأبذله للوصول إلى المطار، وإجراءات تسجيل الحقائب والحصول على بطاقة، فكانت النتيجة أن القطار أسرع وأقل جهد وأوفر كلفة بلا شك.
من غوتنبورغ التي يلفظها السويديون «يوتوبوري»، توجهت إلى مطار داخلي لتأخذني الطائرة الجديدة إلى مدينة لوليو، في شمال السويد.
حتى هنا، كان الأمر طبيعياً. وبدأت الدهشة تعلق في عينيّ حين جاء بعض أهلي وأصدقاء برفقتهم لاصطحابي من تلك المدينة (العادية) إلى حيث يقيمون، في مدينة أو مقاطعة تدعى: بايالا، وتُكتب باجالا. إلاّ أن السويديين يقلبون الجيم إلى ياء.
في الطريق إلى باجالا، أو بايالا، وقد قاربت الساعة منتصف الليل، بينما يبدو النهار مشرقاً، فاجأتني قطعان الأيّل تتمشى وتتمختر أمام السيارات.
من هذه اللحظة، التالية لمشهد الضوء في منتصف الليل، سأعتبر نفسي في مكان غير عادي.
وصلنا باجالا، وارتحت قليلاً من تعب السفر، ثم ذهبت إلى النوم في الثانية صباحاً تقريباً، وضوء النهار يسطع بقوة في الليل.
نمت بصعوبة، وطالبت بستائر أكثر سماكة في اليوم التالي، وأنا أشعر بخلل في رأسي، ولا أفهم كيف ينام الناس ويفيقون وكأن النهار هو الزمن الوحيد المستمر. ما هذه اللعنة!
شرح لي أقاربي، أنه على العكس تماماً، لو أنني جئت قبل شهور عدة، فإن الوقت هو ليل مستمر. ينام الناس ويفيقون في العتمة. يذهبون إلى العمل في العتمة. ويذهب الأولاد إلى المدرسة ويعودون منها، في العتمة.
كان ذلك فانتازياً إلى حد ما في بداية رحلتي، ووجدت أنه أمر ظريف يمكنني الاتكاء عليه في الكتابة: عن مدينة يومها وليلها هو نهار مستمر. وعن الإرباكات التي يتعرض لها الكائن القادم حديثاً إلى هذه البلاد، حيث مثلاً، إن أفاق في عزّ نومه، في الثالثة او الرابعة صباحاً، وذهب إلى الحمام أو ليشرب كوب ماء، ورأى الضوء سابحاً في الصالة، ورأى الأشجار والبيوت والغابة حوله، وكأن الحياة هي في النهار، لنسي أمر الوقت وجهّز قهوته وغادر البيت معتقداً أنها الثامنة صباحاً مثلاً. وخطرت الكثير من الأمثلة التي أستطيع استخدامها روائياً في مدينة لا تعرف الليل.
توقفت عن التذمر بعد ثلاثة أيام، ورغم احتيال عائلتي على ضوء الليل وشمسه الساطعة بوضع ستائر أكثر قتامة وسماكة، إلا أن الشمس القوية كانت تتسرب من فتحات النوافذ والستائر في الثانية والثالثة والرابعة صباحاً، لتُقنعني أن الوقت هو للعمل وليس للنوم.
إلا أنني توقّفت عن التذمر، وأنا أطلع على مشاعر الأصحاب والجيران من العرب اللاجئين إلى تلك الأرض. لا فقط عبر اختلال الليل والنهار، بل أيضاً عبر تفاصيل أقسى، تستحق الوقوف مطولاً في خلل آخر، هو وجود العربي الهارب من الحرب، في بيئة سويدية بحتة، ليبدو ذلك الوجود نافراً للطرفين.
كما لم يخطر في بال عليا (أم عبدالله) وزوجها، يوماً، أنها ستعيش في تلك البلاد، لم يخطر في بال يورت أو كلدم وغيرهما من سكان باجالا، أن يأتي أغراب مختلفون عنهم، ليعيشوا بينهم.
ينظر اهل باجالا أيضاً، بالدهشة ذاتها، إلى أشخاص لا يتكلمون مثلهم، ولا يرتدون الملابس مثلهم، ولا يشبهونهم في شيء.
عليا ذاتها، بعباءتها الطويلة التي تمسح الأرض كلما سارت بها في الشارع، وغطاء رأسها الأسود، تبدو غريبة للسويديين والسويديات في باجالا، ويبدو يورت بالمقابل، غريباً بالنسبة لعليا، وهي تراه يطيل شعره الأشقر ويربطه ويضع قرطاً في أذنه، وهو يتجاوز الستين من العمر، فتحدثه بنبرتها الساخرة: ما هذه الملابس؟ أنت لست شاباً في العشرينات! ويردّ عليها يورت ساخراً: انظري إلى نفسك... هل هذه ملابس يخرج بها الناس إلى الشارع!
عبر تفاصيل صغيرة، تصطدم عليا وزينب وفاطمة ونساء عربيات أخريات قادمات من سورية والعراق، بحضارة وثقافة غريبة عليهن.
لم تذهب عليا إلى المدرسة في درعا، ولم تدخل مجتمعات (ثقافية). هي سيدة منزل عادية، تزوجت من قريبها وأنجبت له الأولاد، وكانت تمضي وقتها في البيت ومع الجارات. وربما لم تشاهد في حياتها فيلماً واحداً عن حياة الغربيين. وكذلك أم صفا العراقية الهاربة من حرب دمّرت بيتها في الموصل، وكذلك أم محمد السورية القادمة من حوران... نساء كنّ قبل المنافي لا تجاوز حياتهن شوارع قريبة لبيوتهنّ في حارات شعبية متواضعة، وفي أحسن الأحوال، ذهبن إلى مراكز المدن والعواصم في بلادهنّ، حيث لا تصدمهنّ هذه التفاصيل.
أن يعتني يورت بكلبه، ويعانقه، ويقبّله، هو أمر طبيعي للكثير منا نحن الذين نقرأ ونكتب ونشاهد السينما الغربية، بل وللكثير منا الذين نربي الكلاب في بيوتنا، ونعتبر كلابنا أصدقاء لنا، نثرثر معهم أحياناً. أما بالنسبة للنساء البسيطات القادمات من ثقافة تعتبر مكان الكلب في باحة بيوت القرية، للحراسة والصيد، وليس في داخل البيوت، فإنهن يشعرن بالدهشة (الصادمة) امام كلاب السويديين على الأرائك الفاخرة.
أما عن العلاقات بين الرجال والنساء، فهي التابو المرعب لمجموعة السوريين والعراقيين الذين التقيت بهم. يتحدثون بطريقة فانتازية لا تخلو من المبالغة وسوء الفهم عن الاختلاط الجنسي وتعدد العلاقات. مع التنويه بأن كل رجل من بين هؤلاء اللاجئين يجلس قرب زوجته في صفّ اللغة السويدية، ولا تتحدث زوجته مع رجل آخر في الصفّ، وترفض أن تصافحه. وغالباً لا يمد الرجل العربي اللاجئ يده مصافحاً امرأة لاجئة.
في تلك المقاطعة الصغيرة، حيث اعتاد سكان باجالا العيش في ما بينهم، يظهر وجود الأغراب نافراً بينهم. وإن غابت التصرفات العنصرية المباشرة من أحدهم صوب الآخر (من الطرفين)، فإن الدهشة والحذر والقلق والتذمّر بين المقربين، يشي بوجود فجوة كبيرة بين عالمين مختلفين، لم ينتظر أحدهما ذات يوم، أن يعيش في جوار الآخر.
أغلب هؤلاء النساء والرجال، حين كنت أسألهم إن كانوا يرغبون في العودة، كانوا يقولون لي أنهم هنا بسبب أطفالهم، وأنهم إن توقفت الحرب، سيعودون.
هذه هي الحرب المفاجئة، التي تقتلع الناس من بيوتهم ويومياتهم الآمنة، وتذهب بهم إلى أراضي القلق، وكذلك، تأتي بقلق مباغت وغامض ومخيف ربما، إلى أشخاص عاشوا سنوات طويلة في استقرار وهدوء.
هذه هي الحرب، أن تجد شعوب تلك البلاد نفسها، في موقع النقد والتشكيك والذم، إزاء تفاصيل اعتادوها لأجيال، لينظر إليها الغريب نظرة اتّهام وقلة احترام.
بعد عودتي من باجالا، صدّقت كل من يهدد الآخر: سأريك نجوم النهار! حيث ثمة بلاد لا تغيب عنها الشمس، وبلاد لا تظهر فيها الشمس.
لولا المنفى السوري الذي أخذني لزيارته، ماعلمتُ وما عشتُ أسابيع طويلة، منهارة الأعصاب، أنام في وضح النهار، محاولة التصديق أنني في الليل.
هذا المنفى الذي صار في كل مكان في العالم، حيث لم يخطر في بال السوريين يوماً أن يضعوا أقدامهم في تلك الأماكن التي لم يسمعوا عنها ذات يوم، ولا قرأوا عنها، ولا شاهدوها في التلفزيون، ولا في كتب الجغرافيا. أماكن انفتحت على مساحات مذهلة، يرتمي فيها سوريون هاربون من الموت.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.