تتمحور رواية «المخدوعة» للكاتب الألماني توماس مان حول قضية الزمن باعتباره الهاجس الذي يشغل بال البشر ويقض مضاجعهم وبخاصة بعد بلوغهم الخمسين من العمر. واذا كان هذا الهاجس مدعاة لاهتمام كتاب العالم وشعرائه ومبدعيه فهو يشكل عند صاحب «سقوط العائلة» و «يوسف وأخوته» أحد المحاور الرئيسية في كتاباته المختلفة إضافة الى موضوعة الجمال التي قاربها توماس مان بطريقة مثيرة للبس دفعت عدداً من النقاد والمحللين النفسيين الى اتهامه بالشذوذ الجنسي. ففي «موت في البندقية» يلاحق الكاتب الستيني الكهل مراهقاً شديد الوسامة في الرابعة عشرة من عمره بعد أن افتتن بجماله ورشاقة تكويناته الجسدية افتتاناً مرضياً جاء الموت ليضع حداً له في نهاية الأمر. وقد اضطر توماس مان الى توضيح الملابسات المتعلقة بهذه المسألة بطريقة مخاتلة لا تنفي التهم المنسوبة اليه ولا تؤكدها. في روايته «المخدوعة» التي كانت آخر أعماله الروائية يقارب توماس مان مفهوم الزمن من زاوية مغايرة هذه المرة حيث تلتقي الأرملة الخمسينية روزالي فون توملر بالشاب الوسيم كين كياتون ابن الرابعة والعشرين سنة لقاء غير عابر ما لبث أن غيّر حياتها وخلخل قتاعاتها من الأعماق. فروزالي التي كانت قد تزوجت من العقيد في الجيش الألماني فون توملر ما لبثت أن ترملت في الأربعين من عمرها بعد أن قضى زوجها بحادث سيارة مؤلم تم تمويهه بعناية من قبل السلطات التي روجت في وسائل إعلامها بأنه قضى في ساحة الشرف في الحرب العالمية الأولى. وكان زواج روزالي من فون قد أثمر ابنة بكراً تسمى آنا بلغت عند وفاة أبيها الثامنة عشرة من العمر وصبياً يصغرها بسنوات ست يسمى ادوارد. أما لقاء روزالي وكين فقد حصل من طريق الصدفة حيث كان الشاب القادم من اميركا للمشاركة في الحرب قد انصرف بعد ذلك لاعطاء دروس خصوصية في اللغة الانكليزية لبعض أبناء الطبقات الموسرة والمتوسطة في مدينة دوسلدورف. وسرعان ما وجدت الأرملة الخمسينية نفسها منجذبة لهذا الشاب اليافع الذي لفت بوسامته وذكائه وثقافته الواسعة العديدات من نساء المدينة ومراهقاتها غير آبهة لفارق السن الشاسع بينهما. قد لا يكون موضوع رواية «المخدوعة» جديداً على الشعر والرواية والفن في زمن توماس مان ولكن الكاتب الألماني الذي عرف عنه حدبه على التفاصيل وميله الى التحليل النفسي حاول من خلال روايته أن يسبر غور أبطاله مركزاً في شكل خاص على الحوارات الطويلة والمتلاحقة التي كانت تتم بين الأم روزالي فون توملر وابنتها آنا حول الحب والزمن والعلاقة بين الروح والجسد وبين الرغبة والتسامي الطهراني. وهي حوارات تذكّرنا الى حد بعيد بأسلوب الكاتب الروسي تولستوي من حيث مزاوجتها بين السرد الواقعي وبين التقصي الفكري والفلسفي مع محافظة على وضوح الفكرة وبساطة الأسلوب. فالفتاة اليافعة آنا التي تشكو من عرج في مشيتها ترد على عاهتها بواسطة الاستعلاء على معجبيها وطالبي الزواج منها بما يفضي بها الى الوحدة والانعزال. في حين أن أمها تقرر الرد على ترملها المبكر بإعادة الإصغاء الى متطلبات جسدها الكهل الذي لم يفقد بعد توقه الى الرغبة ومعانقة الحياة. والطريق في الأمر أن الابنة في الرواية تقف من الجسد الأنثوي موقفاً محافظاً وتخضعه للمعايير الاجتماعية والأخلاقية المتعلقة بمراحله العمرية المتفاوتة، في حين أن الأم تقرر التمرد على هذه المعايير التي تتيح للرجل ما لا تتيحه للمرأة فتجعل من الكهل العاشق بطلاً مغواراً ومن الكهلة العاشقة امرأة ساقطة، أو متصابية في أحسن الأحوال. لم يُبد توماس مان في روايته اهتماماً بالغاً بشخصية بطل الرواية كين كياتون باستثناء ما يتصل بعلاقاته النسائية المتعددة وبرغبته في استمالة امرأة في عمر أمه ليس بسبب وقوعه في غرامها بل بسبب ارضاء دونجوانيته التي لا تكف عن اختبار أحوال النساء من مختلف الشرائح والأعمار. ومع ذلك فإن بروده العاطفي ازاء روزالي ما يلبث أن يدفعها الى أخذ المبادرة بنفسها والانقضاض على معشوقها التحفظ بعد صراع مرير مع النفس. على أن تعاطف توماس مان مع قضايا المرأة وحقوقها العادلة بما فيها حقها في امتلاك جسدها ولتعبير عن رغباته لا يتناسب مع الطبيعة المأسوية للرواية التي تؤول تدريجياً الى خاتمتها القائمة. ففي اللحظة التي تنجز فيها روزالي مغامرتها العاطفية الجريئة مفاتحة حبيبها الشاب بكل لواعج جسدها المضطرم ينهار هذا الجسد دفعة واحدة تحت ضربات المرض ويتبين ان البطالة مصابة بسرطان الرحم الذي بدأ يتفشى في سائر أنحاء جسمها الواهن. كأن منطق الرواية يتعارض في شكل او آخر مع منطق كاتبها المبدئي أو كأن أنا الكاتب تنقسم على نفسها في هذه الحالة بما يحول حق البطلة في منازلة قاسية مع الموت تنتهي بانتصار هذا الأخير على كل ما عداه.