لطالما ارتبط نزول المطر بحال التفاؤل في أوساط المجتمعات وبين الشعوب كونه وسيلة الخصب ومقدمة النماء وعنوان البركة ومظهراً من مظاهر الرحمة، ما ينعكس إيجاباً على نفوس البشر خصوصاً في مواسمهم ومناسباتهم، على رغم كل ما تركته أمطار جدة في عام مضى من آثار نفسية مؤلمة لم تزلها كل جهود الضماد شعبياً ورسمياً، لتظل حكاية المطر محتلة ذاكرة أهالي المدينة المقدسة لتلازمها مع أمطار يوم أربعاء في الستينات الهجرية، وعلى رغم تكرر انهمار الغيث في أعوام تلت، إلا أنها لم تعد تهدّد الحرم ومكة في ظل المشاريع العمرانية وقنوات التصريف الناقلة لمياه الأمطار إلى خارج العمران. ومن أبرز التوثيقات لأمطار مكة ما ورد في مقال نشرته مجلة المنهل في الستينات الهجرية للأديب الراحل عبدالقدوس الأنصاري تناول فيه بحس أدبي وقائع «سيل الربوع» بعنوان «ذكرى اليوم المطير والسيل الخطير»، وصف فيه منظر السماء المكفهرّة، والسحب المضطربة، آن تجمّعها في سماء مكة لتبدو للناظرين سماء تحت السماء وأرضاً فوق الأرض، في ظل جلجلة الرعد بصوت مرعب لتتردد الجبال صداه في رهبة وتضخيم، متشحة بلمع البروق من خلال الغيم المنسجم كما تلمع الشهب في الليلة الدهماء، ومتسربلة عواء الريح بدويها من كلّ جانب لتسوق قطعان السحب المتخلّفة وتحشرها في هذا الموقف الرهيب. وبالأمس عاش الحجاج وعايشوا في المشاعر المقدسة (كرنفال السحب) مستعيدين مشهد «سيل الربوع» من ذاكرة عصيّة على النسيان، مرتدين شبح الخوف من تكرار مآس لا تغيب عن بصيرة وبصر المفجوعين، إلا أن مطر الخميس تجلل باللطف والنسمات النافضة أعباء الإرهاق عن كاهل الحجيج، ما أشعرهم بالرضا والحبور وهطول الرحمات مع جزيئات القطرات، ما عزز في نفوسهم لحظة أدائهم طواف الوداع حول الكعبة استشعارهم معاني القبول لحجهم والشكر لسعيهم، مبتهلين إلى ربهم الذي بللهم بالمطر أن يبللهم بالمغفرة.