يمنح المعرض الاستعادي للفنان السويسري ألبيرتو جياكوميتي، الذي يستضيفه متحف محمد السادس للفن الحديث والمعاصر في الرباط، للمتابعين والمهتمين بفن النحت، فرصة لاكتشاف السيرة الحرفية والتفكير الفني المتفرد، وعادة قراءة أعمال هذا الفنان على ضوء المنحوتات التي خلّفتها الحضارة الأترورية التي ظهرت في غربي إيطاليا بين القرن التاسع والقرن الأول قبل الميلاد. والمعرض المستمر حتى الرابع من الشهر المقبل، يعكس التفكير الفني لألبيرتو جياكوميتي، فهو يعتبر أول معرض استعادي رائد في أفريقيا يخصص لأعماله وشغفه بروائع الحضارات القديمة. وتشهد على ذلك كتاباته ورسومه الغزيرة على صفحات كاتالوغات معارض الفنون البدائية ومجلات تاريخ الفن التي عُثر عليها في مكتبته. كان الرسام والنحات السويسري يقول عن الحيّز الصغير الذي كان يشغله إنه بمثابة ملعب حقيقي يتسلى فيه، والمكان الذي يتفاعل فيه الفن والحياة التي تلخص نظرة الفضاءات والأمكنة التي تؤوي كل شيء. وقد احتوى المشغل المعروض على صورٍ فوتوغرافية يظهر في بعضها جياكوميتي، في حين يغيب عن أخرى. وكان جياكوميتي قد اتخذ من زوجته آنيت وشقيقه دييغو نماذج لغالبية أعماله، حيث كانت زوجته موضوع العديد من تماثيله النصفية ولوحاته الزيتية، وكذلك الحال بالنسبة إلى شقيقه الذي لم يكن يفارقه في جميع نشاطاته وأعماله الفنية. ويمكن الجزم وفق النقاد، بالافتتان العميق للنحات الشهير بالفن الفرعوني والسومري والبيزنطي والأفريقي والأوقياني والأزتيكي، إلى جانب الفن الأتروري الذي اكتشفه باكراً في متحف اللوفر، خلال الأبحاث التي قادها أثناء مرحلته السوريالية وسعى فيها خلف حلول مركبة وصور رؤيوية وغامضة مثالية لاستحضار أشكال جديدة ترضي توجهاته الطليعية. لكن لقاءه الحقيقي مع هذا الفن حصل أثناء المعرض الذي خصّصه متحف اللوفر للحضارة الأترورية عام 1955 والذي شكّل صدمة له ظهرت على أثرها منحوتاته الخيطية الشكل التي تعتبر الأقوى والأهم في إنتاجه الفني. ويشكل معرض الرباط، الذي يعتبر إنتاجاً مشتركاً بين المؤسسة الوطنية للمتاحف (المغرب)، ومؤسسة جياكوميتي (سويسرا)، بإشراف كاثرين جريني وبمساعدة سيرينا بوكالو موسيلي، فرصة لالتئام أكثر من مئة عمل فني من أفضل ما حفظته أغنى مجموعات المؤسسة، كما يتيح إمكان الوقوف على المسار الفني لأحد كبار أساتذة الفن التشكيلي في القرن العشرين، منذ تكوينه بمحترف والده في سويسرا حتى مرحلته الأخيرة، التي ابتدع أثناءها روائع أيقوناته. ويقدم المعرض عبر تسلسل زمني موضوعاتي، مختلف ملامح الإنتاج الفني لجياكوميتي، بتناول الموضوعات الرئيسة لفكره الإبداعي، من خلال 46 منحوتة و19 لوحة و30 رسماً، إضافة للأشكال الفنية والزخرفية والتوثيقية بالتصوير الضوئي التي تعرف بالجوانب الغنية من عمل جياكوميتي وتضيء مراحله الزمنية الثلاث: أعمال ما قبل السوريالية وأخرى سوريالية، وأعمال عودة الاشتغال على الطبيعة والإشكاليات ذات الصلة بتمثل الإنسان، وأعمال منشغلة بقضية وضع الوجه في حيز اللوحة. ويسلط المعرض، وفق المنظمين، الضوء على التأثر الكبير الذي لعبه لقاء جياكوميتي بفنون أفريقيا وقد كان ميز بداية مرحلة نضج عمله الفني، مبرزا أنه باتصاله بالفن الأفريقي وبالآثار المصرية، التي كان اطلع عليها في قصر تروكاديرو ومتحف اللوفر وعلى صفحات المجلات الفنية الصادرة آنذاك، طور جياكوميتي أولى أعماله ضمن الجماليات الحديثة. وإلى جانب الأعمال الفنية الكبرى والمعروفة لدى الجمهور، مثل «الكرة المعلقة» و «القفص» و «الرجل الذي يمشي»، يقدم المعرض الحالي أعمالاً فريدة من نوعها، وأشغال جبس بعضها استثنائي التلوين. وتكمل المجموعة لوحات شخصية ملونة، غنية الدلالة ورسومات لم يسبق عرضها.