يذهب فنّانون لبنانيون من وقت لآخر إلى أفكار يعتقدون أنها «وطنية» بالقول إن أداء مغنين لبنانيين أغاني باللهجة المصرية هو خيانة للهجة بلدهم. يجهل هؤلاء ألّا علاقة إطلاقاً بين وطنية أي فنان عربي من خارج مصر، وتفضيله الغناء باللهجة المصرية أكثر من لهجة بلده. فالوطنية، أي الانتماء الى وطن وشعب وهوية محددة والتجذّر في حب ذلك الوطن والشعب وتلك الهوية... أمور غير خاضعة للمزاج الفني ولا للميول والتأثرات والعواطف الغنائية، بل تخضع لفطرة الفنان ونشأته وارتباطه الإنساني والاجتماعي بمجموعة بشرية كبيرة لها أرض ووطن وحدود وجغرافيا وتاريخ مشترك. وهذا لم يكن في يوم من الأيام محط جدل بين أي فنان ونفسه. الوطن، مسقط الرأس، وجهد العائلة والمجتمع الكبير، هو حقيقة نهائية لا يمكن استبدالها بأي وطن أو مسقط رأس أو عائلة أو مجتمع كبير أياً كانت درجة الانسجام والتوافق بينك وبينها جميعاً راسخة. فما هو بالفطرة السليمة، وبأساس تركيبة الشخصية والنفسية والبيئية أي الوطنية، يبقى أعلى وأرفع من أي تركيبة فنية قد تنتج عن ثقافة أو اختلاط فكري أو ما شابه. التركيبة الفنّية قد تدفع الفنان الى اتباع نهج غنائي معين يراه أصدق تعبيراً عن نفسه وعن كيانه الفني وعن تطلعاته في اتجاه انتشار أكبر أو في اتجاه مستوى فني دون غيره. لكنها لم تدفع أحداً، على الأقل في ما نعرف من نماذج فنانين عرب احترفوا اللهجة المصرية غناءً، او الإقامة الدائمة في مصر، الى التخلي عن هويته الوطنية الخاصة. من هنا، فإنّ تحبيذ فنان عربي ما الأجواء الفنية المصرية أو اعتبار نفسه جزءاً منها هو إعلان حبّ فني لا إعلان تبرؤ من وطنه الأصلي، وهو في بعض الحالات قد يُشكِّل قيمة مضافة إبداعياً الى تلك الأجواء المصرية، بمعنى أن المواهب الجدية الكبيرة لا تتأثر فحسب بما تغني، بل هي تؤثر أحياناً في ما تغني، في اللون، في الأسلوب، في الأداء، في مستوى الصوت وتدفقاته، فيحدث عند ذلك ما يسمونه التبادل الفني أو التمازج في الأشكال والمضامين الغنائية التي تخلق الشخصية الفنية: الغنائية – الموسيقية العربية. ومهما يكن بلد بعينه قوياً بل عظيماً بمواهبه وتجاربه الإبداعية فلا يمكن إلا أن يكون أخذ وأعطى في ما قد يصبح حضارة فنية. والحضارة الفنية العربية ليست حكراً على إنجازات مصر وفنانيها وبعضهم أفذاذ ورؤيويون، إنما هي نتيجة تضافر جهود وأفكار وخبرات الفنانين العرب مجتمعين، وتحديداً أهل المواهب الكبيرة منهم. وليس هناك من يشك للحظة واحدة مثلاً في ما قدّم وديع الصافي أو صباح أو فيروز للأغنية العربية من خلال الأغنية اللبنانية أو حتى من خلال ما قدمه بعضهم في الأغنية المصرية بالذات، كما ليس هناك من يستطيع الجدال في أن بعض فناني مصر كانوا قدوة وأمثالاً عليا لأجيال من الفنانين العرب، في مصر وخارجها، نظراً لما أغدقوا على الفن العربي من عطايا جمالية بلغت أحياناً مصاف الاكتشافات الرائعة. يجب الاعتراف بأن الفن الغنائي والموسيقي العربي هو المكان شبه الوحيد الذي بمقدورنا القول إنّه يجمع الطاقات العربية، من كل بلد عربي، ليصبّها في مجرى واحد، ويجب الاعتراف بأن مصر هي البلد العربي الأكبر والأكثر قدرة على احتضان التجارب الفنية وإيجاد فرص انتشار ونجومية واسعة جداً، مع الإشارة الضرورية الى أن لبنان كان ولا يزال منذ سبعينات القرن الماضي ولادة المواهب الغنائية التي قد تبدأ لبنانية ثم يتسع نطاق أحلامها العربية كما كان يحدث أيام «ستديو الفن» . أما الآن، ومع برنامجيْ «سوبر ستار» و «ستار أكاديمي»، فالمواهب لبنانية وعربية من المشرق الى المغرب العربي، والإعلام اللبناني الفضائي يسهم كلياً في ضخّ الوجوه والأصوات الجديدة التي، بصرف النظر عن مستوى بعضها العادي، وعن نتاجها «الخاص» الذي تحترف من خلاله الغناء وهو يقلّ كثيراً من حيث الجودة والإتقان والعمق مما أنشدته في البرنامجين المذكورين، فإنها أصوات ووجوه تحتل مساحة مترامية الأطراف من نطاق الاهتمام الغنائي الفريد... ويُنتظر أن تلعب دورها في تظهير أي تجديد قد «يلحق» بالأغنية العربية. وتالياً، فإن توجهها سواء أكان الى اللهجة المصرية أو اللبنانية أو الخليجية التي باتت بعد نهضة واضحةٍ لها أقرب الى مزاج الجمهور العربي ككل، سيفيد في تقريب المسافات الفنية العربية، ويجعل مصطلح «الأغنية العربية» أكثر دقة وموضوعية من أي وقت مضى، وتحديداً في اكتساب الأغنية العربية ملامح ومواصفات يسهم في تكوينها في آن عدد من البلاد العربية نصوصاً وألحاناً وأداءً... وجمهوراً أيضاً. ... وإلاَّ فلماذا الأغنية الناجحة لأي مُغنٍّ عربي اليوم، تنجح هي نفسها في غالبية البلاد العربية ولدى جمهور تلك البلاد المنوّع والمختلف المزاج؟... أليسَ لأن الأغنية العربية باتت «مشتركة» بالفعل؟!