كم كانت كئيبة وضيقة نافذة الأبيض والأسود والقناة الواحدة الوحيدة. نقول ذلك اليوم، مع أننا كنا في تلك الأيام في ذروة بهجتنا بذلك المذياع الذي صارت له صورة، وصرنا نشاهد أشخاصه يتحدثون إلينا ونتابع قسماتهم. لعلّ إحدى أهم رغباتنا في مشاهدة «المذياع المصوّر» كانت بحثنا عن المصداقية، ألم يقل العرب إن من تراه أثناء الكلام يصعب عليه الكذب؟ في كلّ حال، أثار الزميل إبراهيم العريس سؤالاً حيوياً عن علاقة التلفزيون بتربية مشاهديه والمدى الذي ساهم فيه (إيجاباً وسلباً) في إعادة تثقيفهم بما يبثُه، خصوصاً في زمن البث الملون الذي سرعان ما أصبح فضائياً يجتاز الحواجز كلّها. سؤال التلفزيون والناس يشغل العالم من حولنا، سواء تعلّق الأمر بصورة الوعي عند الناس، أو حتى بتأثير البرامج التلفزيونية في تشكيل الرأي العام، وقدرته على تشجيع مبادرات الأفراد والجماعات، إلى الحد الذي دفع صحافياً مرموقاً كمحمد حسنين هيكل الى أن يتساءل ولو من باب المجاز إن كان لينين سيستغني عن حزبه لو توفر له تلفزيون. أبرز ما يمكن ملاحظته هنا حجم العلاقة بين هذا الجهاز السحري ومتابعيه، ما يجعلنا نلاحظ مسألة «الإدمان» في عادة المشاهدة، وما تحمله هذه الصفة من تمكين للتلفزيون من فرض سطوته على المشاهدين كمعلم يثقون به ويصدقونه. سأتجنب السؤال الأول الذي يذهب لمساءلة علماء الاجتماع والمثقفين، لأثير السؤال في اتجاه التلفزيون ذاته: هل تقوم قنواتنا الفضائية التي لا تحصى على ما يعادل «دراسة جدوى» بالنسبة للمشروعات الاقتصادية؟ بكلام أكثر دقة وتحديداً: هل ينهض البث التلفزيوني العربي على معرفة وافية بماذا يريد هو تقديمه للمشاهد؟ بل هل في ذهن وبرامج القائمين على الفضائيات مشاهد محدد؟ سؤالان يطلعان من زحام البث كما من مناسبة ما يزيد على خمسين سنة على انطلاق البث التلفزيوني العربي. وهو سؤال يحتاج مساهمات متعدّدة، وذات منابع مختلفة، تجمع آراء المتخصصين والمثقفين، ولكن أساساً أصحاب العلاقة ذاتهم.