انتهت ندوة عقدت اخيرا في الخرطوم بتنظيم من مركز الدراسات الثقافية «نبت» حول مشكلات الصحافة الثقافية، إلى تكرار ما قيل في ندوات سبقتها. فالمؤسسات الصحافية وهي في معظمها سياسية، تتيح للمادة الثقافية التنفس عبر أربع صفحات اسبوعية ويمكن ان تحجبها متى يطلب ذلك قسم الاعلانات. فصفحات الثقافة ماهي إلا صفحات مؤجلة للاعلان، وتبدو هذه المشكلة أخفّ عند النظر إلى وضع المحرر الثقافي ذاته داخل هذه الصحف، اذ يُنظر إليه كضيف «ثقيل الظل» بتعبير أحدهم، وهو في الغالب قاص أو شاعر أو ناقد وليس صحافياً «محترفاً». وعلى رغم ان مجلس الصحافة السوداني لا يقصر منح شهادة «الاحتراف الصحفي» على متخرجي كليات الاعلام إلا ان الصحف، ومنذ البدايات، أوكلت مهمة الاشراف على صفحاتها الثقافية إلى مبدعين، ولم تشترط في ذلك حصولهم على شهادة الاحتراف، وأكتفت بسمعتهم الادبية خصوصاً في ما مضى. فأسماء مثل عيسي الحلو الذي يعمل منذ نصف قرن في التحرير الثقافي، ونبيل غالي، ومجذوب عيدروس وسواهم عُرفت برصيدها الابداعي والنقدى قبل اشرافها على الصفحات الثقافية. لذا بدت الصفحات الثقافية دائماً مثل «مجلة أدبية» داخل صحيفة، فهي تضمّ نصوصاً شعرية وقصصية أو مقالات نقدية مطولة أو حوارات ولا مساحة فيها لأشكال التحرير الصحفي المعروفة (التقارير، الاخبار، التحقيقات، المتابعات...). ومع انها، في شكلها هذا، اكتشفت وقدمت العديد من الاسماء الجديدة، بخاصة في مجالي الشعر والقصة القصيرة، إلا ان عدم قدرتها على التعامل مع قضايا المجال الثقافي عبر الحلول التي تعتمدها الصحافة اليومية، جعل ادارات الصحف تنظر إليها بوصفها مادة غير متأثرة بالحراك اليومي، بالتالي «قابلة للتأجيل»! ومن المشكلات الجديدة التي بات المحرر الثقافي يواجهها في الصحف السياسية ضآلة الأجر قياساً على المحررين السياسيين « وكتّاب «الرأي السياسي» هذا على رغم انه يعمل وحده ومن دون مساعدة محررين متدربين، كما يحصل في بقية الاقسام، ومع ان الصحف لا تدفع مقابلاً لمن يقوم باستكتابهم في الصفحات الاسبوعية. لم يكن هذا هو الحال بالطبع في فترتي الستينات والسبعينات من القرن الماضي، اذ كانت الملاحق الثقافية تكمل ما ينقص من دور المجلات والدوريات الثقافية المنتشرة حينذاك في مكتبات الخرطوم، سودانية وعربية وغربية. وحينذاك مثلت الملاحق الثقافية مختبراً اسبوعياً للنصوص الشابةوالجديدة، كانت جسراً يعبر بهم إلى المجلات الرصينة، كما كانت ،بالنسبة للاسماء الراسخة، مجالاً حيوياً للسجالات والمواجهات النقدية المهمة، خصوصاً تلك المرتبطة بأحداث معينة سياسية واجتماعية. كانت الساحة مفعمة بالانشطة والمنابر، لكن وبسبب التحولات السياسية التي شهدتها البلاد لاحقاً، وصولاً إلى انقلاب «الانقاذ» (يونيو 1989)، لم يستمر ذلك النبض الصحافي الثقافي الذي عرّف بالعديد من التيارات الادبية والفنية مثل «الغابة والصحراء» و «ابا دماك» و «مدرسة الخرطوم التشكيلية» وسواها، وغابت المجلات والدوريات والكتب، كما غابت الصحف ذاتها لا سيما «الأيام» و «الصحافة». ومع النصف الثاني من التسعينات بدأ المشهد الصحافي يستعيد عافيته عبر عدد محدود من الصحف التابعة للدولة، وعاودت المادة الثقافية الظهور، ولا بد انها كانت متأثرة بحال الانقطاع في نوعية ما قدمته، وقد انتظرت طويلاً قبل ان تعزز حضورها في أكثر من 15 صحيفة تصدر يومياً في الوقت الراهن. وهذه المرة لعبت الصفحات الثقافية دوراً أكبر بكثير من طاقتها، اذ حلت محل المجلات والدوريات التي لم تعد موجودة، وبقيت تغالب شروط استمراريتها القاسية، و لم يسلم المشرفون عليها بالطبع، من اتهامات بالتحيز لفئة دون أخرى، أو لجنس أدبي دون آخر. على ان ذلك لم يكن مما يصعب تحمله قياساً الى ما حصل لاحقاً، أي في نيسان (ابريل) 2008، وقد تمثل في اعلان مجموعة مؤثرة من الكتّاب (بينهم عالم عباس، أبكر ادم اسماعيل، عبد العزيز بركة) مقاطعتها النشر في الملاحق الثقافية دون مقابل مادي. وترك الاعلان الذي تبناه «اتحاد الكتّاب السودانيين» أصداء واسعة بنقده ادارات الصحف وسياستها « المجحفة» مع المبدعين والمحررين الثقافيين. ومع ان بعض الاقلام رأت فيه «تضحية» بمساحة مهمة لا تملك المادة الثقافية أي منبر آخر سواها، خصوصاً مع رفع الدولة يدها عن دعم الإنتاج الثقافي وهشاشة المؤسسات الثقافية الأهلية وافتقارها التمويل الكافي، إلا ان الكتّاب حافظوا على مقاطعتهم حتى الوقت الراهن. ولم تجد الملاحق الثقافية سوى اللجوء إلى «الانترنت» لمداراة نقصها وراحت تنتقي من المواقع الفكرية والثقافية، الحوارات والمقالات المطولة، وتنشرها كما هي ، مع الإشارة إلى مصدرها. ولضعف حماسة معظم المحررين أو المشرفين، كما يفضل بعضهم تسميتهم، نتيجة لبؤس أجورهم، زيادة على احجام الكتّاب عن صفحاتهم ، قلّ اهتمامهم بتغطية الانشطة التي تقيمها بعض الروابط والجمعيات والاتحادات. وعلى كثرة مشكلات الساحة الثقافية إلا ان من النادر وجودها في الملاحق الثقافية، ولعل العديد من الكتب الابداعية التي صدرت في السنوات الاخيرة لا تعرض أو تقرأ، وكل نصيبها من الاهتمام في هذه الملاحق بضعة اسطر تشير إلى عدد صفحاتها والجهة الناشرة... هذه هي القاعدة! واذا تجاوزنا مسألة افتقار معظم المحرّرين الى المهارات الصحافية، خصوصاً الشباب منهم، فمن أخطر ما يحصل في مشهد المحررين الثقافيين في الوقت الراهن، ان بعضهم أخذ يتحايل على الاجور الضعيفة بالتكسب مادياً، من دون معرفة ادارة الصحيفة بالطبع، من تغطية بعض البرامج الثقافية، ويساعدهم في ذلك بعض من يطلق عليهم اسم «منسقو البرامج الثقافية». فهؤلاء، ومن اجل الايحاء بإهمية ما قدموه يدفعون ما يشتري لهم صفحة كاملة تغطي ندواتهم وعروضهم، فتقنع الجهات التي استخدمتهم بنجاح اتجربة واحرازها اصداء صحافية واسعة!