في مذكراته «حكاية شتاء»، يبدو الروائي الأميركي بول أوستر (1947) كما لو أنه جالس على حافة سرير، وفي السرير شخص فاقد الوعي. شخص هو أيضاً بول أوستر. الأول يقرأ للثاني من دفتر يومياته، محاولاً إنعاشه بالذكريات. أوستر يقظاً، يقص على أوستر الذي على وشك الغياب، «جورنال» حياته، في مونولوغ حيوي، حد الإرهاق، لا مكان فيه لالتقاط الأنفاس. كما لو أن الكاتب، الذي لا نعود نعرف أيهما، يريد أن يسبق لحظة موته، موت صورته على السرير الذي أمامه، أو أن يؤخرها على الأقل، ولو قليلاً. نجده معتمداً تكتيكاً سردياً متعجّلاً، كثيفاً ومتلاحقاً ، من دون فراغات، كما لو أنها أنفاس أخيرة متصلة بعضاً ببعض. دافئة، لكنها مشوبة بالتعب وبعدد غير خفيف من الأعطاب. سيل من مقاطع حياتية مستعادة من دون أي سياق درامي، وفي قفزات زمنية «عشوائية»، إلى الأمام وإلى الوراء. ما يذكّر بإحدى قصص بورخيس التي يحاور فيها نفسه، ويتلو على مسامعها أحلى اهتماماتها، وتجاربها والأماكن التي شغفت بها، وزارتها والحضارات التي حفرت فيها عميقاً وأسست لذات بورخيس الشامخة في الأدب. غير أن مذكرات أوستر خالية من أية «بطولة»، إذ لا مكان فيها للإنجازات الكبيرة، على الصعيد الأدبي والشخصي. لم يفرد أوستر ولو صفحة واحدة فيها للحديث عما تعني له مكانته الأدبية رمزياً، أو علاقته بالكتب وكيفية تعامله مع شهرته، ولن نجد فيها اسماً لأي كاتب كان أوستر على صلة شخصية به، ولا لأية حادثة شاكس فيها أوستر صحافياً أو خانق كاتباً. وهو المعروف بمواقفه الصارمة أدبياً وسياسياً، والتي غالباً ما تحدث بلبلة أو تُسَخِّن أقلام النقاد في صحف أميركا الكبرى. على العكس من ذلك، سنجد أنه كاتب لا يخجل من أن يعلن بأنه كاد يلكم سائق تاكسي فرنسياً ذات مرة وأنه كان مصمماً على إلحاق الأذى به، أو أنه أصيب بأمراض جنسية كقمل العانة مثلاً، أو وبَّخ أمه العجوز عدداً من المرات توبيخاً لا يخلو من القسوة. نجده في هذا الكتاب الصادر عن شركة المطبوعات للتوزيع والنشر (ترجمة هالة سنو)، يتعقب التفاصيل العادية التي ألمَّتْ بحياته، التفاصيل الرفيعة والمتعلقة باهتمامات البشر الفطرية، والتي سيكون لها أثر لا يقل أهمية عن أثر الأحداث العظيمة التي تحفر في المرء. تفاصيل تبدو كما لو أن أوستر يخرجها بملقط دقيق من وسط أحداث كبيرة كان سيبدو سهلاً التطرق إليها، ككل ما يتعلق بشهرته الأدبية مثلاً أو إنجازاته ككاتب. الصورة تشبه ما يذكره أوستر عن حسكة سمكة هلبوت، نجح الطبيب بإخراجها، بعد خمس عشرة محاولة، من بلعومه، وكادت أن تقضي عليه. أخطار «مألوفة» كهذه، يمكن أياً منا أن يكون قد مرَّ بها. يقف عندها أوستر مطولاً. ويتحدث بسخاء لافت عنها. إنها في نهاية الأمر البطولات التي حققها كل فرد منا، الإنجازات الشخصية والمينيمالية، والتي غالباً ما تهملها الذاكرة، ولا يلتفت إليها الجسد على رغم العلامات التي تتركها فوقه. اختبارات تهبها الحياة لنا، بلا سؤال، يعيد أوستر الاعتبار لها، بصفتها المكونات السرية للفرد. نشاطات أوستر الطفولية، الشيطنات غير المدروسة والتي خلفت كلها ندوباً في وجهه وجسمه، الحوادث التي تسم الجسم، في الرياضة وغيرها، الشغف بالتجارب العاطفية والجنسية والإخفاقات المتتالية، الأطعمة التي أحبّها، الأمراض، تنقّله الدائم بين ولايات أميركا وفي داخل نيويورك (بين مانهاتن وبروكلين خصوصاً)، أسفاره في الخارج – علاقته بباريس والباريسيين، ثم علاقته (يتطرق إلى ذلك في شكل شبه عابر، ولكن قاس أيضاً) بهويته كيهودي، وزوجته النرويجية – الكاتبة أيضاً وذويها، وغير ذلك من الأمور، كلها تصبح شريط الأولويات الذي يزنّر صورة حياته. هي بذلك مذكرات لا تكف عن الحركة، بورتريه الجسد الذي يبقى على قيد الحياة وعلى قيد المتعة، واللعب، والجهد، والنجاحات (التي لا يتوقف عندها كثيراً) ونوبات الهلع، والخوف من الموت. مذكرات اختار أوستر أن يلبسها لبوس النشاطات الاجتماعية التي يقوم بها كل فرد في هذا العالم، بدرجة أكثر أو أقل، وفي أي مكان وأي زمان وتحت أية ظروف. كل نشاط من هذه الأنشطة، يتحول في الرواية إلى حدث درامي صغير، على قياس الجسد نفسه. فالجسد بالنسبة لأوستر هو عبارة عن قائمة، تسجل فيها كل الآثار التي تعرضت لها الروح، آثار الجروح العرضية والبريئة وتلك المتصلة بحوادث كان للعالم الكبير واللئيم مسؤولية فيها. فالجروح المندملة في مذكرات أوستر هي مخلفات تلك الصدامات المؤلمة وغير المنتظرة. مع ذلك، فإن أوستر، وعلى رغم توقه ألا يكون شاعرياً في المذكرات، تستوقفه بعض الجوانب العاطفية على صعيد العائلة، فتسحب السرد من عبثيته إلى دوامتها. هنا، نتعرف إلى الجانب الأكثر حميمية في حياة الكاتب. زواج أبيه من أمه والذي يعتبره خطأ جسيماً، وموت الأب المبكر بعد طلاقه من أمه، ثم وفاة الأم، والسنوات الكثيرة التي تفصل بين موتيهما، إلى علاقة أوستر المتزعزعة بعائلة أبيه، والأثر النفسي السيء الذي تخلفه أحكام تطلقها هذه العائلة على أمه حتى بعد وفاتها. الأماكن التي تنقل بينها أوستر موضوعة ثانية تأخذ أيضاً حيزاً كبيراً في هذه المذكرات. أكثر من عشرين شقة أقام فيها، بين نيويورك وباريس، بعضها مدقع وبالغ في الصغر، شاركته بعضها زوجته الأولى التي أحبها لسنوات، وأنجب منها ولداً قبل أن يتطلقا.