يكتب محمد داود روايته الخامسة «بار أم الخير» (ميريت)، بأسلوب جديد يجمع فيه خبرته السردية والحياتية وروح النكتة التي يتحلّى بها. يفاجئ داود قارئه باختيار لغة مكتوبة بلهجة عامية مبدعة، تتلاقى فيها العامية القاهرية بلمسات من عامية الأقاليم الكبرى في مصر. وتأتي الحكمة على لسان أبطال الرواية مقطرة ومصفاة، على رغم ما تحمله من سخرية مريرة. تجربة السرد بالعامية المصرية ليست جديدة، بحيث اعتمدها سابقاً كتّاب مثل مصطفى مشرفة في روايته «قنطرة الذي كفر»، وصار هناك وعي بأهمية اللهجة العامية وما تحمله من طاقة يصعب إيجادها في اللغة الفصيحة، لكنها تبقى تجربة صعبة تحتاج إلى كاتب موهوب لا تقلّ عاميّته فصاحة عن فصحاه، وهو ما يميز محمد داود. يدرك القارئ منذ الوهلة الأولى، شقاء البطل ومدى قدرته على مقاومة هذا الشقاء، تارة بالصراع معه ومواجهته، وتارة بالاستسلام له ومجاراته. فأبو الأرواح عقد مع «عزرائين» اتفاقاً يشبه اتفاق فاوست مع الشيطان في رائعة غوته. وبعدما يقبل البطل «أبو الأرواح» بطلوع أرواحه روحاً بعد أخرى وتسليمها الى «عزرائين» بلغة الرواية، تبدأ مرحلة جديدة من حياة البطل في «بار أم الخير» بكل شخوصها ومفرداتها. يبدأ الرحلة إلى داخل البار باستعارة شخصية وردت في أغنية شعبية قديمة تقول: «يا ست يا أم زكي، زكي بيعيط»، فيضفي على شخصية زكي لحماً ودماً وأوصافاً كاريكاتورية تعبّر عن مأساة دائمة يرسمها فقر «أم زكي»، وحاجتها الى بيع الفول النابت أمام البار بينما يبكي ابنها زكي دائماً. نتعرف بعد ذلك، الى شخصيات البار وأولهم «أم ترتر» و «أم لالي»، وما تحمله هاتين الشخصيتين من إسقاطات على واقع يمتلئ بالقبح والبذاءة. يستمر السرد ببساطة ويسر، لتشعر أنك داخل عالم كارتوني يتضافر فيه الخيال بالواقع، والوجع بالسخرية، والنقد وقلة الحيلة بالأمل والتفاؤل، حيث يظلّ الراوي يبحث طوال أحداث الرواية عن حبيبته المجهولة وعن بطيخة ذات بذر عريض، لتبدو هاتان الأمنيتان كضرب من الخيال أو بحث عن المستحيل وسط معاندات وملاحقات حظّه النحس الذي يتجسّد أمامه، وصراعه مع شخصيات فاسدة وقبيحة من رواد البار يضطره الى التعايش معها. فكل الحبيبات اللاتي قابلهنّ مزيفات، بينما حبيبته الحقيقية مجهولة وصعبة المنال. وفي «البار بوك»، أو «الفيس بوك»، يقابل الراوي شخصيات أخرى لا تقلّ ثراء عن شخصيات «بار أم الخير»، حيث يأمل بأن يجد فيها علاقات حقيقية، لكنّها غالباً ما تخذله. ولا تملك إلا الاندهاش أمام تدفّق الكاتب في رسم شخصيات عديدة، وإبداع ملامح متفردة وأسماء مبتكرة لكل منها، مثل: «بيومي الحراشي وسوسة وجموسة ونموسة وبيسو وذات اللغدين وحنجل». وتزخر الرواية بمقاطع وجمل تحمل فلسفة وحكمة لبطل يواجه أحداثاً عادية، لكنها تنقلب فجأة إلى مأسويات موجعة، فيعبّر عنها تعبيراً ساخراً. وسواء استطعت فك رموز شخصيات العمل وطابقت بينها وبين الواقع الثقافي أو الحياتي أو لم تستطع، فلا شك في أن المتعة متحقّقة بطريقة السرد المميزة واللغة الدقيقة الساخرة والأحداث العادية الغرائبية في آن.