السيرة الذاتية للأستاذ علي بكر جاد مثيرة وثرية، وتستحق أن تُروى للجمهور، ولعل دار نشر سعودية تنتبه لهذا وتقتنص هذه الفرصة الذهبية لسردها. امتلأت حياته بالكثير من المفارقات والأحداث والقصص الساخرة، ولعل هذا هو موضوعنا لهذا اليوم؛ إذ يقول عن نفسه: إنه درس سنتين أو أكثر من الابتدائية في دار الأيتام بالمدينة بالقرب من الحرم ثم الالتحاق بالمعهد العلمي، الذي يقدّم الدراسات الإسلامية والعربية؛ مثل زاد المستقنع وتفسير الجلالين وألفية ابن مالك وغيرها، لكنه أنهى مسيرته العلمية بعد عقد من الزمن بالحصول على درجة الدكتوراه من أعرق جامعة في العالم، وهي جامعة أكسفورد بعد أن درس لغة الخواجات وأدبهم. يقول عن نفسه: "عشت مع حضر وبدو قصم ظهرهم الجوع ثم وجدت نفسي مع أولاد وبنات الحكّام واللوردات: هكذا طوّحت بي الحياة". يظهر حجم تواضع الأستاذ جاد في ردّه الدراماتيكي على أحد متابعيه الذي ذكّره بأنه أول سعودي ينال الدكتوراه في الأدب من جامعة أكسفورد. قال أستاذنا: "ليتني بقيت في المدينة في وظيفة كاتب صادر ووارد وحمدته- سبحانه وتعالى- لكن الله- جل وعلا- يفعل ما يريد، والحمد لله". هذه الجملة جديرة بالتأمل لأنها تحمل الكثير من المعاني الساخرة خاصة وأنها صادرة من رجل خبير صال وجال في أمكنة مؤثرة؛ مثل مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم ثم قرن ذلك بعلم أكاديمي في أرقى جامعات الغرب، ثم التدريس في جامعة الملك سعود بالرياض، وعاصر حقبًا تاريخية مهمة منذ عهد الملك عبد العزيز- طيب الله ثراه- حتى الآن. وفي السنة الأولى من انتقال أستاذنا علي جاد للدراسة في جامعة الملك سعود بالرياض، ذهب للصلاة يوم الجمعة في مسجد بالبطحاء، وكان موضوع الخطبة عن الزهد؛ فتأثّر بها أستاذنا كثيراً إلى الدرجة التي عزم فيها على التصدّق بثوبين من أصل ثلاثة كان يمتلكها، لكنه تراجع عن ذلك بعد أن خرج من المسجد، ورأى الإمام الزاهد في الخطبة، وهو يركب في "بحبوحة كاديلاك" طولها بضعة أمتار، بحسب وصفه الدكتور جاد. ومن المفارقات الساخرة التي عاشها بطل مقالنا في أول ستينيات القرن الميلادي الماضي في مطعم شهير في البطحاء بالرياض، هو أنه في الوقت الذي رُفع فيه أذان صلاة العشاء كان هو ومجموعة من أصدقائه، منهم زهير السباعي، يتناولون وجبة العشاء التي كادت أن تنتهي في سيارة الهيئة. هجم عليهم أفراد الهيئة داخل المطعم، وهم يقولون: "ما تستحون. الناس يصلّون وأنتم هنا؟" ونختم هذا المقال بقصة مؤثرة يرويها أستاذنا بنفسه بسخريته اللاذعة:"رحت للصلاة على صديق عزيز وتشييعه ودفنه. دنوت من القبر ثم تعثّرت على حافته وانكفأت. ساعدني الحضور بالنهوض من جديد، وكان من ضمنهم حفّار القبور الساخر الذي ساعدني، وهو يضحك وقال لي وهو يشدّ على ساعدي: على هونك يا عمّ. ليش مستعجل؟ ما فاتك شيء. عندنا حفر كثيرة جاهزة." يقول أستاذنا علي جاد الذي تجاوز التسعين من عمره وقتها: ضجّ المعزّون الحزانى بالضحك إلا أنا. غدوت أفكّر في كلام الحفّار".