أمير تبوك: عهد الملك سلمان زاهر بالنهضة الشاملة    مبادرة 30x30 تجسد ريادة المملكة العالمية في تحقيق التنمية المستدامة    إنسانية دولة    وزير الدفاع ونظيره البريطاني يبحثان التعاون والتطورات    وزير الدفاع ونظيره البريطاني يستعرضان هاتفيا العلاقات الاستراتيجية بين البلدين    حضور قوي للصناعات السعودية في الأسواق العالمية    السعودية تستضيف الاجتماع الخاص للمنتدى الاقتصادي العالمي    معرض برنامج آمن.. الوقاية من التصيُّد الإلكتروني    ممكنات الاستثمار السعودي السياحي تدعم المستثمرين السعوديين والأجانب    معادلة سعودية    رئيس الطيران المدني: إستراتيجيتنا تُركز على تمكين المنافسة والكفاءة    المملكة تجدد مطالباتها بوقف الاعتداءات الإسرائيلية على المدنيّين في غزة    عدوان الاحتلال.. جرائم إبادة جماعية    المطبخ العالمي    القوات الجوية تشارك في "علَم الصحراء"    شاهد | أهداف مباراة أرسنال وتشيلسي (5-0)    «خيسوس» يحدد عودة ميتروفيتش في «الدوري أو الكأس»    في انطلاق بطولة المربع الذهبي لكرة السلة.. الأهلي والاتحاد يواجهان النصر والهلال    الهلال يستضيف الفيصلي .. والابتسام يواجه الأهلي .. في ممتاز الطائرة    يوفنتوس يبلغ نهائي كأس إيطاليا بتجاوزه لاتسيو    مجلس الوزراء: 200 ألف ريال لأهالي «طابة» المتضررة مزارعهم وبيوتهم التراثية    تفاهم لتعزيز التعاون العدلي بين السعودية وهونغ كونغ    مكافحة إدمان الطلاب للجوال بحصص إضافية    وزارة البيئة والمياه والزراعة وجولات غير مسبوقة    أضغاث أحلام    تأثير الحياة على الثقافة والأدب    جائزة غازي القصيبي (2-2)    إشادة عالمية بإدارة الحشود ( 1 2 )    المجمع الفقهي والقضايا المعاصرة    دورة حياة جديدة    طريقة عمل ديناميت شرمب    طريقة عمل كرات الترافل بنكهة الليمون    طريقة عمل مهلبية الكريمة بالمستكه وماء الورد    5 عوامل خطورة لمتلازمة القولون العصبي    تحذير من مرض قاتل تنقله الفئران !    سعود بن نايف يشدد على تعريف الأجيال بالمقومات التراثية للمملكة    محافظ الأحساء يكرم الفائزين بجوائز "قبس"    مركز التواصل الحكومي.. ضرورة تحققت    أتعبني فراقك يا محمد !    أمير الشرقية يرعى تخريج الدفعة 45 من طلبة جامعة الإمام عبدالرحمن بن فيصل    أمانة المدينة تطرح فرصة استثمارية لإنشاء مدينة تشليح    العدالة الرقمية    مجلس الشيوخ الأمريكي يمرر حزمة مساعدات أوكرانيا    عبدالعزيز بن سعد يناقش مستقبل التنمية والتطوير بحائل    الشورى يدعو «منشآت» لدراسة تمكين موظفي الجهات الحكومية من ريادة الأعمال    الشرطة تقتل رجلاً مسلحاً في جامعة ألمانية    سورية.. الميدان الحقيقي للصراع الإيراني الإسرائيلي    متى تصبح «شنغن» إلكترونية !    أخضر تحت 23 يستعد لأوزباكستان ويستبعد مران    مهمة صعبة لليفربول في (ديربي ميرسيسايد)    أمير الرياض يستقبل عددًا من أصحاب السمو والفضيلة وأهالي المنطقة    العين الإماراتي إلى نهائي دوري أبطال آسيا والهلال يودّع المسابقة    «مكافحة المخدرات» تقبض على ثلاثة مروجين    معالي الرئيس العام لهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يلتقي منسوبي فرع الرئاسة العامة بمنطقة جازان    مطالب بتمكين موظفي الحكومة من مزاولة "الأعمال"    السديس يُثمِّن جهود القيادة الرشيدة لتعزيز رسالة الإسلام الوسطية وتكريس قيم التسامح    الإعلام والنمطية    دور السعودية في مساندة الدول العربية ونصرة الدين الإسلامي    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



بين فاجعة جلل وفرح أطل .. ثمة دولة راسخة ورسالة خالدة
نشر في البلاد يوم 21 - 02 - 2015


الدكتوربندر بن عبدالله بن تركي آل سعود

فاجعة جلل:
في يوم الجمعة، الذي هو أشرف أيام الأسبوع وأعظمها، بل سّيدها، الثالث من ربيع الآخر 1436ه، الموافق الثالث والعشرين من يناير 2015م، فاضت روح والدنا وقائدنا وحادي ركبنا وحكيم أمتنا، الملك الصالح والإمام العادل، خادم الحرمين الشريفين، الملك عبدالله بن عبدالعزيز بن عبدالرحمن الفيصل آل سعود، طيّب الله ثراه، في تمام الساعة الواحدة من فجر الجمعة، حسبما جاء في نعي الديوان الملكي.. في هذا اليوم الذي طالما أحبه عبدالله، ولهذا من يعود بالذاكرة قليلاً إلى الماضي القريب، يدرك سر حب فقيدنا الغالي لهذا اليوم، إذ شهد معظم قراراته الكريمة وأوامره السامية، التي أصدرها منذ توليه سدة الحكم، يوم الاثنين السادس والعشرين من جمادى الآخر 1426ه، الموافق غرة أغسطس 2005م، وتجاوزت الأربعمائة قرار وأمر ملكي كريم غيّرت وجه الوطن، وحولته إلى خلية نحل لاتهدأ، تنثر الخير والسلام والاطمئنان والأمن، وترسي العدل والمساواة، وكل القيم الفاضلة والمبادئ النبيلة، في شتى أنحاء العالم.
فأصبحت بلادنا، بفضل الله وتوفيقه، وجهد فقيدنا الغالي، أحد أهم السبع دول العظمى في العالم التي تستطيع هزّ العالم، طبقاً لما جاء في مجلة (American Interest ) في شهر يناير الماضي، كتفاً بكتف مع أمريكا، ألمانيا، الصين، اليابان، روسيا والهند، بما تمتلكه من ثقل اقتصادي وسياسي، وموقع إستراتيجي وعقدي، وهذا هو في نظري العامل الأهم الذي يزعج الغرب.
كان عبدالله بن عبدالعزيز، القائد الوفي المخلص، صاحب القلب الكبير، كل شيء في حياتنا، ولهذا كان رحيله فاجعة مؤلمة، ليس لنا نحن هنا وحدنا، بل لكل البشر في العالم، من مختلف الديانات والأعراق والأفكار، كما ظهر من خلال توافد زعماء العالم، من ملوك وسلاطين وأمراء ورؤساء ووزراء ومسؤولين وحتى شخصيات مدنية عامة، الذين عرفوا مكانة عبدالله بن عبدالعزيز فصدمهم رحيله، فتوافدوا إلى عاصمة المجد والسؤدد (رياض عبدالعزيز الحبيبة) ليودعوا قائداً فذاً، طالما كان سنداً وعوناً للناس في كل مكان، وركيزة أساسية في استقرار العالم وسلامه وأمنه.
أما نحن هنا، في هذه البلاد الطيبة الطاهرة المباركة، فقد دخل الحزن كل بيت من بيوتنا، وكأني بنا جميعاً توافدنا إلى عروس البحر (جدة الحبيبة) من أقصى الغرب إلى أقصى الشرق ومن أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب، واحتشدنا في اليوم التالي لرحيل والدنا عبدالله حول تلك اللوحة الفريدة المعبرة، التي فاقت شهرتها شهرة لوحة (الموناليزا) كما أكد رسامها، الفنان الشاب أحمد زهير، وسألنا فقيدنا الغالي في حيرة، بصوت واحد، مع الشاعر سليمان الصقعبي: وين رايح؟ ثم ناشدناه: التفت سلّم علينا. وأوردنا الأسباب أيضاً بصوت واحد: ماروينا من حنانك.. ومنك والله ما اكتفينا.. غير أنه , طيّب الله ثراه، طول الغياب هذه المرة، وأصبح ليلنا دونه أحزان وجروح، وكم تمنينا مع الشاعر الصقعبي: لو يرجع بس لحظة ويلوح بكفه لنا مرة واحدة فقط ويروح. ثم نعود فجأة إلى وعينا وقوة إيماننا بربنا، مستذكرين أن لكل أجل كتاب، وأن أجل الله إذا جاء لا يؤخر ساعة ولايقدم.. و (إنا لله وإنا إليه راجعون).
صحيح.. كانت غيبة والدنا الغالي صعبة وفقدانه مصيبة عظيمة، كما أكدت صاحبة السمو الملكي الأميرة سحاب بنت عبدالله بن عبدالعزيز آل سعود، صغرى بناته، في قصيدة باكية مؤثرة، نشرتها على حسابها في تويتر يوم الخميس 2 /4 /1436ه، الموافق 22 /1 /2015م، مؤكدة فيها أنها صاحبة تلك الصورة الشهيرة التي سبق الحديث عنها آنفاً، ورسمها الفنان الشاب أحمد زهير في كورنيش (عروس البحر) وقد التقطتها الأميرة سحاب لوالد الجميع، بينما كان يقف أمام سيارته، ومن حسن الطالع أنها التقطتها له في جدة أيضاً. فأنشدنا كلنا مع الأميرة سحاب بكلمات باكية:
سيدي ياوالد الشعب وحبيبه
غيبتك صعبة وفقدانك مصيبة
كيف أعيش العمر بعدك وأنت عمري
عمري بدونك أنا كيف أهني به؟
كل حاجة من بعد فراقك تبكي
الفجر والناس والأرض الرحيبة
والشوارع والمباني والصحاري
والقمر من مطلعه حتى مغيبة
تبكيك بدموعها أصغر بناتك
آه ياحزني ودمعاتي السكيبة
كل ما ألمح شيء غادرت وتركته
أشعر بوحشة فراق وطول غيبة
مجلسك، نظارتك، بشتك، عقالك
والزوايا والممرات الكئيبة
كلها تبكي على موتك وأنا أبكي
يا أطيب أهل الأرض وأكثر طيبة
وقد ذكرتني هذه القصيدة المعبرة الحزينة الباكية، التي تؤكد فداحة غيبة أطيب أهل الأرض وأكثرهم طيبة، ومصيبتا جميعاً في فقدانه، طلب صاحبة السمو الملكي الأميرة نوف بنت عبدالعزيز آل سعود، من أبن أخيها، صاحب السمو الملكي الأمير متعب بن عبدالله بن عبدالعزيز آل سعود، وزير الحرس الوطني، الذي كان ملازماً لفقيد الوطن والأمة والعالم طيلة أيام مرضه وحتى لحظة الوداع الأخيرة، في صورة تعيد إلى الأذهان وفاء سلمان، الذي عرفناه أوفى من الوفاء، مع رحمة وهيبة، كما أشارت الأميرة سحاب في قصيدتها آنفة الذكر:
والعوض في سيدي سلمان بعدك
عمي اللي جامع رحمة وهيبة
أقول، طلبت الأميرة نوف من الأمير متعب، الاحتفاظ بشيء من ملابس الراحل الكبير، الملك الصالح عبدالله بن عبدالعزيز آل سعود، غفر الله له، وأسكنه فسيح جناته، فأجابها الأمير متعب الذي عرف ببره: (عمتي أنتي أغلى من نفسي عليّ، وسأهديك آخر بشوت الوالد الذي رافقه إلى مثواه الأخير، مع أني كنت حريصاً أن أحتفظ به، ولكن لا يغلى عليك). وقد شاهدنا كلنا في المقبرة تلك الرغبة الصادقة لدى الأمير متعب في الاحتفاظ ببشت والد الجميع الراحل الكبير، عندما جذبه إليه بحرص واهتمام كبيرين.
وأكاد أجزم أن كل سعودي وسعودية في هذا الوطن الغالي، يتمنى أن يحتفظ بشيء مما تركه الراحل الكبير والد الجميع من أغراض شخصية، مع أنني هذه المرة أجزم جزماً قاطعاً، أن والدنا الراحل قد ترك أثراً سيبقى خالداً إلى الأبد في نفس كل واحد منّا.. هو هذا الحب الفياض الذي عمّر به قلوبنا وأشاعه بيننا. وقد كانت حياته العامرة كلها تكريساً لهذا الحب. وثمة صور تجل عن الوصف، تؤكد حب القائد الفذ والبطل الهمام عبدالله بن عبدالعزيز، اختصرها في صورة واحدة، تلخص كل صور محبة عبدالله بن عبدالعزيز الصادقة لشعبه، ستبقى محفورة في ذاكرتنا إلى الأبد.. تلك هي صورته وهو يحاول جاهداً كفكفة دموعه الطاهرة وهو يحتضن أبناء شهداء الوطن، ويقبل رؤوسهم وجباههم عند زيارته التاريخية لمنطقة القصيم، اثناء احتفالات البلاد بالذكرى الثامنة لبيعته المباركة، مشيداً ببطولة آبائهم، ومؤكداً لهم أبوته وعنايته واهتمامه، ورعاية الدولة لكافة شؤونهم.
دولة راسخة:
أجل.. حق لنا الحزن على فقيدنا الغالي، والدنا الحنون عبدالله بن عبدالعزيز، الذي تحمل المسؤولية بكل ثقة واقتدار، وحنكة وحكمة وأمانة عظيمة، فكان عهده زاهراً، كعادة سلفه الأبرار، استمراراً لمسيرة الخير القاصدة التي رسّخها عبدالعزيز، فوضع بلادنا في مصاف الدول العالمية العظمى، إذ انضمت لمجموعة العشرين ومنظمة التجارة العالمية، وحقق اقتصادنا في عهده المركز الثالث كأكبر اقتصاد عالمي في إجمالي الأصول الاحتياطية، بعد الصين واليابان، متقدماً على روسيا الاتحادية والبرازيل وكوريا الجنوبية، فتضاعفت الفوائد المالية في عهده إلى تريليونين و102 مليار ريال، كما تضاعفت الميزانية في عهده، واحداً وخمسين ألف مرة، مقارنة بأول ميزانية رسمية صدرت عام 1352ه (1933م) في عهد المؤسس، طيب الله ثراه، إذ لم تتجاوز الأربعة عشر مليون ريال، لأسباب معروفة.
وقد أكد صندوق النقد الدولي قدرة بلادنا على المحافظة على هذا المركز كأكبر اقتصاد عالمي في فائض الحساب الجاري حتى عام 2018م. يضاف إلى هذا أن بلادنا تصدرت قائمة دول العالم كأقل دولة في نسبة الدين العام إلى الناتج المحلي الإجمالي، حتى في ظل ماتعرضت له أسعار النفط، الذي يعد المورد الأساسي لاقتصادنا في عهده الميمون، إلى انخفاض حاد عامي 2008 و 2014م.
أما الصحة، فقد حققت في عهده المبارك نهضة تنموية عملاقة، وفرت الرعاية الصحية الشاملة للمواطن والمقيم في شتى بقاع المملكة المترامية الأطراف، من خلال تحسين الأداء وخدمة المريض، وتعزيز مستوى كافة الممارسين الصحيين، والسيطرة على الأمراض والتحكم فيها، والإكتشاف المبكر، فضلاً عما تميزت به بلادنا في ما عرف ب (طب الحشود) من خلال ما توفره الدولة من رعاية صحية شاملة ومتكاملة لحجاج بيت الله الحرام والمعتمرين وزوار مسجد رسوله الكريم صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم. وقد كانت تلك تجربة رائدة، أدهشت العالم، وحظيت باهتمام منظمة الصحة العالمية وكافة المعنيين بشؤون الصحة في مختلف بلدان العالم. فضلاً عن تقدم نوعي آخر في مجال الصحة، فخلال ربع قرن نجحت سواعد أبناء مملكة الإنسانية في وزارة الصحة، في إجراء أربعين عملية لفصل توائم سياميين من مختلف أنحاء العالم والأجناس والديانات، بنسبة نجاح وصلت إلى (80%) بدافع إنساني بحت لا تشوبه شائبة أية مصلحة، غير شكر الله على النعمة وطلب رضائه.
أما في مجال العلم، الذي هو بكل تأكيد أساس كل تنمية، فقد كان الراحل الكبير يردد دائماً: العلم المدخل الواسع والإدارة الفاعلة في مسيرة التنمية. ويخاطب أبناءه الطلاب كلما التقاهم: أنتم عتاد الغد لمستقبل لا نقبل فيه بغير الصدارة لوطن أعطانا الكثير. وقد ذكرني هذا حادثة لطيفة، فيها كثير من العبر والدروس والاهتمام بالعلم والحرص عليه، امتداداً لمسيرة المؤسس الخالدة، عندما زار معهد الأنجال ولاحظ أن أحد أبنائه الطلاب يحاول جاهداً إخفاء بقعة حبر في ثوبه. فبادره الوالد الذكي اللّماح: لا تنزعج يابني، فهذا عطر المتعلمين. ولهذا ليس غريباً أن تنتقل بلادنا بثبات من الكتاتيب في عهد المؤسس الباني، إلى تقنية النانو في عهد نجله البار الملك الصالح عبدالله بن عبدالعزيز، بعد أن تطوّرت مؤسسات التعليم العام والتعليم العالي من بضع كتاتيب، إلى خمسة وعشرين جامعة حكومية، تستوعب (86%) من خريجي الثانوية، فضلاً عن العديد من الجامعات والكليات الجامعية الخاصة، إضافة لمشروعات البنى التحتية والمساندة والمدن الجامعية وبرنامج (خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله للابتعاث الخارجي) الذي دشّن هذا العام مرحلته العاشرة، فتجاوز عدد مبتعثيه المائة وخمسين ألف مبتعث ومبتعثة، يتلقون العلوم والمعارف في مختلف التخصصات العلمية، في سبعة وثلاثين دولة في العالم، من شرقه إلى غربه، ومن شماله إلى جنوبه. أما في مجال البحث العلمي، فلدينا اليوم أربعة عشر مركزاً للتنمية البحثية في جامعتنا، إضافة إلى مبادرة وزارة التعليم العالي (سابقاً) التي أُعلنت عنها مؤخراً لتأسيس (المراكز البحثية للمنتجات المعرفية) لتعزيز مسيرة البحث العلمي، وتحقيق رؤية القيادة الرشيدة في التحول إلى الاقتصاد المعرفي، وتحول المراكز البحثية في الجامعات إلى مرحلة الإنتاج وربطها بالواقع الصناعي والخدمي.
أما على الصعيد السياسي والأمني، فقد تصدرت بلادنا المشهد مع الكبار، إذ حظيت بحضور دولي فاعل، يعبر عن دور أصيل لدولة رائدة، تقف على أكتاف حضارات متعاقبة، بفضل سياستها الرشيدة الحكيمة، التي طابعها الصبر والعقل والاتزان والاعتدال، والحرص على المساهمة بقدر وافر في تقدم العالم وتطوره، وتعزيز الأمن والسلم، وتخفيف معاناة الدول النامية التي تتعرض للكوارث الطبيعية من زلازل وبراكين وفيضانات وغيرها. وتعاني الأمرين من تشرذم قادتها وتحزبهم شرقاً وغرباً، بل تطرف بعضهم، وانهيار جيوشها النظامية وتحولها إلى مليشيات تقطع الطرقات وتقتل على الهوية، واستعار لهيب الحروب الأهلية فيها، التي عطلت عجلة التنمية وحولت حياة الناس إلى جحيم لا يطاق، بسبب التكالب على السلطة والاستئثار بالثروة، دون أدنى نية صادقة لخدمة تلك الشعوب المغلوبة على أمرها.
هذا بالطبع فضلاً عن دور المملكة الرائد في مكافحة الإرهاب وتدويل السلم والأمن، ويحمد لقيادتها أنها أول من علق جرس الإنذار، محذرة من عواقب الفكر المتطرف العابر للقارات، وما يمكن أن يترتب عليه من اضطراب وفوضى وتعطيل لعجلة التنمية. وكعادتها، لم تكتف المملكة بالقول، بل أيدت ما قالته بالعمل الجاد المخلص الشجاع، فاستضافت أكثر من مؤتمر دولي لمكافحة الإرهاب في إطار الأمم المتحدة، ودعت إلى تأسيس مركز دولي لمكافحته، وتبرعت له بعشرة ملايين دولار في البداية، ثم ألحقت ذلك بمائة مليون دولار. كما أنشأت مراكز للحوار بين الديانات والأفكار والثقافات، حاثة المجتمع الدولي على تحييد المعتقدات الدينية من الصراعات السياسية، داعية إلى ضرورة نبذ العنف والتطرف والكراهية والتفرقة العنصرية.
وللأسف الشديد، لم يدرك العالم نفاذ بصيرة القيادة السعودية وصدق نيتها، وبعد نظرها، وحبها للخير للناس أجمعين، إلا بعد أن وقعت الفأس في الرأس، فاجتاحت (داعش) التي تضم في صفوفها أكثر من ثلاثة آلاف عنصر بين رجل وامرأة من أمريكا وأوروبا، أجزاء واسعة من سوريا الجريحة والعراق المكلومة، وأعلنت دولتها المزعومة في الشام والعراق، مهددة بذلك الأمن والسلم العالميين، فضلاً عما أقدمت عليه من ممارسات يندي لها الجبين، من اغتصاب لآلاف النساء والفتيات البريئات، وبيعهن في الأسواق بثمن بخس، وجز الرؤوس وتعليقها في الطرقات العامة، بل إعدام خصومها حرقاً كما فعلت بالطيار الأردني معاذ الكساسبة، في ممارسة لاتمت لأي دين بصلة من قريب أو بعيد، وأبشع جريمة في التاريخ.
ومن جهة أخرى، خرج نطاق القاعدة عن السيطرة، وتسبب في الحادي عشر من سبتمبر فرنسية، فكانت أحداث صحيفة (شارلي إيبدو) التي رفعت حالة الاستنفار الأمني في أوروبا إلى الدرجة القصوى، بعد أن استنزفت خزينة الغرب الذي اضطر لتخصيص المليارات لدعم قدراته الأمنية بالتجهيزات الفنية والكوادر البشرية، كما أعادت تلك الحادثة التي فجعت الغرب إلى الساحة، النعرات العقدية من جديد، مهددة السلم الاجتماعي، حتى في ظل حرص قادتها على عدم الوقوع في هذا المنزلق الخطير، كما حدث في ألمانيا مثلاً.
أما نحن هنا، في بلاد الخير والمحبة والسلام، فنعلن على الدوام: (أن المملكة ما تزال ماضية في حصار الإرهاب ومحاربة التطرف والغلو، ولن تهدأ نفوسنا أبداً حتى نقضي على هذه الفئة الضالة، التي اتخذت من الدين الإسلامي جسراً تعبر به نحو أهدافها الشخصية، وتصم بفكرها الضال سماحة الإسلام ومنهجه القويم) حتى اجتثات شأفته نهائياً وتخليص الناس من شروره، كما أعلن القائد الراحل، في كلمته التي ألقاها نيابة عنه نائبه، خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز آل سعود، في حفل الاستقبال السنوي لكبار ضيوف الرحمن في منى أثناء حج هذا العام.
على صعيد آخر، أطلق الراحل الكبير جملة من المبادرات العالمية لتشجيع التواصل بين الإنسانية، سعياً لردم هذه الهوة التي جعلت العالم يتربص ببعضه البعض. كما قام بجولة لتوثيق التضامن العربي والإسلامي، شملت عدة ملفات، وكلنا نتذكر في هذا الصدد جولته التي قام بها في شعبان عام 1431ه / يوليو عام 2010م، وشملت مصر وسوريا والأردن ولبنان. أما القضية الفلسطينية، فتمثل الهم الأول للمملكة منذ عهد المؤسس، الذي سعى حثيثاً لإيجاد حل لها مع الرئيس الأمريكي الأسبق (روزفلت) ورئيس وزراء بريطانيا (تشرشل) فضلاً عن مشاركة الجيش السعودي الرسمي مع جيوش الدول العربية في حرب فلسطين عام 1368ه (1948م). وقبل هذا، بعث المؤسس ولي عهده (الأمير سعوداً) إلى فلسطين عام 1354ه (1935م) للإطمئنان على أوضاع الشعب الفلسطيني، عقب ثوراته المتعاقبة ضد الاحتلال البريطاني، إضافة إلى جهود كثيرة تجل عن الحصر، لرأب الصدع بين الدول العربية والدول الإسلامية، من العراق إلى الكويت وسوريا ولبنان ومصر وليبيا والجزائر والمغرب وتونس والسودان وتشاد وإرتيريا وجيبوتي والصومال وأفغانستان والشيشان وغيرها، إلى جانب إنشاء الصندوق السعودي للتنمية عام 1395ه (1975م) لدعم التنمية في البلدان النامية عن طريق منح قروض ميسرة.
أما عنايته بدول مجلس التعاون الخليجي، التي تحتل لدى فقيدنا الراحل الكبير عبدالله بن عبدالعزيز، مكانة القلب، فمبكرة ودائمة، سعياً لضمان أمنها واستقرارها وحماية استقلالها، ولهذا سبق بحدسه الفطري موجة ما عرف ب (الربيع العربي) الذي أصفه دائماً ب (خريف شاحب) تساقط فيه كل ما كان موجوداً من أوراق الأمن والاستقرار في تلك البلدان على شحها، بطرح فكرة الاتحاد الخليجي التي كانت تراوده دائماً، على غرار الاتحاد الأوروبي، بل أفضل منه، يؤكد هذا حديثه الصحفي الذي أدلى به لجريدة السياسة الكويتية عام 1431ه (2009م) أي قبل انطلاق شرارة (الخريف العربي) بعامين تقريباً، إذ قال: (إنني أطمح أن أرى دول مجلس التعاون الست، التي يجمعها الدين الواحد واللغة الواحدة، بل اللهجة الواحدة، أقول أطمح أن أرى مسار هذه الدول أفضل
بكثير من مسار الاتحاد الأوروبي، فلديها كل مقومات الترابط المصلحي التي تجعلها وحدوية بصورة أفضل من الاتحاد الأوروبي). ولهذا افتتح في قصر الدرعية القمة الخليجية الثانية والثلاثين في 24 /1 /1433ه، الموافق 19 /12 /2011م، بدعوة تاريخية للانتقال من مرحلة (التعاون الخليجي) إلى (الاتحاد الخليجي) مخاطباً إخوانه زعماء الخليج: (… أطلب منكم اليوم أن نتجاوز مرحلة التعاون إلى مرحلة الاتحاد في كيان واحد، يحقق الخير ويدفع الشر إن شاء الله). وليس أدل على هذا من جهوده الصادقة، رحمه الله، مع ظروفه الصحية، لرأب الصدع بين دول الخليج في اجتماع الرياض التكميلي قبيل قمة الدوحة الأخيرة، مما أدى لتنقية الأجواء وتطييب الخواطر وطي صفحة الخلاف، بل تجاوز الأمر هذا الحد لعودة السفراء وتطبيع العلاقات كالسابق، حتى بين مصر وقطر اللتان كانت بينهما جفوة مزعجة لوحدة الصف العربي، أقرب إلى الخصومة من الإختلاف حول رأي.
أما على الصعيد الداخلي، فقد شهدت بلادنا في عهد قائدنا الراحل، إصلاحات تاريخية حقيقية، شملت جميع المرافق، يضيق المجال هنا عن حصرها، غير أنني أكتفي بما تحقق للمرأة التي انتقلت في عهده من التهميش إلى التمكين، برأس مرفوع، وخطوات ثابتة، وعزيمة ماضية، فجلست تحت قبة مجلس الشورى، وشغلت عشرين في المائة من مقاعده، بثلاثين عضوة كاملة العضوية والأهلية، فاعلة ومشاركة، مشاركة حقيقية في أعمال المجلس، كما تولت مناصب قيادة عليا في وزارات مؤثرة، كالصحة والتربية والتعليم والشؤون الاجتماعية والمجالس البلدية، إضافة إلى مناصب دبلوماسية وسياسية وتعليمية وطبية وإدارية داخل البلاد وخارجها، وشرّفت (نورة) وطنها ولم تخيب ظن قائدها، فسافرت إلى سبع وثلاثين دولة في العالم، وصلت حتى الصين، مبتعثة تطلب العلم، وحققت إنجازات أدهشت العالم، فنالت جوائز عالمية في أكثر من مجال، وكرّمها رئيس أعظم دولة في العالم، اعترافاً بقدراتها، وتقديراً لعطائها، وتأكيداً على جهدها في خدمة الإنسانية.
أجل.. تلك هي (نورة) شقيقة المؤسس الحكيمة العاقلة، السياسية الماهرة، العربية الأصيلة الكريمة، التي طالما ناصرت المؤسس وشدّت أزره، ووقفت إلى جانبه في أحلك الظروف وأصعب اللحظات، فأسس لها فقيدنا الراحل أعظم جامعة للبنات في العالم، في وقت قياسي، اعترافاً بفضلها، وإدراكاً لدورها في مسيرة الحياة ونهضة المجتمع، وإيماناً بقدراتها وإمكاناتها التي لا تحدها حدود.
وربما اندهش البعض إذا علم أن المرأة السعودية اليوم تشغل (58%) من مقاعد الدراسة في التعليم العالي، متفوقة على الرجل، مقارنة بأربع طالبات فقط التحقن عام 1381ه (1961م) بكليتي الآداب والعلوم الإدارية بجامعة الملك سعود (عن طريق الانتساب). أما اليوم، فقد اقتحمت المرأة السعودية بفضل الله، ثم بفضل ما وفرته لها القيادة الرشيدة من دعم صادق ورعاية كبيرة واهتمام أكيد، جميع مجالات العلوم والمعارف، فأصبحت طبيبة ماهرة في مختلف التخصصات، وعاملة وباحثة ومخترعة يشار إليها بالبنان، ومثقفة ومفكرة.
فبكته (نورة) بكلمات صادقات معبرات، تنزف دماً من حسرة الفقد وفاجعة المصيبة، كما تقدم قي قصيدة صاحبة السمو الملكي، ابنته البارة، الأميرة سحاب، وكما تؤكد هنا الشاعرة الأديبة الدكتورة أشجان هندي، في مرثيتها الباكية بعنوان: (ترفق: فما أبكاك قد أبكاني) التي نشرت بجريدة الجزيرة، الأربعاء 8 /4 /1436ه، الموافق 28 /1 /2015م، العدد 15462، ص 67:
على مثل عبدالله تبكي عيوننا
ومن مثل عبدالله في الأكوان؟
على القائد الحاني ستبكي قلوبنا
زماناً، ونذكره مدى الأزمان
ثم تؤكد الدكتورة أشجان حبنا لقائدنا ووالدنا الذي رحل عنا مودعاً إلى دار الخلود؛ مع ما تركه رحيله المفجع في النفس من أحزان، وفي القلب من لوعة:
نحبك عبدالله، لا الحب يشترى
وليس يكال الحب بالميزان
بكى الحب عبدالله والتحف الأسى،
ترفق: فما أبكاك قد أبكاني
أترحل عنا يا أبانا مودعاً
أترحل والأحزان كالطوفان!
تمهل ولا تعجل، فإن قلوبنا
إذا غبت لا تقوى على الخفقان
ثم ترفع أكفها بالدعاء مع كل السعوديين وجميع المحبين لعبدالله بن عبدالعزيز، الذين أدهشهم كرمه وخلقه وسماحة نفسه، وسحرتهم شجاعته ومروءته وصدقه:
أيا رب عبدالله، رحماك إننا
دعوناك باسم الواحد الرحمن
بأن تغسل القلب الذي كم أحبنا
بروح وريحان وماء جنان
ألا واجزه يا رب خير مثوبة
فإنك رب الجود والإحسان
ولا تقل مرثية الدكتورة أسماء بنت عبدالكريم الحقيل، بعنوان: (سيظل ذكرك شامخاً) التي نشرت في جريدة الرياض، الخميس 9 /4 /1436ه، الموافق 29 /1 /2015م، العدد 17020، ص 50، رصانة وصدقاً عن مرثية الدكتورة أشجان هندي، اعترافاً من (نورة) بدور والدنا الراحل الكبير في دعمها وتمكينها، واعترافها له بهذا الجميل الذي أحدث نقلة نوعية في حياة المرأة في بلادي، ومشاركتها في كل الأنشطة، إذ تقول الدكتورة أسماء مخاطبة الراحل الكبير:
يا خادم البيتين فقدك حسرة
في كل نفس غصة ببكاء
غطى سناك الشمس في أفق المدى
يا كم يضوع شذاك في الأرجاء
يا كم تفردت المكارم ترتوي
من بحركم وتدفقت بسخاء
علمتنا أن الحياة بساطة
وتواضع وتآلف بإخاء
مؤكدة صبرنا واحتسابنا مصابنا الجلل عند الله تعالى، ورجاءنا له سبحانه أن يجزيه عنا خير الجزاء:
ونلوذ بالصبر الجميل ونرتجي
يجزيك رب البيت خير جزاء
ستعيش في وسط القلوب مخلداً
سيظل ذكرك شامخاً بإباء
والحقيقة، كثر هم الذين رثوا الفقيد الكبير شعراً ونثراً، وسوف يظل الجميع يكتب إلى أن يجف مداد الأقلام، دون أن نوفيه حقه علينا، غير أنني قصدت الاستشهاد هنا بمراثي (نورة) لأنبه الجميع لاعتدادها بقائدها ووالدها الذي فقدته وما حققه لها من إنجازات غير مسبوقة، ووفائها واعترافها له بالجميل، مما حفزها لكتابة هذا الشعر الصادق الرصين وغيره مما حققته من نجاحات في كافة المجالات، مؤكدة للجميع أنها قادرة على العطاء دون حساب، وفي هذا رد بليغ وبرهان دامغ لأولئك المشككين والمرجفين، الذين ظلوا يحاولون على مدى عقود لحبس المرأة خلف الأسوار، وتعطيل نصف قدرة المجتمع عن العمل والعطاء بحجج واهية وأسباب أكثرها مفتعل، لا يمت للإسلام بصلة من قريب أو بعيد، مع شدة حرصهم على ربط كل ما يسوقونه من مبررات بالإسلام الذي كرّم المرأة وأعلى شأنها ورفع قدرها وحفظ مكانتها، وفي كتاب الله العزيز الحميد وسنّة رسوله الكريم، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، الكثير مما يؤكد مكانة المرأة في الإسلام وأهمية دورها في الحياة.
رسالة خالدة:
كلنا يدرك، بل العالم كله يدرك أن بلادنا هذه الطيبة المباركة، ذات رسالة خالدة، أنشئت أساساً لخدمة هذه الرسالة التي تتمثل في توحيد الله وإعلاء كلمته وتنقية العقيدة الإسلامية الصحيحة من كل ما يعلق بها من شوائب، وخدمة الحرمين الشريفين والمشاعر المقدسة وضمان أمنها، وتمكين المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها من أداء الحج والعمرة وزيارة مسجد الرسول الكريم صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، في سهولة ويسر، وضمان وحدة الشعب وتآلفه وتآزره وخدمته، والسعي الجاد لتحقيق خيره ورفاهه، وتوفير الحياة الكريمة لكل أبناء هذا الوطن في جميع مناطقه ومحافظاته ومدنه وقراه وهجره، وبسط العدل ونشر الفضيلة وكل القيم النبيلة والأخلاق الفاضلة الكريمة ووأد الرذيلة، وحماية استقلال البلاد والدفاع عنها بالغالي والنفيس.
ومن أهداف تلك الرسالة الخالدة التي من أجلها أنشئت دولتنا أيضاً، رعاية شؤون المسلمين والعرب في شتى أنحاء الأرض، ومساعدتهم والعمل على حماية استقلالهم، والسعي الحثيث لضمان وحدتهم وتآلفهم وتعاونهم لما فيه خير الجميع. إضافة إلى حب الخير للناس أجمعين، دون تفرقة بسبب جنس أو عرق أو دين. هذا هو دين بلادنا، وتلك هي رسالتها منذ نشأتها الأولى عام 1157ه (1744م) على يد الإمام محمد بن سعود، ثم في دورها الثاني عام 1240ه (1824م) على يد الإمام تركي بن عبدالله، صاحب السيف الأجرب، وصولاً إلى الدور الثالث في عهد المؤسس الباني والد الجميع، الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن الفيصل آل سعود، عام 1319ه ( 1902م) مروراً بعهود أبنائه الكرام البررة، الذين حملوا مشعل الرسالة من بعده، الملوك: سعود، فيصل، خالد، فهد، عبدالله، وحتى هذا الفجر الجديد، بقيادة خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز بن عبدالرحمن الفيصل آل سعود، حفظه الله ورعاه، الذي تقدم لحمل الأمانة ومواصلة مسيرة هذه الرسالة الخالدة في ثقة واقتدار أدهش الأصدقاء قبل الخصوم والمناوئين، مؤكداً للعالم أجمع أن العرين مازال يعج بأسود لا تهاب الردى، قادرة على مواصلة المسيرة بالزخم نفسه، والبريق ذاته، ومستعدة لتحمل هذه المسؤولية العظيمة إلى الأبد إن شاء الله، مادامت متمسكة بهذا الدستور العظيم: كتاب الله العزيز الحميد، الذي لا يأتيه الباطل أبداً وسنّة رسوله الكريم صلى الله عليه وعلى آله وسلم، الذي لا ينطق عن الهوى.
ولهذا، اهتمت القيادة السعودية منذ عهد الملك عبدالعزيز، طيب الله ثراه، بخدمة الحرمين الشريفين وتوسعتهما ورعايتهما. صحيح.. أن الحرمين الشريفين شهدا على امتداد أربعة عشر قرناً تطوراً معمارياً مستمراً على مر العصور، إلا أن القيادة السعودية المتعاقبة، قد قطعت على نفسها وعداً لا يقبل أنصاف الحلول تجاه إعمار الحرمين الشريفين والمشاعر المقدسة، منذ تأسيس هذه الدولة السعودية المباركة، على يد المؤسس الباني، الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن الفيصل آل سعود حتى اليوم، وسوف تستمر الرعاية والعناية بهما دوماً إن شاء الله، لأنهما جوهر رسالتنا.
لقد انطلقت العناية بهما في عهد المؤسس مبكراً، إذ أمر عام 1344ه (1915م) بصيانة المسجد الحرام وإصلاحه. وفي عام 1368ه (1948م) قرر الملك عبدالعزيز توسعة الحرمين الشريفين وإعادة عمارة بعض أجزائهما، بدءًا بالمسجد النبوي الشريف. وفي مطلع عام 1373ه (1953م) أدخلت الكهرباء، وتمت إضاءة المسجد الحرام وزود بالمراوح الكهربائية، ثم واصل أبناؤه من بعده مسيرة الخير القاصدة، إدراكاً منهم أن خدمة الحرمين الشريفين والمشاعر المقدسة، أمانة عظيمة ومسؤولية جسيمة، بل هي جوهر رسالة هذه الأسرة المالكة المباركة، وهذه البلاد الطيبة وشعبها الوفي النبيل. فمن أجل حماية العقيدة وخدمة الحرمين الشريفين وتأمينهما للحجاج والمعتمرين والزائرين، جاء عبدالعزيز وأسس هذه الدولة المباركة، امتداداً لرسالة آبائه وأجداده. فحظى الحرمان الشريفان والمشاعر المقدسة باهتمام بالغ وعناية فائقة، على امتداد عهود الملوك: سعود، فيصل، خالد، فهد وعبدالله، يرحمهم الله ويسكنهم فسيح جناته، استمراراً للتوسعة المتصلة وتجهيز الساحات الخارجية وإدخال نظام التكييف ونظام إطفاء الحرائق، وتصريف مياه الأمطار والسيول، وغير هذا من خدمات أخرى عديدة تجل عن الوصف.
أما في عهد خادم الحرمين الشريفين الملك الصالح عبدالله بن عبدالعزيز، فقد شهد الحرمان الشريفان عناية فائقة، شملت جميع النواحي العمرانية والفنية والأمنية، إذ شهد الحرم المكي الشريف أضخم توسعة له في تاريخه على الإطلاق، قسمت إلى ثلاث مراحل لضخامتها. هدفت المرحلة الأولى لتوسعة الحرم ليستوعب مليوني مصلٍ في وقت واحد، ووجهت المرحلة الثانية إلى توسعة الساحات الخارجية التي تضم دورات المياه والممرات والأنفاق ومرافق خدمية أخرى، لتسهيل دخول المصلين والزوار وخروجهم بسهولة دون تدافع وازدحام، إضافة إلى توسعة صحن الطواف. في حين عنيت المرحلة الثالثة بتطوير منطقة الخدمات التي تعد إحدى أهم المرافق المساندة، التي تشمل محطات التكييف ومحطات الكهرباء، إضافة إلى محطات المياه وغيرها من المرافق التي توفر الدعم اللوجستي اللازم لمنطقة الحرم المكي الشريف. فضلاً عن ساعة مكة، تلك التحفة المعمارية الفريدة، التي تنتصب شامخة تزين سماء أم القرى، مؤكدة للعالم أجمع أنه ثمة عزيمة قائد هنا لا تلين، وعقول لا تكف عن التفكير لتحقيق الخير وخدمة المسلمين ونفع الناس أجمعين. وهي كما يعلم الجميع، أكبر ساعة في التاريخ وأعظمها، فاق حجمها حجم أكبر ساعة عرفها الناس في العالم وأشهرها بخمسة وثلاثين ضعفاً، توفر اليوم خدمة عظيمة لنحو ملياري مسلم في مشارق الأرض ومغاربها، يولون وجههم شطر المسجد الحرام خمس مرات يومياً لضبط مواقيت صلواتهم؛ هذا بالطبع إضافة إلى ما شهده الحرم النبوي الشريف في المدينة المنورة من عناية واهتمام.
وبجانب خدمة الحرمين الشريفين، أولت المملكة العربية السعودية، عناية كبيرة لقضايا الأمتين الإسلامية والعربية كما تقدم، أبرزها قضية فلسطين التي تعد القضية المحورية الأولى في اهتمام قادة السعودية وشعبها العربي المسلم النبيل، إضافة إلى قضية أفغانستان والبوسنة والهرسك وقضايا الأقليات المسلمة حيثما كانت. كما دعمت المنظمات الإسلامية كرابطة العالم الإسلامي، ومنظمة المؤتمر الإسلامي والندوة العالمية للشباب الإسلامي. ونشطت أيضاً في مجال الدعوة وحملت همها، فأنشأت العديد من المدارس الملحقة بالمساجد والمراكز الإسلامية ومعاهد الأبحاث والدراسات الإسلامية والمدارس والمعاهد والجامعات، وقدمت العديد من المنح الدراسية والتدريبية للطلاب المسلمين في شتى بقاع الأرض، إضافة لإنشاء مراكز الدعوة والإرشاد في كل أرجاء البلاد. والاهتمام بطباعة كتاب الله، وتنظيم حلقات ومسابقات محلية وعالمية لحفظه وتجويده، إضافة لمسابقات السنّة النبوية الشريفة.
وبجانب اهتمامها بحل قضايا العرب والمسلمين، كانت المملكة العربية السعودية، على امتداد تاريخها الطويل الحافل بالعمل والإنجاز، يد خير لكل شعوب العالم، ولا يتسع المجال هنا لرصد تلك الجهود التي شهد بها القاصي والداني.
الفرح الذي أطل:
أما هذا المحور، فلا أكتم القارئ الكريم سرّاً، أنه كان أصعب محاور مقالي هذا، لأنه يتعلق بشخصية ثرّة، صاحبها متعدد المواهب والقدرات، بجانب شخصيته الإدارية الفذة، مما جعل الكل يحتار عند الحديث عنه، فلا يدري من أين يبدأ، أو إلى أين ينتهي. لن أطيل في هذه المقدمة، لأنني على يقين تام أن كل واحد منكم يعرف أكثر مما يمكنه أن يقوله أي واحد منّا عن سيدي خادم الحرمين الشريفين، الملك سلمان بن عبدالعزيز آل سعود، حفظه الله ورعاه وأدام تأييده وتوفيقه ومتعه بالصحة والعافية، الذي ما يذكر إلا يذكر الوفاء. وقد حاولت جاهداً من قبل وصف وفاء سلمان في أكثر من مقال، وبالطبع عجزت، كما يعجز كل من يحاول سبر غور وفاء سلمان، معلّم الناس الوفاء. فاكتفيت في مقال سابق نشر بجريدة الجزيرة، الخميس 23 /5 /1434ه، الموافق 4 /4 /2013م، العدد 14798، ص 28، بالتأكيد على أن سلمان أوفى من الوفاء، وإن كنت على يقين تام أيضاً أن هذا لا يكفي للتعبير عن حقيقة وفاء سلمان وما تجيش به نفوسنا تجاهه من حب وتقدير ووفاء وإخلاص، إلا أنه يبقى جهد المقل كما يقولون.
حدثتكم في المقال الذي أشرت إليه بعنوان (سلمان.. أوفى من الوفاء) عن أربعة صور فقط، اقتضتها المناسبة، اخترتها من قائمة طويلة من صور وفاء سلمان، تصلح كل واحدة منها، ليس لمقال منفصل فحسب، بل لمجلد كامل. واليوم أقدم لحديثي عن هذا الفرح الذي أشاعه وجود سلمان بيننا، بخمسة صور:
الصورة الأولى:
تعد هذه الصورة من أكثر صور وفاء سلمان التي تختزنها ذاكرة السعوديين، تلك هي صورته وهو يقبّل رأس أخيه الراحل الكبير، خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز آل سعود، رحمه الله، في روضة خريم، عقب جلسة مجلس الوزراء التي أجيزت فيها ميزانية عام 1434/ 1435ه (2013م) يوم الاثنين 20 /2 /1435ه، الموافق 23 /12 /2013م، تعبيراً عن الاحترام والتقدير وهذا الحب الفيّاض والإخلاص والوفاء، الذي استوطن نفس سلمان الكبيرة وعقله الواسع وقلبه الكبير، الذي ينبض بكل القيم الإسلامية الأصيلة والشيم العربية النبيلة.
والحقيقة، الأمر ليس مقتصراً على تلك المناسبة، إذ أكاد أجزم أن سلمان يفعل الشيء ذاته كلما التقى أخيه الكبير فقيد الجميع عبدالله. وربما تلك الصورة هي فقط التي ظهرت للإعلام.. راجعوا الصحف التي نشرت في اليوم التالي وهي تزيّن صفحاتها الأولى بتلك الصورة الفريدة في مدرسة خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز آل سعود, حفظه الله ورعاه، وإني على يقين أنكم لن تستطيعوا حبس دموعكم. وسوف تدركوا صحة حديثي: كل صورة لوفاء سلمان، ليس أكبر من ألف كلمة فحسب، بل أكبر من مجلد تام كامل.
الصورة الثانية:
هي صورة مركبة من عدة صور، كانت الصحف تحملها إلينا في صفحاتها الأولى طيلة أيام مرض الراحل الكبير الملك عبدالله, رحمه الله, الأخيرة، إذ دأب الملك سلمان على زيارة أخيه يومياً للاطمئنان على صحته، حتى في ظل مشاغله العديدة التي ضاعفها مرض الملك عبدالله وعدم قدرته على العمل. وهنا لا بد أن أشير إلى شيء مهم، يؤكد هذا الوفاء والاحترام المتبادل بين آل سعود عموماً، وأبناء الملك عبدالعزيز خصوصاً، إذ قال الملك سلمان في معرض حديثه عن الملك عبدالله في برنامج وثائقي بثته الفضائيات في اليوم التالي لرحيل الملك عبدالله، إنه كان وفياً لأخيه الملك فهد. ولم يحدث أن وَقَع أمراً باسمه نهائياً طيلة مرض الملك فهد. وقد لاحظنا اليوم أن الملك سلمان أيضاً سار على النهج ذاته، فأصدر حتى الأمر الأخير الذي سبق وفاة الملك عبدالله بيوم واحد، باسم أخيه الملك عبدالله، ولم ينسبه إليه.
الصورة الثالثة:
صورة تاريخية نادرة، تشكل وثيقة مهمة ترسخ وفاء الملك سلمان في الأذهان، حملتها إلينا الفضائيات بعيد ترجل الفارس عبدالله وامتطاء الفارس سلمان صهوة الجواد، وهي تؤكد مدى الحزن المؤلم حقاً الذي يعتصر قلب الملك سلمان، وهو ينعي للشعب والأمة والعالم، رحيل أخيه الملك عبدالله، إذ يقول: (… بقلوب مؤمنة بقضاء الله وقدره، ومليئة بالحزن والأسى، أتوجه إلى الشعب السعودي الوفي والأمة العربية والإسلامية بالعزاء في فقيد الأمة الغالي خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله، رحمه الله… ) وقد رأينا كلنا صدق ذلك الحزن وفداحة الأسى الذي كان يرتسم على وجه خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان، فأشفقنا عليه، حتى مع إدراكنا قوة إيمانه ويقينه بربه، وقدرته على الصبر والجلد، لأننا خبرناه من قبل في أكثر من فاجعة مؤلمة مرت به، فوجدناه دائماً كما عهدناه: مؤمناً صادقاً قوياً، رابط الجأش، قوي العزيمة.
والعجيب الغريب الذي لم استطع أن استوعبه حقاً، هو أن السواد الأعظم من دول العالم الثالث، لاسيما في عالمنا العربي، يعيش اليوم حروباً أهلية دائمة بسبب التكالب على السلطة والاستئثار بالثروة، والأمثلة أكثر من أن تحصى، في الوقت الذي يعتصر الحزن والأسى عندنا قلب من تأتيه السلطة مختالة تجرجر أذيالها عند رحيل سلفه. عودوا بالذاكرة قليلاً إلى صورة الملك سلمان وهو يغالب الدمع أثناء نعيه أخيه الملك عبدالله.. أسأل الله سبحانه أن يهدي أولئك الذين يتقاتلون اليوم في أكثر من بلاد من عالمنا العربي، فحولوا بلدانهم إلى مليشيات متناحرة غيّبت معنى الدولة، أن يتأملوا هذه الصورة في حياة سلمان.. فلربما خجلوا من أنفسهم وعادوا إلى رشدهم، وجنبوا بلدانهم وشعوبهم كل تلك الويلات والدمار.
الصورة الرابعة:
هي أيضاً صورة مركبة، تماماً كالصورة الثانية، حملت إلينا ملامح الحزن والأسى الذي علا محيا الملك سلمان وهو يؤدي صلاة الجنازة على أخيه الراحل الملك عبدالله، ويفاجئ آلات التصوير هذه المرة أيضاً عندما رافق جثمان أخيه إلى المقبرة في سيارة الإسعاف، وحمل نعشه مع أبنائه وأحفاده، وكان أول من هال التراب على قبره، ثم يعود إلى قصر الحكم مساء اليوم نفسه، مع مايعتصر قلبه من أسى وألم، فيستقبل جموع المعزين والمبايعين الذين تدفقوا كالطوفان، في يوم استثنائي في تاريخ السعودية، يعانق فيه الحزن الفرح في مشهد مهيب. فقد عرفنا العالم منذ بزوغ فجر دولتنا الأولى على يد الإمام محمد بن سعود، أننا أمة قوية بالله، قادرة به على تجديد أفراحها في يوم أحزانها، ولعمرى تلك بصمة سعودية خالصة، أدهشت العالم على مر التاريخ، كما أدهشه ملوك السعودية الذين يودعون أسلافهم بالحزن والأسى والدموع والألم الذي يعتصر القلوب، مع أن رحيل السلف يتيح المجال، حسب دستور البلاد ونظامها، للخلف تولي سدة الحكم، فأي وفاء وأي احترام وأي تقدير وأي نعمة تلك التي منّ الله بها علينا، فضمنت لنا استقرار بلادنا وتلاحم شعبها النبيل مع قادته الأوفياء المخلصين، ومن ثم استمرار مسيرة الخير القاصدة إلى الأبد إن شاء الله .
الصورة الخامسة:
هي أيضاً صورة مركبة من عدة صور، غير أنها تختلف عنهما في أنها صورة حسية مدهشة، ففي اللحظة التي صعدت فيها روح فقيدنا الغالي الملك عبدالله، لملم سلمان أحزانه وخاطب الشعب والأمة معزياً ومطمئناً على استمرار مسيرة الخير القاصدة، مؤكداً أن في العرين أسوداً تستمد العون من الله، ثم من الشعب المخلص الوفي، للمضي قدماً على خطى المؤسس: (.. أيها الإخوة والأبناء المواطنون والمواطنات: إنني وقد شاء الله أن أحمل الأمانة العظمى، أتوجه إليه سبحانه مبتهلاً أن يمدني بعونه وتوفيقه، وأسأله أن يرينا الحق حقاً وأن يرزقنا اتباعه، وأن يرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه. وسنظل بحول الله وقوته متمسكين بالنهج القويم الذي سارت عليه هذه الدولة منذ تأسيسها على يد الملك المؤسس عبدالعزيز، رحمه الله، وعلى أيدي أبنائه من بعده، رحمهم الله. ولن نحيد عنه أبداً، فدستورنا هو كتاب الله تعالى وسنّة نبيه صلى الله عليه وسلم…).
ساعتئذٍ تهللت أسارير السعوديين والسعوديات، واعتلت محياهم موجة فرح عارمة، حتى في حضرة الحزن والأسى والألم الذي تركه رحيل الفقيد الكبير الملك عبدالله، وتلك هي اللحظة التي أشرت فيها إلى قدرة السعوديين على تجديد أفراحهم في يوم أحزانهم. لقد ضمن لنا الملك سلمان بن عبدالعزيز استقرار الحكم في بلادنا، فلا فراغ دستوري، ولا طوارئ ولا لجان أممية أو محلية، ولا مشاورات في غرف مظلمة ولا محاصصة أو ترضيات من أي نوع، كما يحدث اليوم في أكثر من بلاد حولنا، ظلت لسنين ولجانها تنفض لتجتمع من جديد للاتفاق على رئيس للدولة أو للحكومة أو حتى لوزارة من الوزارات، بغض النظر عن الكفاءة المهنية المطلوبة.
ثم يفاجئ الملك سلمان المفاجأة ويدهش الدهشة، فيصدر ستة أوامر ملكية كريمة في اليوم ذاته الذي ترجل فيه الفارس عبدالله، واعتلى الفارس سلمان صهوة الجواد، تضمنت تعيين صاحب السمو الملكي الأمير مقرن بن عبدالعزيز آل سعود ولياً للعهد، نائباً لرئيس مجلس الوزراء، وتعيين صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن نايف بن عبدالعزيز ولياً لولي العهد، نائباً ثانياً لرئس مجلس الوزراء، مع استمراره وزيراً للداخلية، وتعيين صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان بن عبدالعزيز وزيراً للدفاع، رئيساً للديوان الملكي. ثم أردف تلك القرارات بعد ستة أيام فقط، بأربعة وثلاثين قراراً ملكياً كريماً، أعادت تشكيل مجلس الوزراء ودمجت وزارتي التعليم العالي والتربية والتعليم في وزارة واحدة، وتعيين أمراء مناطق، إضافة إلى إلغاء عدد من اللجان والمجالس العليا، وإنشاء مجلس للشؤون السياسية والأمنية وآخر للشؤون الاقتصادية والتنمية. ودفقت في الوطن الغالي على قلب سلمان، مائة وعشرة مليارات ريال لمساعدة الناس ودعم مشروعات تنموية عاجلة، فكانت تلك علامة فارقة، ليس في الحكم السعودي فحسب، بل في الحكم في العالم كله. ففي الوقت الذي ينتظر فيه المراقبون في بلد كأمريكا نفسها، التي هي أعظم دولة في العالم اليوم، مرور مائة يوم ليبدوا رأيهم في قرارات الرئيس الجديد، أدهش سلمان العالم بسبعة قرارات في كل يوم من أيام حكمه السبعة الأولى.. فأروني أي حاكم في العالم حقق هذا غير سلمان الإداري المحنك؟! فإن كان أول الغيث قطرة، فقطرة سلمان غيثاً يحمل البشرى ويطمئن النفوس الوجلة.
وأنا أتابع تلك الحزمة المدهشة من الأوامر الملكية الكريمة، وأراقب أداء مليكنا المفدى خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز آل سعود، حفظه الله ورعاه في أسبوعه الأول، تداعت إلى ذهني صور عديدة، أبرزها حديث المؤسس الباني الملك عبدالعزيز آل سعود لبروكلمان: (إذا وفق الله أولادي، كما وفقني، فسوف يتولون مقدرات مائة مليون مسلم) في إشارة لإيمانه العميق باستمرارية الملحمة التي قادها وعالمية رسالتها، حتى إن اضطر هو إلى الاكتفاء بما حققه جيله. إضافة إلى رواية عجيبة لطيفة، رواها الأستاذ عبدالله نور عن الأميرة حصة بنت أحمد السديري، أم فهد ووالدة الملك سلمان وإخوته البررة الكرام، مفاد الرواية أن الأميرة حصة, رحمها الله، كانت تضطلع بدور تربوي مهم، يرفد جهد المؤسس في تربية أبنائه وإعدادهم لتحمل المسؤولية، إذ كانت تدرك أنها تربي ملوكاً يجب أن يصل إليهم الحكم بعد أبيهم عن جدارة وكفاية، لا عن ميراث فحسب. وها هو سلمان اليوم يحقق أمنية والديه بكفاءة منقطعة النظير، مثلما فعل إخوته الذين سبقوه لتولي الحكم، بل يزيد على ما فعلوه، فيرسم استقرار المملكة إلى عقود قادمة إن شاء الله، منذ اللحظة الأولى التى اعتلى فيها سدة الحكم، متمثلاً رد والده على أمين الريحاني:
نبني كما كانت أوائلنا
تبني ونفعل فوق ما فعلوا
ويدهش أولئك المرجفين، المثبطين، الشامتين المخذلين، الذين جحظت أعينهم فرحاً يوم رحيل المؤسس، واثقين أن عقد دولة عبدالعزيز سوف ينفرط بعد رحيل مؤسسها. فرد عليهم الملك سلمان اليوم بالعمل: موتوا بغيظكم.. هذه مسيرة مباركة لأنها صاحبة رسالة خالدة، وسوف يكتب الله لها التوفيق إلى الأبد إن شاء سبحانه وتعالى، لصدق نيتها وسمو هدفها ونبل مقصدها.
أجل.. جاء خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز لسدة الحكم، حاملاً في ذهنه إرث ما بدأه موحد الجزيرة الوالد المؤسس الباني، من تطبيق واعٍ للشريعة الإسلامية الحقة المتوازنة الشاملة، وصيانة العقيدة الإسلامية ونشرها بأثرها العظيم وقيمها الحقة ومبادئها العادلة.
أجل.. جاء الملك سلمان وهو يدرك تماماً أن كل المراهنين على زعزعة استقرار دولتنا وضعف ولاء المواطنين لبلدهم خاسرون لا محالة، لأنهم يجهلون أن ركائز هذه الدولة الفتية مشتركة مع قيم الأفراد، وأنها قامت على سواعد أجدادهم بقيادة المؤسس، فحققوا الوحدة وحافظوا عليها في بلد صالح بقيادة صالحة، تحكم بشرع الله وتقيم العدل وتحفظ الحقوق.
أجل.. جاء سلمان الإداري المحنك، المثقف الواعي، الصحفي، الأديب، المؤرخ، قدوة التكافل والتكامل الاجتماعي بين المسلمين، سلمان.. رجل المواقف؛ نبع الحكمة، يمين العطاء والكرم، عنوان السماحة والمروءة ويد الخير، الذي يعد باتفاق المؤرخين، أشبه الناس بوالده المؤسس الملك عبدالعزيز في كثير من الخصائص القيادية والذاتية والخلقية والأخلاقية، إذ أخذ عنه تدينه وحب الخير وحب العائلة والإخلاص للعقيدة والوطن، إضافة إلى الشجاعة والصبر عند الملمات والمعرفة بالأنساب وقبائل الجزيرة العربية وأصولها وفروعها، والحرص على استشارة أهل الخبرة والمعرفة، وعدم التسرع في اتخاذ القرار إلا بعد التثبت والاطمئنان لما يحققه من عدل ويجلبه من خير ويدفعه من ظلم. وصدق أحمد غزاوي، شاعر الملك عبدالعزيز، إذ يقول عن شبه سلمان بوالده المؤسس:
وأقسم الناس من بدو ومن حضر
بأنك الصورة المثلى وتجريد
أجل.. هذا هو سلمان صاحب القدرة الإدارية الفذة، والمعرفة الحضارية الحقيقية والثقافة العامة الشاملة، التي قل أن يمتلكها رجل مثله في موقعه اليوم.. أمين سر العائلة ورئيس مجلسها والمستشار الشخصي لملوك المملكة، صاحب الحس الحضاري الاستثنائي الذي نقل الدرعية من ركام الإطلال الطينية إلى رحاب قائمة التراث العالمية، فسبق بذلك منظمة اليونسكو في إدراكه لأهمية الدرعية قبل ثلاثة عقود.
أجل.. هذا هو خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز، الذي تبارى الشعراء والكتاب والأدباء والمؤرخون في وصفه، حتى جف مداد أقلامهم دون أن يحصوا أوصاف رجل بهمته وشخصيته المبهرة. ومن أبدع ما قرأت من وصف الشعراء لسلمان.. دوحة الإحسان (سمو الوفاء.. ووفاء السمو) كما وصفه الراحل الكبير (سلطان الخير) قصيدة رائعة للشاعر عبدالله بن سعود الدويش من أهالي الزلفي، نشرت بجريدة الجزيرة، الثلاثاء 17 /12 /1431ه، الموافق 23 /11 /2010م، العدد 13935، ص 54، جاء فيها:
سلمان كيف أقول فيك مدائحي
بل كيف أكتب للملا أشعارا
والناس تعلم عن شمائلك التي
غطت بحمد إلهنا الأمصارا
فلأنت صاحب حكمةٍ أصغى له
سمع الزمان وبثَّها إذ سارا
سلمان لاسمك في القلوب مكانةٌ
جمعت مع الحب العظيم دثارا
سلمان كيف لقافيتي الثناء وقد
عجز القصيد عن المديح وحارا
فلأنت مَن أولى اليتيم رعايةً
وبنى لمن يخشى التشرد دارا
وسموت نحو المجد شأنك واضح
فسمى بك المجد العظيم وطارا
فلقد حباك الله منه شمائلا
ومضى الزمان يعدها إكبارا
فبك المكارم تنتشي مزهوّةً
إذ أبصرتْ في مقلتيك شعارا
ولقد تشرفت البلاد بشخصكم
إذ أدركت بقدومكم أوطارا
فالحمد لله حمد الشاكرين، الذي جعل فينا قائداً فذاً وبطلاً هماماً، يحمل الراية سائراً بنا على خطى المؤسس الباني في أداء رسالة بلادنا الغالية وأهلها الأوفياء، واختار من بيننا رجالاً شهد لهم الجميع بالكفاءة والاقتدار، لمساعدته في تحمل المسؤولية، فهذا ولي عهده الأمين وساعده الأيمن الذي لا يلين، صاحب السمو الملكي الأمير مقرن بن عبدالعزيز، الذي يكفيه فخراً ووصفاً ماقاله فيه أخوه الملك سلمان بن عبد العزيز، في حفل جائزة حائل للإبداع والتفوق لعامها الأول بمدينة حائل، يوم كان صاحب السمو الملكي الأمير مقرن بن عبدالعزيز أميراً لمنطقة حائل، في 27|11|1419ه، الموافق 15|3|1998م: (أخي العزيز مقرن بن عبدالعزيز، كما دعوتموني لحضور المناسبة وتشريفي بهذا الشرف، فأنت، ولا شك، عزيز عليّ، أخاً عزيزاً كريماً، توسمت فيه النجابة من صغره، ومنطقته ومدينته عزيزة عليّ، وأهلها أعز). إضافة إلى ماجادت به قريحة الأستاذ عبدالرحمن بن سليمان الرويشد في قصيدته التي نشرت بجريدة الجزيرة، الجمعة 11 /6 /1435ه، الموافق 11 /4 /2014م، العدد 15170، ص 21، التي جاء فيها:
وما مقرن إلا أزاهر وردة
يلونها مع طالع الفجر أذّن
كريم المساعي صادق في حديثه
طليق المحيا خيرة الناس محسن
تقلد شارات الجنود مبكراً
وحلّق في الأجواء نسر مثمن
يدك عباب الجو في ظرف لحظةٍ
بطائرةٍ من صنع من كان يتقن
وولي ولي عهده، صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن نايف بن عبدالعزيز، وزير الداخلية، الذي ورث عن نايف الفطنة والذكاء، واليقظة والشجاعة والعين الساهرة التي تحرس منجزات الوطن وتضمن للناس الأمن والاستقرار؛ واختار لحراسة العرين نجله البار محمد بن سلمان بن عبدالعزيز، تلميذه المخلص النجيب، السائر على دربه في صدق العزيمة وقوة الشكيمة. وطعّم مجلس حكومته بقيادات شابة مشهود لها بالكفاءة والولاء والقدرة على تحمل المسؤولية.
ورحم الله فقيدنا الغالي، عبدالله بن عبدالعزيز، الذي لم يدخر وسعاً لخدمتنا وعزّة بلادنا ورفعة أمتنا وخير الإنسانية، فأبكى رحيله العالم أجمع الذي توافد إلى عاصمة الخير لتقديم واجب العزاء، بمن فيهم الرئيس الأمريكي، الذي تجاوز بروتوكولات بلاده، فكان أول رئيس أمريكي يذهب بنفسه لتقديم واجب العزاء خارج بلاده على امتداد تاريخ أمريكا الذي شهد أربعة وأربعين رئيساً. وشهد برنامج الأغذية العالمي بإنسانية فقيدنا وزعامته، كما جاء في نعي مديرته التنفيذية إرثارين كازين: (… كان الملك عبدالله زعيماً إنسانياً حقيقياً، يقف دائماً بجانب الجياع والفقراء في العالم، كان بإمكاننا الاعتماد على سخاء الملك في أصعب اللحظات عندما كنا نناضل من أجل إنقاذ الأرواح وإطعام الفارين من الصراعات أو الكوارث الطبيعية …). وعقدت الأمم المتحدة جلسة خاصة يوم الاثنين 13|4|1436ه، الموافق 2|2|2015م، لتأبينه، معددة مآثره وإنجازاته ويد الخير التي ساهم بها لإطعام الجياع ورفع الضر عنهم، والدعوة للسلام والحوار والتآلف والتآزر والتعايش بالحسنى، مؤكدة أنها تلقت أكبر دعم في تاريخها من لدنه، خمسمائة مليون دولار أمريكي. وأعلنت دول كثيرة في العالم الحداد عليه، ونكّست أعلامها.
وبعد:
صحيح.. كان عبدالله بن عبدالعزيز هذا كله وغيره كثير من خصال الخير وخدمة العقيدة والشعب وحماية الوطن والحرص على نفع الناس أجمعين.. فأدهش حسن صنيعه الدهشة وفاجأ المفاجأة، كما أكدت سابقاً في أكثر من مقال. وأؤكد لكم اليوم أنكم سوف ترون من خلفه، خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز آل سعود، حفظه الله ورعاه، أعمالاً وإنجازات تفوق الخيال، وتعجز كل اللغات عن وصفها وحصرها.. فالحكم عندنا رسالة خالدة، يضيف إليها كل خلف، مزيداً من العمل والخدمة والتجويد، كما شهد العالم لكل الملوك السابقين، عليهم رحمة الله أجمعين.
فاللهم أحفظ مليكنا خادم الحرمين الشريفين عبدك سلمان بن عبدالعزيز، ومتعه بالصحة والعافية، ومد في عمره لننهل من معينه ونحظى بما تهيئه لنا على يديه من خير، ووفق ولي عهده الأمين وولي ولي عهده وحكومته الرشيدة، لخدمة الدين والمليك والشعب والوطن والأمة والإنسانية كلها.. اللهم آمين.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.