أكثرنا يردد هذا البيت : ولست أرى السعادة جمع مال .. ولكن التقي هو السعيد نستدل به على أن السعادة ليست في جمع المال بل في تقوى الله .. إلا أننا في أعماقنا نعتقد أن السعادة في المال فأغلب أحلامنا متوقفة على عدم وجود المال الكافي لتحقيقها . المال قوة تستطيع به أن تقلب وتغير موازين كثيرة كما تريدها أنت .. فإذا اجتمع المال وحب الدنيا والشهوات والفردية والأنانية ..فلا شك أن قلب الموازين لا يكون إلا ظلما وجورا لآخرين .. فبالمال تستطيع أن تفعل ما تشاء إلا النهاية الحتمية لذلك الفساد وهي الفناء الكامل لكل ما بنيته من ظلم وتعسف وعبث بنهر الحياة الطبيعي..فالمسألة مجرد وقت ليس غير . تشيع في الغرب الآن صيحات وتنادٍ لمن يتبرع بنصف ثروته حيث بدأ بهذه الفكرة أحد أغنى أغنياء العالم بيل جيتس فأنشأ مؤسسة خيرية لمساعدة الفقراء في كل أنحاء العالم .. وشمل تبرعه أيضا الأطفال والمرضى وكذلك التعليم والخدمات ومازال يتوسع في مؤسسته الخيرية ثم تبعه رجل الأعمال الأمريكي وارن بافيت رابع أغني أغنياء العالم ثم تبعهم ما يقارب 100 ملياردير وكلهم تبرعوا بنصف ثرواتهم منهم : " غوردن مور وهو أحد مؤسسي شركة (أنتل) و تيد ترنر مؤسس المحطة الإخبارية العالمية سي إن إن . ولاري إليسونوهو أحد مؤسسي شركة البرمجيات العملاقة (أوراكل) والمخرج الأمريكي الشهير جورج لوكاس وهو مخرج فيلم حرب النجوم (Star Wars) " وبدأت تترسخ لدى الغرب فكرة مضمونها : أن هناك استهجانا واستقباحا يصل لدرجة الاحتقار والازدراء لكل ملياردير لا يقدم على التبرع بأقل من نصف ثروته وربما أنها ستصبح إحدى القيم الغربية بعد ربع قرن أو نصفه ولا مكان لأي ثري لا يرسخ تلك القيمة الإنسانية السامية . وفي الحقيقة أن كل ريال ينقص من ثروة الملياردير أيّ ملياردير هو نقص في قوته وخسارة لمكانته وأبهته وسلطانه فالمال سلطان جبّار .. فكيف يفرط هؤلاء في أموالهم مصدر قوتهم وسيطرتهم وتحكمهم ؟! أليس ذلك غباء ؟ هل أصحاب الملايين من العالم العربي هم أذكى من هؤلاء ؟ لأنهم لم يفرطوا في قوتهم وسيطرتهم . يبدو أن الجواب نعم للوهلة الأولى لكن هؤلاء الذين تبرعوا بنصف ثرواتهم غلب عليهم الجانب الإنساني والرقي الحضاري والأخلاقي فتخلوا عن نصف قوتهم ومقدراتهم في سبيل تلك القيمة الإنسانية لمساعدة المرضى والفقراء والأطفال المشردين ومن ألهبتهم الحروب بسوطها والمجاعات بمأساتها .. إنهم يفعلون ذلك لأنهم يتحررون من عبودية المال .. تعس عبد الدرهم تعس عبد الدينار . إن أصحاب الملايين من بني جلدتنا هم موتى لا يمتلكون الجانب الإنساني وبتعبير أدق : إنهم عبيد المال وعبيد الشهوة المفرطة لدرجة أنهم لا يريدون أن يتبرعوا حتى بما يسد رمق البؤساء من أهلهم ودمهم وفي أوطانهم . نعم إنهم يترفهون في كل بقاع العالم ويستمتعون بكل مباهج الدنيا لكنهم لا يعرفون أن أكبر لذة في الحياة هي أن تمسح دمعة طفل يتيم وأن تسد رمق فقير بائس لفظته الحياة على شواطئها معدما لا يفترش إلا الأرض ولا يلتحف إلا السماء . إنهم يعيشون بدون قيم ولا أخلاقيات ولا إنسانيات ..فماذا بقي للبشر إذا افتقدوا كل هذه المعاني ؟ إن أمثال هؤلاء لا ينبغي أن تنظر إليهم الشعوب ولا أن تذكرهم لأنهم بالفعل غير موجودين في الحياة بالأساس .. إن الإسلام عندما بزغ نوره من أرض العرب رسّخ القيم الإنسانية السائدة وكان متمما لمكارم الأخلاق لأنها روح الحياة وماؤها في ظل جفاف وقحط أطماع الإنسان .