الحياة ليست ذات وجه واحد .. وجمالها وسحرها في تنوعها واختلافها وحتى الصراع فيها هو أجمل ما فيها بل هو الشعلة التي تتوقد بين جزئياتها لتخلق كل جميل وكل إبداع وكل ما من شأنه أن يضفي عليها أوراقها الخضراء ورائحتها الفاتنة . حياة بدون هذا التنوع وبدون صراع أخلاقي هي حياة رتيبة مملة غير صادقة .. لقد قالها فولتير : "إنني أختلف معك في كل كلمة تقولها لكنني سأدافع حتى الموت عن حقك في أن تقول ما تريد " إن تربية المواطنين في أية بلد على الاتفاق وحثهم عليه والدعاية له عبر وسائل الإعلام هو مبدأ فاشل يرتد نصله وسهامه كل مرة على الحياة نفسها ويفسدها بل ويلغي تلك الموهبة التي منحها الله للبشر ويعطل جمال الحياة ويشوه رونقها بمثالية زائفة يشعر بها الجميع ولا يتحدث عنها . لا نلوم السياسي في محاولته تسخير كل الوسائل والأدوات من البشر وغير البشر في سبيل أن يحقق رؤيته السياسية وهذا أمر من حقه لكن ليس على المثقف والأديب والصحفي والعالم أن يصبح جزءا من تلك الأدوات والوسائل نفسها التي يستخدمها السياسي . فهم بهذا الصنيع قضوا عليه وساعدوه على ما هو مضاد ومناف للحياة نفسها وكرسوا تلك المعادلة التي هي سبب كل ما يقرب ويسرع بفساد الوطن بالكامل . لذلك لا غرابة أن نجد السياسي في عالمنا العربي هو من يحدد العالم والأديب والمثقف ويضفي عليه اللقب ويغدق عليه بكل شيء حتى يطويه تحت إبطه سواء أكان عالما حقيقيا أم مجرد دمية صنعت لغرض وهدف معين وستنتهي بنهاية ذلك الغرض والهدف . العلماء والأدباء والمثقفون هم لبنة صلبة وركن مكين لأي وطن ولا يعني هذا أننا لسنا بحاجة إلى السياسي ودهائه ومخاتلاته لمصلحة الوطن فالسياسة هي فن قائم بذاته وموهبة ربانية غير مكتسبة في كل ضروبها وفنونها .. والوطن بحاجة للثنتين للسياسيين من جهة وللعلماء والمثقفين والأدباء ومن لف لفهم من جهة أخرى .. وللمعلومية : أغلب العلماء لا يصلحون للسياسة فهذا إينشتاين رفض رئاسة إسرائيل عندما عرضت عليه .. وهذا مصطفى محمود رفض منصبا فاخرا عرضه عليه السادات فقال : أنا فشلت في إدارة أسرتي الصغيرة فكيف سأنجح في إدارة هذا المنصب ؟ لكن يجب أن يُقيّم ذلك السياسي من كل ألوان الطيف الفكري من المجتمع وأن يكون تحت المحاسبة والمساءلة الأدبية أقل شيء احتراما لمكانته ومسؤلياته الجسيمة . إننا نرى في عالمنا العربي اتفاقا هو شبه الماء للماء بين السياسي والعالم والمثقف .. وكل يؤيد الآخر حتى وإن كان الشعب مدهوشا ومندهشا فاغرا فاه مما يرى فلا هو مصدق حسب الواقع ولا هو مكذب كون أهم ركيزتين قد اتفقتا عليه في رؤية واضحة الخطأ كالشمس في رابعة النهار . إنها مأساة تلك الشعوب العربية التي اتفق عليها من يفترض فيهم أن يقودوا تلك الشعوب إلى بر الأمان وإلى حياة كريمة ملؤها التنوع والجمال والعيش السعيد ولن نقول : العيش الرغيد . قد أصدمكم بوجهة نظري لو قلت لكم : إن العلماء الحقيقيين والمثقفين الحقيقيين في العالم العربي لا يعرفهم أكثرنا إن لم يكن كلنا وإن أكثر من تسمعونهم وترونهم هم صناعة سياسية بامتياز هيئت لهم كل الظروف ليكونوا قدركم والعرابين لحياة أعتقد أنكم لا تختلفون في وصفها بالبؤس والسذاجة والجهل وهذه الصفات هي من ألد خصوم العلماء الحقيقيين والمثقفين الحقيقيين . فإذا كنتم تريدون علما وفقها ونورا فابحثوا عنهم وخذوا منهم فهم يتوارون في الحياة خوفا وخشية من قول الحقيقة بل هم مسجونون في الحياة وليس بالضرورة أن يكون ذلك السجن سجنا مقفل الأبواب . لا يمكن أن تنهض الأمم من غير الاختلاف والتنوع ومن يحاول الضغط على الجميع للاتفاق في كل شيء حسب هواه ومزاجه فإنه سيصل لنتيجة مفادها : أمة مسخ ضعيفة وعرضة لأن تتخطفها الأمم بسبب ممارسة التعسف والتجهيل وسيصل في آخر الأمر أن يطلب مساعدة الأمم الأخرى لإنقاذه وإنقاذ شعبه أو يترك هذا الشعب ضحية ويفر بجلده .. يا له من جهل قاتل وفردية تضيع كل شيء في نهاية المطاف !