موقف ميتروفيتش من مواجهة مانشستر سيتي    حقيقة تعاقد النصر مع جيسوس    نيوم يعلق على تقارير مفاوضاته لضم إمام عاشور ووسام أبو علي    رابطة العالم الإسلامي تُدين العنف ضد المدنيين في غزة واعتداءات المستوطنين على كفر مالك    رئيسة الحكومة ووزير الصحة بتونس يستقبلان الرئيس التنفيذي للصندوق السعودي للتنمية    لجنة كرة القدم المُصغَّرة بمنطقة جازان تقيم حفل انطلاق برامجها    ليلة حماسية من الرياض: نزالات "سماك داون" تشعل الأجواء بحضور جماهيري كبير    عقبة المحمدية تستضيف الجولة الأولى من بطولة السعودية تويوتا صعود الهضبة    "الحازمي" مشرفًا عامًا على مكتب المدير العام ومتحدثًا رسميًا لتعليم جازان    «سلمان للإغاثة» يوزّع (3,000) كرتون من التمر في مديرية القاهرة بتعز    فعاليات ( لمة فرح 2 ) من البركة الخيرية تحتفي بالناجحين    في حالة نادرة.. ولادة لأحد سلالات الضأن لسبعة توائم    دراسة: الصوم قبل الجراحة عديم الفائدة    ضبط شخص في تبوك لترويجه (66) كجم "حشيش" و(1) كيلوجرام "كوكايين"    أمير الشرقية يقدم التعازي لأسرة البسام    نجاح أول عملية باستخدام تقنية الارتجاع الهيدروستاتيكي لطفل بتبوك    صحف عالمية: الهلال يصنع التاريخ في كأس العالم للأندية 2025    مقتل 18 سائحًا من أسرة واحدة غرقًا بعد فيضان نهر سوات بباكستان    الهلال يحقق مجموعة من الأرقام القياسية في مونديال الأندية    إمام وخطيب المسجد النبوي: تقوى الله أعظم زاد، وشهر المحرم موسم عظيم للعبادة    12 جهة تدرس تعزيز الكفاءة والمواءمة والتكامل للزراعة بالمنطقة الشرقية    الشيخ صالح بن حميد: النعم تُحفظ بالشكر وتضيع بالجحود    تمديد مبادرة إلغاء الغرامات والإعفاء من العقوبات المالية عن المكلفين حتى 31 ديسمبر 2025م    بلدية فرسان تكرم الاعلامي "الحُمق"    مدير جوازات الرياض يقلد «آل عادي» رتبته الجديدة «رائد»    استشهاد 22 فلسطينيًا في قصف الاحتلال الإسرائيلي على قطاع غزة    وزارة الرياضة تحقق نسبة 100% في بطاقة الأداء لكفاءة الطاقة لعامي 2023 -2024    رئاسة الشؤون الدينية تُطلق خطة موسم العمرة لعام 1447ه    ثورة أدب    أخلاقيات متجذرة    القبض على وافدين اعتديا على امرأة في الرياض    استمتع بالطبيعة.. وتقيد بالشروط    د. علي الدّفاع.. عبقري الرياضيات    في إلهامات الرؤية الوطنية    البدء بتطبيق"التأمينات الاجتماعية" على الرياضيين السعوديين ابتداءً من الشهر المقبل    نائب أمير جازان يستقبل رئيس محكمة الاستئناف بالمنطقة    الأمير تركي الفيصل : عام جديد    تدخل طبي عاجل ينقذ حياة سبعيني بمستشفى الرس العام    مفوض الإفتاء بمنطقة جازان يشارك في افتتاح المؤتمر العلمي الثاني    محافظ صبيا يرأس اجتماع المجلس المحلي، ويناقش تحسين الخدمات والمشاريع التنموية    لوحات تستلهم جمال الطبيعة الصينية لفنان صيني بمعرض بالرياض واميرات سعوديات يثنين    ترامب يحث الكونغرس على "قتل" إذاعة (صوت أمريكا)    تحسن أسعار النفط والذهب    حامد مطاوع..رئيس تحرير الندوة في عصرها الذهبي..    تخريج أول دفعة من "برنامج التصحيح اللغوي"    عسير.. وجهة سياحة أولى للسعوديين والمقيمين    أسرة الزواوي تستقبل التعازي في فقيدتهم مريم    الإطاحة ب15 مخالفاً لتهريبهم مخدرات    وزير الداخلية يعزي الشريف في وفاة والدته    الخارجية الإيرانية: منشآتنا النووية تعرضت لأضرار جسيمة    تصاعد المعارك بين الجيش و«الدعم».. السودان.. مناطق إستراتيجية تتحول لبؤر اشتباك    غروسي: عودة المفتشين لمنشآت إيران النووية ضرورية    استشاري: المورينجا لا تعالج الضغط ولا الكوليسترول    "التخصصات الصحية": إعلان نتائج برامج البورد السعودي    أمير تبوك يستقبل مدير فرع وزارة الصحة بالمنطقة والمدير التنفيذي لهيئة الصحة العامة بالقطاع الشمالي    من أعلام جازان.. الشيخ الدكتور علي بن محمد عطيف    أقوى كاميرا تكتشف الكون    الهيئة الملكية تطلق حملة "مكة إرث حي" لإبراز القيمة الحضارية والتاريخية للعاصمة المقدسة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الحج.. توحيد وتحقيق للتقوى
نشر في تواصل يوم 20 - 10 - 2012

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين..
وبعد:
فلا أعلم ركناً من أركان الإسلام جاء مفصَّلاً في القرآن كما هو في "الحج"، علماً أنه الركن الخامس في الإسلام، ولا يجب في العمر إلا مرة واحدة، بل هو أيسرها من حيث الوجوب وسقوط التكليف-قلَّ أن تجد مسلماً إلا أدى الزكاة أو الصدقة ولو مرة في العمر-، فكثير من المسلمين على مرّ العصور لم يستطيعوا إليه سبيلاً، ولو تأملنا في العصر الحاضر لوجدنا أنّ أقل من 0.2% من تِعداد المسلمين يؤدون الحج كل عام.
لهذا؛ نحتاج إلى وقفة تأمل لماذا هذه العناية العظمى بالحج والعمرة من حيث التفصيل الذي لا تجده في بقية أركان الإسلام سوى الشهادتين، فالصلاة والزكاة وردتا أكثر من الحج في القرآن لكن بشكل إجمالي دون تفصيل، حيث عنيت السنة بتفصيل ذلك، والصوم جاء في آيات محدودة في سورة البقرة، مع تفصيل يسير.
أما الحج فكان وروده في القرآن في عدة سور مع تفصيل ظاهر، مع ما جاء في السنة من بيان وتفصيل قولي وعملي.
كل هذا كان من أسباب الوقوف مع بعض آيات الحج سعياً إلى تحقيق هذا الركن على الوجه الأكمل، حيث إن العمل يتوقف على العلم، والتدبر من أعظم أبواب العلم ومسالكه، وقد قال ربنا: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاه إلَيْكَ مبَارَكٌ لِّيَدَّبَّروا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أوْلوا الأَلْبَابِ} [ص: 29]، فجعل التذكر بعد التدبر، وإن كانت الواو لا تقتضي تعقيباً ولا ترتيباً، لكن دلالة السياق والواقع تؤكد ذلك والله أعلم.
ولما كان المقام لا يتسع للحديث عن سائر آيات الحج في مثل هذا المقام، ولو مع اختصار وإخلال، رأيت أن أقتصر هنا على آيتين في مبادئ هذا الشأن، ولن أقف معهما من حيث الدلالة الفقهية والأحكام التفصيلية، وإنما سأركز على القضايا الإيمانية والعقدية والتربوية والسلوكية والأخلاقية، ومن الله أستمد العون والتوفيق.
قال الله عز وجل: {وَإذْ قَالَ إبْرَاهِيم رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وَاجْنبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبدَ الأَصْنَامَ} [إبراهيم: 35].
{وَاجْنبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبدَ الأَصْنَامَ}:
كان هذا هو دعاء إبراهيم عليه السلام عندما بنى البيت وسأل ربه أن يجعل هذا البلد آمناً، ففي سورة البقرة وإبراهيم وإسماعيل عليهما السلام يرفعان القواعد من البيت، كان من دعائهما {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذرِّيَّتِنَا أمَّةً مسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتبْ عَلَيْنَا إنَّكَ أَنتَ التَّوَّاب الرَّحِيم} [البقرة: 128]، ثم عقب الله على ذلك بقوله سبحانه: {وَمَن يَرْغَب عَن مِّلَّةِ إبْرَاهِيمَ إلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَه} [البقرة:130]، وهل ملة إبراهيم إلا التوحيد الخالص، حيث قال سبحانه: {ثمَّ أَوْحَيْنَا إلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمشْرِكِينَ} [النحل: 123].
والمتأمل للآيات الواردة في البيت يلحظ الاقتران والتلازم بين بناء البيت والتوحيد، وكذلك نجد آيات القصد للبيت العتيق تؤكد هذه الحقيقة، فانظر إلى سورة الحج، حيث أمر الله إبراهيم عليه السلام بأن يؤذن في الناس بالحج {وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتوكَ رِجَالاً وَعَلَى كلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} [الحج: 27]، ثم عقب ذلك بآية عظيمة فيها الوصية بتعظيم حرمات الله، وأن أعظمها هو التوحيد، حيث لا يليق الشرك بهذا البيت، وما بني لذلك، تأمل قوله سبحانه: {ذَلِكَ وَمَن يعَظِّمْ حرمَاتِ اللَّهِ فَهوَ خَيْرٌ لَّه عِندَ رَبِّهِ وَأحِلَّتْ لَكم الأَنْعَام إلاَّ مَا يتْلَى عَلَيْكمْ فَاجْتَنِبوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبوا قَوْلَ الزورِ. حنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مشْرِكِينَ بِهِ وَمَن يشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفه الطَّيْر أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيح فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ. ذَلِكَ وَمَن يعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإنَّهَا مِن تَقْوَى الْقلوبِ} [الحج: 30-32].
فاجتناب الأوثان مقتضاه توحيد الله في عبادته، وأكد ذلك في الآية التي بعدها {حنَفَاءَ لِلَّهِ} أي موحدين، بل زاد تأكيداً وبياناً {غَيْرَ مشْرِكِينَ بِهِ}، ولم يكتفِ بذلك، بل بيَّن عاقبة من يخالف هذا الأصل العظيم وهو التوحيد {وَمَن يشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفه الطَّيْر أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيح فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ}، ثم عظم ذلك وجلاه بقوله {ذَلِكَ وَمَن يعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإنَّهَا مِن تَقْوَى الْقلوبِ}، وأي شعيرة أعظم من التوحيد.
إن هذا البيت والأمن والرزق والحج؛ كله لعبادة الله، وأس ذلك توحيده سبحانه، لذا لما غيَّر كفار العرب في التلبية، وأدخلوا فيها الشرك، كان عقاب الله لهم أليماً وشديداً كما في سورة النحل {وَضَرَبَ اللَّه مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقهَا رَغَداً مِّن كلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّه لِبَاسَ الْجوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانوا يَصْنَعونَ} [النحل: 112].
بل إن التهديد كان واضحاً في سورة الحج {وَمَن يشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفه الطَّيْر أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيح فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} [الحج: 31].
وصرف العبادة لغير الله مضاد للتوحيد الخالص، تأمل دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: «تعس عبد الدرهم، تعس عبد الدينار، تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتثش»، وتأمّل قول الله سبحانه: {وَمَا أمِروا إلاَّ لِيَعْبدوا اللَّهَ مخْلِصِينَ لَه الدِّينَ حنَفَاءَ وَيقِيموا الصَّلاةَ وَيؤْتوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِين الْقَيِّمَةِ} [البينة: 5]، وقد فسر النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث عدي بن حاتم، طاعة المخلوقين بالعبادة.
لذا؛ فعلى الحاج والمعتمر أن يتأمل في هذا المقصد العظيم، وهو تحقيق التوحيد والحذر من صرف أي نوع من العبادة لغير الله، فالرياء شرك أصغر، فكم من حاج حجّ ليقال: الحاج فلان؟
والتعلق بالأحجار والمشاهد قد يدخل صاحبه في الشرك فيحبط عمله، ولهذا كان عمر رضي الله عنه يستحضر هذا المعنى العظيم وهو يقبّل الحجر الأسود، فيقول محققاً للتوحيد والمتابعة، وقاطعاً لأي تعلّق قلبي به "إني أعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك" [متفق عليه].
إن ما نراه من بعض الحجاج والمعتمرين أصلحهم الله من تمسّح ببعض المشاهد والأحجار مما لم يرد به نص من الشارع، ودعاء وتوسل بالأموات، وألفاظ في بعض المشاعر؛ كل ذلك يتعارض مع ما شرعه الله من إقامة التوحيد وإخلاص العبادة لله، والحذر من صرف أي نوع من العبادة لغيره.
إن مقتضى التلبية التي تصاحب الحاج من أول نسكه إلى رمي جمرة العقبة، وتكرار تلك التلبية؛ يوجب الحذر من الوقوع فيما يضاد هذه التلبية، ويذكره باستصحاب هذا الأصل العظيم في كل مراحل حجه وعمرته؛ لتكون خالصة من الشوائب منسجمة مع آيات الحج وبناء البيت {وَاجْنبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبدَ الأَصْنَامَ}، {حنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مشْرِكِينَ بِهِ}، {فَاجْتَنِبوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبوا قَوْلَ الزورِ}.. إن استصحاب هذه الآيات وتدبر معانيها، والوقوف عند حدود الله في كل مناسكنا؛ يجعل عملنا أحرى للقبول من الله لخلوصه وصفائه، فالله غني عن الشرك مهما صغر في عين صاحبه كما في الحديث القدسي الصحيح: «أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري، تركته وشركه».
والحديث عن التوحيد وآية إبراهيم السابقة يقودونا للحديث عن آية أخرى متعلقة بها هي من تمام التوحيد الواجب أو المستحب وهي قوله:
{وَتَزَوَّدوا فَإنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} [البقرة: 197].
الذي يطيل النظر في آيات الحج ويتدبر تلك المعاني والمقاصد التي وردت فيها، لا يخالجه شك بأن من أبرز مقاصد الحج تحقيق التقوى، حيث جاء الأمر بها والحث عليها وربط قبول العمل على تحقيقها بصور متنوعة وأساليب متعددة، ما يؤكد منزلتها وأثرها في حياة المسلم عموماً، والحاج خصوصاً.
لنقف مع بعض المواضع والآيات التي وردَ فيها الأمر بالتقوى أو الحثّ عليها أو الإشارة إليها:
ففي آية الأمر بإتمام الحج والعمرة {وَأَتِموا الْحَجَّ وَالْعمْرَةَ لِلَّهِ} ختم الله الآية بقوله {وَاتَّقوا اللَّهَ وَاعْلَموا أَنَّ اللَّهَ شَدِيد الْعِقَابِ} [البقرة: 196]، وفي الآية التي بعدها {الْحَج أَشْهرٌ مَّعْلومَاتٌ} ختمت الآية بقوله سبحانه {وَتَزَوَّدوا فَإنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} وأكد ذلك بقوله {وَاتَّقونِ يَا أوْلِي الأَلْبَابِ} [البقرة: 197]، ثم ختم آيات الحج في سورة البقرة بقوله: {وَمَن تَأَخَّرَ فَلا إثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقوا اللَّهَ وَاعْلَموا أَنَّكمْ إلَيْهِ تحْشَرونَ} [البقرة: 203].. فتأمل تكرار التقوى في كل آية.
وفي المائدة ختم أحكام الصيد بقوله: {وَحرِّمَ عَلَيْكمْ صَيْد الْبَرِّ مَا دمْتمْ حرماً وَاتَّقوا اللَّهَ الَّذِي إلَيْهِ تحْشَرونَ} [المائدة: 96]، وافتتح سورة الحج بقوله: {يَا أَيهَا النَّاس اتَّقوا رَبَّكمْ إنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ} [الحج: 1]، ولما بدأ بالحديث عن الحج تكرر ذكر التقوى {ذَلِكَ وَمَن يعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإنَّهَا مِن تَقْوَى الْقلوبِ} [الحج: 32]، {لَن يَنَالَ اللَّهَ لحومهَا وَلا دِمَاؤهَا وَلَكِن يَنَاله التَّقْوَى مِنكمْ} [الحج: 37].
ومن هنا سنقف أمام هذا التركيز على تحقيق التقوى لنستخرج منه بعض الدروس والعبر، ومنها:
1 – التقوى عمل قلبي "تظهر آثاره على الجوارح":
ونظراً لكثرة المشاهد المحسوسة في الحج فقد ينشغل الحاج عن إصلاح باطنه وقلبه بتلك الأعمال والمشاهد التي لا بد أن يقوم بها حتى يتم نسكه، فجاء التركيز على التقوى ليعلم أن هذه المشاهد ليست مرادة لذاتها، كما صرح بآية الحج {لَن يَنَالَ اللَّهَ لحومهَا وَلا دِمَاؤهَا وَلَكِن يَنَاله التَّقْوَى مِنكمْ} [الحج: 37]. وعندما ذكر التعجل والتأخر في الحج أيام منى ذكر التقوى {وَمَن تَأَخَّرَ فَلا إثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقوا اللَّهَ وَاعْلَموا أَنَّكمْ إلَيْهِ تحْشَرونَ} [البقرة: 203]، حيث ينشغل الناس عادة بالاستعداد للرحيل، ما يضعف عند بعضهم تحقيق التقوى ومراعاة هذه المقاصد عند اتخاذ قرار التعجيل أو التأجيل.
2 – أركان الإسلام ارتبطت بالتقوى والتزكية، فهي وسيلة لا غاية:
{وَلَكِن يَنَاله التَّقْوَى مِنكمْ} [الحج: 37]، {خذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تطَهِّرهمْ وَتزَكِّيهِم بِهَا} [التوبة: 103]، {يَا أَيهَا الَّذِينَ آمَنوا كتِبَ عَلَيْكم الصِّيَام كَمَا كتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكمْ لَعَلَّكمْ تَتَّقونَ} [البقرة: 183]، {قَدْ أَفْلَحَ الْمؤْمِنونَ. الَّذِينَ همْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعونَ} [المؤمنون: 1 - 2]، ولذلك قال في الحج {الْحَج أَشْهرٌ مَّعْلومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فسوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْه اللَّه وَتَزَوَّدوا فَإنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقونِ يَا أوْلِي الأَلْبَابِ} [البقرة: 197]. ومن دون التقوى لن تتحقق هذه الأعمال على وجهها الصحيح، فجاء التركيز على التقوى ليتربى المسلم على ذلك في الحج وبعده، تدبر قوله سبحانه: {ذَلِكَ وَمَن يعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإنَّهَا مِن تَقْوَى الْقلوبِ} [الحج: 32]، وتعظيم شعائر الله ليس خاصاً بالحج والعمرة.
3 – أخي الحاج.. طالما قرأنا كلمة التقوى في القرآن، حيث وردت مئات المرات، وكذلك في السنة، وعلى ألسنة العلماء والدعاة، فما حقيقة التقوى؟
اختلفت عبارات العلماء في بيان معناها [جامع العلوم والحكم لابن رجب، ص112]، لكن تكاد تتفق على حقيقتها ومآلاتها؟ فهناك من جعل التقوى الوصول لدرجة الإحسان كما في حديث جبريل: «أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك» [متفق عليه من حديث أبي هريرة، صحيح البخاري (50)، ومسلم (9)].
وقيل: هي أن تجعل بينك وبين عذاب الله وقاية. وقيل: هي الخوف من الجليل، والعمل بالتنزيل، والقناعة بالقليل، والاستعداد ليوم الرحيل.
وسأل عمرٌ أبّي بن كعب رضي الله عنهما عن التقوى..
فقال: يا أمير المؤمنين: أما سلكت طريقاً ذا شوك؟
قال: بلى.
قال أبّي: فماذا صنعت؟
قال عمر: شمرت واجتهدت.
قال أبّي: فذلك التقوى.
فجاء ابن المعتز وترجم هذا المعنى بقوله:
خلّ الذنوب صغيرها *** وكبيرها ذاك التقى
واصنع كماشٍ فوق أرض *** الشوك يحذر ما يَرى
لا تحقرنّ صغيرة *** إن الجبال من الحصى
والمهم أخي الحاج أن تستشعر هذه المعاني وأنت تؤدي مناسك حجك وعمرتك، وذلك بمراقبة الله في سِرّك وعلانيتك:
إذا ما خلوتَ الدهر يوماً فلا تقل *** خلوت ولكن قل عليّ رقيب
فلا تحسبنّ الله يغفل ساعة *** ولا أن ما تخفي عليه يغيب
4 – هناك من يفهم قول النبي صلى الله عليه وسلم: «التقوى ههنا»[كما في حديث مسلم (2564)] ويشير إلى صدره، أن التقوى في القلب فحسب، ولا علاقة للأعمال الظاهرة بها، وهذا فهم خاطئ، فالتقوى محلها القلب، لكن ثمرتها في الظاهر والباطن، فإذا لم تتوافق أعمال الظاهر مع الباطن لم تتحقق التقوى وإن زعم صاحبها ذلك.
وعند التأمل في آيات الحج {فَلا رَفَثَ وَلا فسوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة: 197]، وهذه أعمال ظاهرة بِيّنة؛ نجده ختمها بقوله {وَاتَّقونِ يَا أوْلِي الأَلْبَابِ} [البقرة: 197]، وسبقها {وَتَزَوَّدوا فَإنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى}، ما يؤكد أنه دون التقوى لن يسلم الحاج من الجدل والرفث والفسوق، بل إن الآية التي {وَأَتِموا الْحَجَّ وَالْعمْرَةَ لِلَّهِ} تبيّن حكم من اضطر إلى الإخلال بهذا الإتمام كالإحصار، وحلق الرأس بسبب الأذى وهو محرم، حيث بيّن جزاء ذلك من الهدي والفدية، والبديل لذلك، وحيث إن هذه الأعمال الظاهرة لا يمكن تحقيق أدائها إلا إذا كان صاحبها مراقباً لله في سره وعلانيته، وختم الآية بالأمر بالتقوى {وَاتَّقوا اللَّهَ}، ثم هدد من لم يراعِ جانب التقوى بقوله: {وَاعْلَموا أَنَّ اللَّهَ شَدِيد الْعِقَابِ} [البقرة: 196].
بل إن التعجل في الحج والتأجل عمل ظاهر، ومع ذلك قيد ذلك بقوله {لِمَنِ اتَّقَى}، ثم أمر بالتقوى في ختام هذه الآية {وَاعْلَموا أَنَّكمْ إلَيْهِ تحْشَرونَ} [البقرة: 203]. ونجد أن نحر الهدي عمل ظاهر بارز، ومع ذلك جعل مدار قبول الدماء على تحقق التقوى {لَن يَنَالَ اللَّهَ لحومهَا وَلا دِمَاؤهَا وَلَكِن يَنَاله التَّقْوَى مِنكمْ} [الحج: 37].
ولو تأملنا في كثير من الآيات التي وردت فيها التقوى لاتضح لنا أنها تعقب أعمالاً ظاهرة، ما يؤكد التلازم بين عمل الظاهر والباطن، وأي تقصير في أحدهما هو قصور في الآخر.
وبهذا يتضح لنا خطأ فهم كثير من المسلمين عندما تنصحه بمخالفة السنة في هديه الظاهر وتقول له اتقِ الله، فيرد عليك بقوله «التقوى ههنا» ويشير إلى قلبه؟ لو صدق مع الله لعلم أن تحقق التقوى في القلب كما يزعم يستلزم ظهور ذلك على جوارحه كما كان صلى الله عليه وسلم الذي أشار إلى صدره [كما في حديث مسلم (2564)].


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.